مستقبل حوار المسيحية والاسلام.. التوحيد منطلقاً
يوسف الهادي
التوحيد
يقرر عالم الفرعونيات الشهر واليس بدج في كتابه الديانة الفرعونية، حقيقة مدعمة بالبراهين الاركيولوجية عن التوحيد. وسننقل نص كلامه لأهميته الفائقة ولتفنيده الكثير من الآراء التي تربط فكرة التوحيد إما بالعبرانيين، اذ يقال مثلاً «ان العبرانيين قد محنوا العالم فكرة التحيد او الاعتقاد بإله واحد»(4). او ان يقال ان اخناتون هو اول من دعا لعبادة الإله الواحد، او ان يقال انه أول موحد و«يعتقد ان موسى أخذ فكرة التوحيد عنه». وهو الرأي الذي يلاحظ عليه الباحث المعروف ميرسيا إلياد ما يلي:
«يجب مبدئياً التأكيد على ان العبارة المستعملة من قبل اخناتون في صلاته (الإله الاحد ـ لا إله إلاّ هو) كانت مطبقة قبل ذلك، قبل الف عام من العمارنة، الآمون ورع وآتوم والآلهة الاخرى. وأضافة لذلك وكما لاحظ جون ويهن كان يوجد على الاقل إلاهان (ربّان) لأن اخناتون كان نفسه معبوداً كما لو انه إله معبود. وان صلوات المؤمنين (أي الجماعة المحصورة بالموظفين وأعيان القصر) كانت توجه ليس لآتون، وانما مباشرة لأخناتون. ويعلن الفرعون في صلاته الشهيرة ان آتون هو الهه الخاص: (انت في قلبي ولا احد آخر يعرفك باستثناء ولدك أخناتون ـ وانك كشفت الاسرار في تصميماتك وقدرتك). وهذا ما يفسر زوال (الآتونية) بشكل خاطف تقريباً بعد موت أخناتون».
اخناتون لا يختلف اذن عن غيره من الفراعنة الذي دعوا الناس الى عبادتهم هم. ولم ينف الشرك كما يُزعم حين يقال انه اول الموحدين الذي وجّه العبادة نحو إله واحد.
لنطلع على حقيقة الامر من واليس بدج الذي يقول:
«حين يدرس القارىء نصوص الديانة المصرية، تحصل لديه القناعة بان المصريين قوم كانوا يؤمنون بـ(اله واحد) موجود بذاته، خالد، غير مرئي، أبدي، عليم، قدير، لا يحيط به عقل، خالق السماوات والارض والعالم الاسفل (= الآخرة)، خالق السماء والبحر، والرجال والنساء، والحيوان والطير، والسمك، والزواحف، والشجر والزرع، والكائنات غير الجسدية الذين كانوا رسله، ينفذون مشيئته ويُعملون كلمته، ولقد كان من الضروري ان نضع هذا التعريف الذي يحتل المقام الاول من ايمان المصري في بداية الفصل الاول من هذا المسرد الذي أوجزنا فيه الافكار الدينية الاساسية التي يؤمن بها، لآن كل لاهوته ودينه انما هما مؤسسان عليه. كذلك من الضروري ان نضيف اننا مهما اوغلنا في العمق رجوعاً الى الوراء مقتفين أثر أدبه فربما لا نقترب أبداً من زمان كان فيه المصري بدون هذا الايمان الرائع. صحيح انه ابتدع ايضاً أفكاراً وعقائد تتصف بالشرك، وانه هذبها في حقب معينة من تاريخه باذلاً كل جهد في هذا السبيل، إلاّ ان الامم المحيطة به، بل حتى الغريب الذي يقيم في مصر قد التبست عليه افعال المصري وتصرفاته فوصفها بالوثنية والشرك.
لكن على الرغم من جميع هذه الانحرافات عن العقيدة الصحيحة التي كان التمسك بها مما يلائم من كانوا يؤمنون بالله ووحدانيته، لم تغب فكرته السامية عن الالوهة عن نظره أبداً، فكانت ما تلبث حتى تعود الى الظهور في أدبه الديني الذي انتجه على مرّ العصور. لا أحد يستطيع القول من اين جاءت هذه الخاصية الرائعة التي اختصت بها الديانة المصرية، وما ثمة دليل يثبت لنا صحة النظرية التي تذهب الى انه قد جاء بها قوم هاجروا الى مصر قادمين اليها من الشرق ـ كما قال بذلك البعض ـ ولا صحة النظرية الاخرى التي تذهب الى انها نتاج طبيعي انتجته الاقوام الاصلية الذين كانوا يشكلون سكان وادي النيل لعشرة آلاف سنة خلت ـ على رأي آخرين. كل ما نعلمه انها كانت موجودة هناك في حقبة موغلة في القدم بحيث لا يجدي معها ان نحاول ان نقيس بالسنين تلك الفترة الزمنية التي انقضت منذ ان نشأت هذه العقيدة ورسخت في قلوب الناس وعقولهم. وانه لأمر مشكوك فيه جداً ان نصل الى معرفة محددة تماماً عن هذه النقطة الهامة»(1).
وبعد ان يقدم الاستاذ بدج دليلاً من نص يعود الى أيام الملك يوناس الذي حكم في مصر حوالي 3300 ث.م حيث يرد فيه اسم الجلالة «الله» اضافة الى الحديث عن الآلهة الاخرى مثل «فعظامك آلهة السماء وإلاهاتها وانت تقيم الى جانب الله...» و«حيث يلد الآلهة بعضهم بعضاً ويولد من يلدونه ويجددون شبابهم» يقال عن هذا الملك «تيتا ينتصب في هيئة الكوكب، يزن الكلام (او يجرب الافعال) هو ذا الله يستمع الى ما يقوله» كذلك «حلت عليك هيئة الله، فأصبحت عظيماً امام الآلهة». وعن بيبي الاول الذي حكم في حوالي 3000 ق.م: «ان بيبي هذا هو الله، أو ابن الله».
بعد أن يقدم كل ذلك ينتقل الى مجموعة وصايا قال انها تلقي الضوء على فكرة الله التي تنسب الى حكماء مصر الأوائل. وهي الوصايا المعروفة باسم «وصايا كاقمنا» و«وصايا بتاحتب» التي يرجع تأليفها الى 3000 ق.م إلا ان اقدم نسخة موجودة منها الأن تعود الى 2500 ق.م وكان المراد منها ان تكون عملاً توجيهياً وارشادياً يهتدي بها الشاب اثناء قيامه بواجباته تجاه مجتمعه:
1 ـ يجب ان لا تخيف رجلاً ولا امرأة، فالله يمقت الخوف. ولو قال امرؤ انه يعيش بتلك الوسيلة، لأفقره الله الى الخبز.
2 ـ اما النبيل الذي يملك ثروة طائلة، فليفعل ما يشاء وليفعل بنفسه ما يحلو له. وإذا هو لم يفعل شيئاً على الاطلاق، فهذا ايضاً مما يحلوله. فالنبيل ما ان يبسط يده حتى يطول مالا يطوله غيره. لكنه ان أكل خبزه بأمر الله فلا جناح عليه.
3 ـ ان كان عندك أرض تحرثها. فاعمل في الحقل الذي أعطاكه الله، خير لك من ان تملأ فمك من مال جيرانك.
4 ـ إذا اتضعت في خدمة انسان كامل، فانت محمود السلوك عند الله.
5 ـ ان كنت تريد ان تكون انساناً حكيماً فاجعل ابنك يسرّ الله.
6 ـ سدّ حاجة من يعتمدون عليك ما وسعك ذلك. هكذا يفعل من آثرهم الله (بمحبته).
7 ـ اذا ارتفعت بعد ضعة، واغتنيت بعد فقر، او صرت حاكماً على مدينة، فلا يقسُ قبلك بسبب علوّ شأنك، لأنك قد اصبحت عندئذ حارساً على الاشياء التي أنعم الله بها عليك.
8 ـ ان الله يحب من يطيع، ويمقت من يعصي.
9 ـ الولد الصالح هبة من الله.
ثم قدم بعد ذلك نصاً فيه نفس الفكرة عن الله سبحانه يعود الى عصر الاسرة الثامنة عشرة(1590 ـ 1310ق.م).
وانما اطلنا في النقل عن هذه الفكرة ـ التوحيد ـ لتبيان قدمها لدى المصريين وهم الشعب الذي عاش بنوا اسرائيل في وسطه سنين طويلة واقتبسوا كثيراً من عاداته وافكاره وتقاليده. ولا يخفى ان الظهور المصري للحضارة والمدنية كان سابقاً بقرون عديدة للظهور العبراني على مسرح الاحداث في الشرق القديم. كما انه سابق في الظهور للفرعون اخناتون الذي زُعم انه اول موحد. بل ان لدينا مجموعة من الاسماء للاشخاص والاماكن في بلاد ما بن النهرين تعود الى حوالي 2500 ق.م وقد دخل فيها لفظ الجلالة «الله» وهو ما دافع عنه بحرارة مدعمة بالادلة اللغوية والاركيولوجية الباحث الالماني فردريك ديليتش في كتابه الممتع «بابل والكتاب المقدس». يقول هذا الباحث:
«ان تلك القبائل السامية الشمالية التي نجدها حوالي 2500 ق.م مستقرة في منطقة بابل شمالاً وجنوباً والتي كان الملك حمورابي(1792 ـ 1750 ق.م) اكبر حكامها، تصورت وعبدت الله كائناً روحياً واحداً، ثم سرد قائمة باسماء اشخاص كانت شائعة انذاك التي وصفها بالجمال والاهمية بالنسبة لتاريخ الدين مثل: (ايلو ـ اتيا) وتعني: الله معي وإيلو ـ امتحر: دعوت الى الله. وياربي ـ ايلو: الله كبير. وياملك ـ ايلو: الله الحاكم. وافيل ـ ايلو: عبد الله. وموتوم ـ إيلو: رجل الله. وقد اثبت بما لا يقبل الشك ان ايل (el, ill) تعني الله تماماً وليس ما ذهب اليه احد الباحثين المعترضين على بحثه انها تعني: الهاً من الالهة. إذ لا يمكن عندها ترجمة تلك الاسماء المذكورة آنفاً بـ(الله). وتساءل هل يتغير ايضاً (باب ـ ايلو)(2) (bab - ilu) التي تعني (باب الله) الى (باب إله من الآلهة)؟ واجاب: كلا. ودعم رأيه بالقول ان شعباً لا يتمتع بثقافة فلسفية يسعى دائماً الى تعبير واضح محدد.
وهل ننسى أبا الانبياء ابراهيم (ع) العراقي المولد والنشأة الذي عاش حوالي 1800 ق.م اشهر الموحدين صاحب الشجاعة التي جعلته يحطم بفأسه أصنام المعبد الكبير التي كان يقومه يسجدون لها وهو يعلم ما في ذلك العمل من خطورة على حياته؟
وإذا كان الشرك الذي شاب ديانة التوحيد في مصر أو في بلاد ما بين النهرين يشكل مسوغاً لدى البعض لحذف التوحيد من ديانات القوم، فان الاولى ان تحذف تلك الفكرة لدى دراسة كل الاديان. إذ ان الشرك ما فتأ ينفذ هاهنا وهناك من المعتقدات والاديان وكانت مهمة الانبياء على الدوام التذكير بخطورته وتشخيصه والدعوة الى نبذه وقد توجت جهودهم تلك بدعوة النبي محمد (ص) التوحيدية الخالصة التي شنت حرباً لا هوادة فيها على كل المظاهر الشركية.
ومن المعروف ان التوراة مليئة بالحديث عن الانحراف لدى بني اسرائيل نحو الشرك أو عبادة الاوثان والاصنام، وأمر العجل الذي سبكوه من الذهب وعبدوه لدى غياب نبيهم موسى في فترة المناجات اشهر من ان يشار إليه. وقد شهد القرن الثامن قبل الميلاد أشد فترات التدهور نحو الشرك حيث قاوم دعواته الانبياء هو شع وعاموس وميخا. ويفصل الاستاذ مالك بن نبّي ذلك بقوله «حدث في ذلك العصر أمران هامان: هبوط درجة رب العالمين الى مجرد إله قومي ـ من ناحية ـ ودخول كثير من الشعائر والطقوس الاشورية الكلدانية في العبادة من ناحية اخرى، حتى أصبحت الشمس تتمتع بتقديس حار في بيت المقدس، حيث كان هناك رجال يعبدون الشمس مشرقة، وفي أيديهم غصن، بالقرب من هيكل الرب نفسه». بل ان التوراة تتحدث عما هو أفضع من عبادة الاوثان مما هو مشروح بالتفصيل في سفري الملوك والأخبار إذ تتحدث حتى عن اداء اللواط والزنى في بيت الرب أيضاً. نجد في سفر الملوك الثاني(24: 4 ـ 7) عن الاصلاح الديني الذي قام به الملك اليهودي يوشيا(640 ـ 609 ق.م).
«وأمر الملك حلقيا عظيم الكهنة وكهنة الرتبة الثانية وحراس الاعتاب أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الادوات التى كانت قد صنعت للبعل والعشتاروت ولجميع قوات السماء. فأحرقها في خارج اورشليم في حقول قدرون، وحمل رمادها إلى بيت أيل. وأزال كهنة الاصنام الذين اقامهم ملوك يهوذا ليحرقوا البخور على المشارف في مدن يهوذا وحوالي اورشليم، والذين كانوا يحرقون البخور للبعل والشمس والقمر والابراج ولجميع قوات السماء. واخرج الوتد المقدس من بيت الرب الى خارج اورشليم الى وادي قدرون فأحرقه في وادي قدرون، وسحقه رماداً وذرّى رماده على قبور عامة الشعب. وهدم بيوت المأبونين في بيت الرب، حيث كانت النساء ينسجن ثياباً للعشتاروت».
فنحن هنا أمام تجمع هائل لكل مظاهر الشرك المعروفة في البلاد المجاورة لهم وقد أدخلت بكاملها في الطقوس والتقاليد في بيت الرب نفسه او حواليه.
وهناك عادة اجرامية لم يكن بنو اسرائيل يمارسونها بل جرى تحذيرهم منها على لسان النبي موسى (ع) نفسه وهو يبلغ عن الله. ونعني بها التضحية بالابناء لمولك وهو لقب إله الوثنيين من امونيين وفينيقيين كانوا يقدمون له أولادهم ذبائح يطرحونها عنده في النار، نقرأ في سفر الاحبار(20: 1 ـ 5):
«وكلم الرب موسى قائلاً: قل لبني اسرائيل: أي رجل من بني اسرائيل ومن النزلاء المقيمين في اسرائيل اعطى من نسله لمولك، فليُقتل قتلاً: يرجمه شعب الارض بالحجارة. وانا انقلب على ذلك الرجل وأفصله من وسط شعبه، لأنه اعطى من نسله لمولك فنجس مقدسي ودنس اسمي القدوس. وان تغاضى اهل الارض عن ذلك الرجل في اعطائه من نسله لمولك فلم يقتلوه، انقلبت على ذلك الرجل وعشيرته وفصلتهم من وسط شعبهم، هو وجميع من زنوا معه ليزنوا وراء مولك».
وعلى الرغم من شدة هذا التحريم لم يتورع كثير من ملوك اسرائيل أو الجماهير من تقديم أولادهم أضاحي لمولك ذاك وذلك بإلقائهم في النار. والتضحية بهذا الشكل القاسي انما تبرهن على قوة اعتقادهم ورسوخه بذلك التقليد الوثني، ومع ذلك ـ وهذا ما نريد تأكيده من وراء ايراد هذه النماذج ـ فقد ظل الخط التوحيدي خالداً في الديانة الموسوية وإلى يومنا هذا. حتى انه رغم كل التحريف الذى اصاب التوراة خلال قرون طويلة لم يستطع أحد ان يمس الفقرات المتعددة في شتى ارجاء هذا الكتاب المتعلقة بالتوحيد الخالص لله سبحانه. وظلت قوية الصدى نداءات موسى والانبياء الكرام التوحيدية والى يومنا هذا.