ترينيداد و توباجو ونظرة للمسلمين هناك
(1)
نعلم أن ظاهرة الأقليات الإسلامية في العصر الحديث نمت مع تصاعد الهجرة من البلاد الإسلامية إلى مختلف أقطار الأرض خلال العقد الأول من القرن العشرين، بينما برزت هذه الظاهرةُ على نطاق واسع مع نشوء الدول الحديثة في العديد من المناطق التي كانت تقع تحت حكم المسلمين، إلى أن قررت القوى الاستعمارية الأوروبية إعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية لهذه المناطق، بحيث يتضاءل نفوذ المسلمين ويتقلّص حضورهم ليصبحوا أقليةً في المجتمعات التي كانوا يحكمونها إلى عهود قريبة.
ومع نموّ حركة الهجرة من العالم الإسلامي إلى شتى الأصقاع نشأت ظاهرة الأقليات الإسلامية لأول مرة تقريباً في تاريخ الإسلام، حيث وصل المسلمون إلى هذه الأقطار يحملون ثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم ليجدوا أنفسهم وسط مجتمعات لها أديانُها ولغاتها وثقافاتها، ولها أنماط العيش وأساليب الحياة الخاصة بها والتي تختلف عما عاشوا في كنفه في بلدانهم الأصلية.
واليوم نواصل رحلتنا في دول الكاريبي ونضع رحالنا في دولة لم يسمع الكثير عنها إلا من سمع مباريات كأس العالم لأنها كانت إحدى الدول المشاركة فيه, ألا وهي ترينيداد و توباجو.
ترينيداد كلمة أسبانية معناها "الثالوث المقدس" وقد أطلقت أسبانيا عليها هذا الاسم لوجود ثلاثة تلال كبيرة تحيط بهذه الجزيرة, ولكن علماء الإسلام هناك يشيرون إلى أن "الثالوث المقدس" تعبير عن تعايش أتباع الديانات السماوية الثلاثة في ترينيداد, وهناك من يقول إن الهنود الحمر هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم لوجود ثلاثة أجناس هم الهنود الحمر والأفارقة والهنود, ومهما تعددت الروايات والمسوغات فإن ترينيداد تضم ثلاث جنسيات وثلاثة أديان وثلاث تلال.
جمهورية ترينيداد و توباجو هي دولة من دول جنوب البحر الكاريبي، على بعد 11 كم من الساحل الشمالي الشرقي لجمهورية فينزويلا. تعتبر ترينيداد و توباجو أرخبيل مكون من جزيرتين رئيستين هما ترينيداد، أكبر جزر ترينيداد وتوباجو، وتوباجو، بالإضافة إلى 21 جزيرة صغيرة أخرى.
تقع ترينيداد و توباجو أمام مصب نهر أورينكو أهم أنهار فنزويلا، وعلى حافة اللقاء المحيطي بين البحر الكاريبي والمحيط الأطلنطي، وتبعد جزيرة توباجو عن جزيرة ترينيداد بحوالي 32 كم نحو الشمال, ويحدها من الشرق مياه المحيط الأطلنطي ومن الغرب فنزويلا ومن الجنوب جويانا وسورينام وجيانا, ولكن الجزيرة تكاد تلتصق بالشاطئ الشرقي لفنزويلا وتقع في شمالها جزيرة "توباجو" والجزيرتان تتكون منهما جمهورية واحدة.
واكتشف كولومبوس هذه الجزر في 1498م واحتلتها اسبانيا في 1533م ومن ثم آلت إلى بريطانيا في 1797م التي بقيت تحكمها حتى الاستقلال في 1962م.
عاصمتها مدينة "بورت أوف اسبين" أي "الميناء الأسباني" وقد تم اكتشافها بمعرفة "كريستوفر كولمبس". وتبلغ مساحة هذه الدولة 5128كم2 إذ تبلغ مساحة جزيرة ترينيداد وحدها 4828كم2 بينما تشغل جزيرة توباجو وبعض الجزر الأخرى 300كم2 فقط.
أما عدد سكانها فيبلغ 1.757.000 نسمة, والسكان خليط من الهنود الحمر والأفارقة والهنود بينما يبلغ عدد المسلمين 430 ألف نسمة, حيث أن نسبتهم تصل 10% من مجمل عدد السكان في هذه الدولة.
ويعود معظم المسلمين فيها إلى الأفارقة بنسبة 45% الذين استقدموا كعبيد للعمل في الزراعة والمناجم، وإلى الآسيويين بنسبة 46% الذين استقدمتهم بريطانيا من شبه القارة الهندية.
يتكون سكان ترينيداد من عدة عناصر، فالأفريقيين يشكلون حوالي نصف سكان البلاد 43% ولقد وصلت العناصر الأفريقية إلى ترينيداد أيام تجارة الرقيق، وسخرت هذه العناصر في زراعة حاصلات المناطق الحارة، ويشكل الهنود الآسيويون والصينيون نسبة عالية بين سكان ترينيداد تصل إلى 41% وجاءوا كعمال سخرة جلبتهم بريطانيا لاستغلالهم في الزراعة بعد إلغاء تجارة الرقيق، والأقليات الباقية من سكان ترينيداد تتكون من خليط من البريطانيين، والفرنسيين، والبرتغاليين، والأسبان، ولقد وصلت إلى الجزر هجرات عربية من لبنان وسوريا ويشكلون 11%.
ومن أهم الديانات الموجودة المسيحية وهي الديانة الرسمية وتمثل 53.4%, تليها الهندوسية وتبلغ نسبتها 34.6%, ثم الإسلام وتمثل 12% من جملة السكان. ويتحدث السكان هناك عدة لغات أهمها الإنجليزية وهي اللغة الرسمية, والهندية والفرنسية والأسبانية والصينية.
وإذا أمعنا النظر في أمريكا الجنوبية نجد أن المسلمين إما بأعداد كبيرة ونسب صغيرة في الدول الكبيرة في المساحة وعدد السكان, أو نجدهم بنسب كبيرة وأعداد قليلة كما في ترينيداد وتوباجو, والغالبية منهم غيرعربية.
عرفت ترينيداد وتوباجو الإسلام من وقت مبكر قبل اكتشافها في عام 1533 ميلادية حيث قام مسلمون من غرب القارة الإفريقية برحلات مبكّرة عبر بحر الظلمات ـ المحيط الأطلنطي ـ لاكتشاف العالم الجديد وقد عثر الأسبان هناك على العديد من الآثار الإسلامية المتمثلة في المساجد التي عُثر بداخلها على مكتبات تضم المصاحف الشريفة وبعض كتب الفقه الإسلامي ـ على المذهب المالكي ـ المنتشر في غرب القارة الإفريقية إلا أن الوجود الإسلامي هناك قد تلاشى وتلاشت معه هذه الآثار الإسلامية.
و تؤكد الحقائق التاريخية أنه عندما احتلت أسبانيا ترينيداد وقامت بنقل عدد لا بأس به من الأفارقة وبالتحديد من السنغال وجوارها وذلك للعمل بالجزيرة وكانت غالبيتهم من المسلمين الذين دعموا الوجود الإسلامي وكان ذلك في النصف الثاني للقرن الثامن عشر1777م، واختلطوا بسكان البلاد وقامت بينهم علاقات تزاوج ومصاهرة مما أدى إلى اعتناق عدد كبير منهم للدين الإسلامي الحنيف حتى وصلوا في مطلع القرن التاسع عشر إلى عشرين ألف مسلم. وحسب الروايات المحلية فقد كان أولئك المسلمون يقرأون ويكتبون العربية، وكانوا يتبعون زعيما لهم اسمه "محمد بطح" الذي اشترى عبوديته وفاز بحريته.
وقد تمكّن المسلمون الروّاد من إنشاء بعض المساجد الصغيرة، وقد بُنيت هذه المساجد وفقاً للعمارة الإسلامية البسيطة عن طريق استخدام التكنولوجيا المحلية المتوافرة في ترينيداد.
ولكن الموجة الكبرى من المسلمين جاءت إلى الجزيرتين عندما احتلت بريطانيا جزيرة ترينيداد, ثم تم إلغاء العبودية في 1834م، حيث اعتمدت السلطات والشركات البريطانية على مستعمراتها في شبه القارة الهندية لاستقدام العمال للعمل في المزارع والمناجم. وفي الواقع أتى الكثير من أبناء شبه القارة الهندية، سواء من المسلمين أو الهندوس، حتى أنهم يشكلون الآن حوالي ثلث السكان في ترينيداد وتوباجو وبذلك زادت أعداد المسلمين في ترينيداد وتوباجو وبرزت معالم الهوية الإسلامية في البلاد.