إلى من يهمه الأمر
مفكرة الإسلام: نحن اليوم بصدد عرض قضية من أهم القضايا المطروحة على الساحة الدولية والعالمية, ألا وهي قضية الأقليات الدينية, تلك القضية التي تحتل مساحة كبيرة من اهتمامات المؤسسات العالمية؛ وذلك بهدف توافر الحريات الكاملة لهم في ممارسة شعائر دينهم في حرية وعلنية.
ولاشك أن قضية الأقليات الدينية في العالم قضية سياسية ذات غلاف ديني في المقام الأول, ولابد من تضافر الجهود لمحاولة إصلاح حال الأقليات الدينية؛ حيث إن لها حقًا مشروعًا في الأمن والسلام.
ومن المعروف أن حقوق الأقليات الدينية مصانة تمامًا في الإسلام منذ العصر الإسلامي الأول وحتى يومنا هذا, فلم يسمع عن اعتداءات على الكنائس والمعابد في النطاق الإسلامي, اللهم إلا النزر اليسير, وهي إما ردود أفعال لبعض الممارسات تجاه المسلمين في بعض الدول, أو أنها تهمة إعلامية روّج لها الإعلام الصليبي وألصقها بالمسلمين والله أعلم.
إلا أن الذي لا شك فيه أن الأقليات المسلمة في بعض المجتمعات تعاني إما من هدم مساجدها كما حدث في المسجد 'البابري' في الهند, لا لجريرة ارتكبها المسلمون, ولكن ما هو إلا تنفيس للحقد الهندوسي على المسلمين, أو التهديد بهدم المساجد أو إغلاقها كما حدث في الاتحاد السوفيتي سابقًا, أو الاعتداء على أملاك المسلمين وأرواحهم, أو توافر الحياة لهم في أدنى مستوى معيشي, كما أن هناك مجتمعات متعددة في دول العالم عرف عنها اضطهاد الأقليات المسلمة؛ لا لشيء إلا لأنهم مسلمون.
وأهم ما نودّ أن نصل إليه من كل ما سبق أن هناك واقعًا تعيشه أجزاء كبيرة من الأمة الإسلامية, وربما لا يستشعره غيرها ويتعلق بوجود أقلية مسلمة تعيش في وسط أكثرية غير مسلمة, مثلما هو الحال في المجتمع الغربي وفي أمريكا اللاتينية وفي الجمهوريات الآسيوية والهند وغيرها من مناطق العالم المختلفة, وفي مثل هذه الظروف يحتاج المسلم إلى تأكيد كونه مواطناً كاملاً في تلك الدول.
وللأقليات جذور تمتد في أعماق التاريخ, حيث تشير الحقائق التاريخية إلى أن الدعوة الإسلامية قد عرفت طريقها إلى أوروبا في وقت مبكر من عام 711م, وأصبحت الأندلس قاعدة انطلقت منها تلك الدعوة إلى عمق القارة, ثم تحول البحر المتوسط إلى معبر ينتقل خلاله الإسلام إلى دول العالم الغربي, ثم دخل المسلمون البلقان عام 1355م, وانتشر في جميع أوروبا الشرقية حتى وصل أسوار فيينا عام 1620م, واستمر في أوروبا قرونًا طويلة تاركًا آثارًا ثقافية وحضارية خالدة, وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية شهدت الدول الأوروبية تدفقًا كبيرًا للمسلمين؛ نظرًا لحاجتها الشديدة إليهم في بناء ما دمرته الحرب.
ولا يملك المرء الآن إلا أن يقف حزينًا إزاء الوضع المؤسف الذي يعيشه المسلمون في دول الغرب خاصة, على الرغم من كثرتهم؛ حيث يبلغ تعدادهم قرابة 30 مليونًا, إلا أنهم يعيشون في شقاق وخلاف وصراع, بالإضافة إلى المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية المتعددة التي تحاول القضاء على هويتهم وتمزيق وحدتهم والنيل من عقيدتهم.
ويعتبر الجهل بتعاليم الشريعة الإسلامية من أبرز المشكلات التي يعاني منها كثير من المسلمين في مختلف أنحاء العالم وبخاصة أوروبا, وقد أجمع الكثير من المواطنين المسلمين على أن تغييب الدين الإسلامي, ومنع تدريس المواد الدينية إبان فترة الحكم الشيوعي لهذه البلدان, إضافة إلى بعدها عن العالم الإسلامي - والذي قلّما ينظر بعين الرعاية والاهتمام إلى تلك الأقليات؛ نظرًا لانشغاله بخلافاته الداخلية والتي ألهاه بها الاستعمار الفكري الغربي – وتقصير المسلمين بعد زوال الحكم الشيوعي؛ أسباب رئيسة في المعانة التي يشعرون بها.
ويعد الجهل بالإسلام الذي تعاني منه الأقليات سببه الرئيس الإعلام السلبي وعدم مواجهته بإعلام صحيح قوي, ولعل أهم سبل معالجة هذه المشكلة هو تكثيف المطبوعات والمنشورات والكتب التي تبرز الوجه الحقيقي للإسلام.
وكذلك يجب الاهتمام بمضاعفة جهود المسلمين في مجال إنشاء المراكز الإسلامية وتزويدها بالدعاة والمعلمين الأكفاء.
ولكن الملاحظ أن هناك انفصامًا وتباعدًا بين الأقليات العربية والإسلامية والدول التي تنتمي إليها هذه الأقليات, وكأن هذه الدول قد لفظت أبناءها وتخلصت منهم, فهم مواطنون غير مرغوب فيهم, وكثيرًا ما تشير أصابع الاتهام إلى أنهم 'إرهابيون' تارة, أو مارقون فقدوا الانتماء والهوية تارة أخرى, واستهوتهم الحياة الغربية المنفتحة.
وخلاصة القول: إن هذه الأقليات تعاني من مشكلات كبيرة نضعها هنا بين يدي من يهمه الأمر, فمنها ما يخص المسلمين أنفسهم:
· كأن يتعامل المسلم مع هذا المجتمع على أنه مواطن من الدرجة الثانية, باعتبار استمرار نظره لنفسه كمهاجر أو كمواطن غير مرتبط بشكل أصيل بهذه الدولة.
· عدم ممارسته لجميع حقوقه, والاكتفاء بدفع الضرائب وغيرها, فهو يطبق نصف قاعدة الحقوق والواجبات, فيتنازل طواعية أو عجزًا عن حقوقه, مقابل العيش في سلام لإحساسه بالوحدة بين مسلمي العالم, وعدم استشعار العون والمؤازرة من إخوانه من المسلمين.
· مع نشأة جيل ثانٍ من الأبناء بالذات في الغرب, تنشأ فجوة بينهم وبين ذويهم الذين يعجزون عن مواكبة الصراع النفسي لدى الناشئة, وعلى سبيل المثال من ناحية الجنسية, بمعنى أن الأسرة لو أوضحت لأبنائها الفرق بين حمل الجنسية لبلد ما والانتماء إلى دين الإسلام أي أنه يجب عليه حب الخير لهذا البلد وذلك بهدايته للإسلام مثلما يفعل أي مسلم في أي بلد مسلم في بلاد العرب أو غيرها, فهو يحب الخير له وفق ما تمليه عليه تعاليم الإسلام, وليس لمجرد الحمية لهذا العرق أو ذاك.
ومنها ما يختص بممارسات تلك الدول تجاه الأقليات:
· فهناك دولة تجبر المسلمين على تغيير أسمائهم وحتى أسماء الموتى منهم, وهي بهذا الشكل تؤذي المسلمين وتعاقبهم لمجرد أنهم ينتمون إلى عقيدة دينية مختلفة هي عقيدة الإسلام.
· وفي دول أخرى يُكره المسلم, ويُجبر على ترك عقيدته الإسلامية, أو يضطر لممارسة شعائره الدينية في الخفاء خوفًا من اضطهاد المجتمع الذي يعيش فيه, بل وامتد هذا الأمر إلى الأغلبيات في بعض الدول, مثلما عاش المسلمون الألبان فترة من فترات تاريخهم, حتى أن الأمر وصل بهم لأن يُضطر المسلم لأن يفطر في شهر رمضان؛ حيث إن التعبد جريمة في نظر تلك المجتمعات, وما كانت تلك المهانة والذلة ليحدثان في العهود الزاهرة للإسلام والمسلمين, ولكنها حدثت ويا لخزينا يوم ضاعت هيبتنا في عيون أعدائنا وهنّا عليهم فهان عندهم المستضعفون من المسلمين.
وهكذا فإن سجل اضطهاد الأقليات المسلمة في بعض دول العالم ينوء بما تحمل صفحاته من المآسي والظلم, فبعض الدول تعتبر الأقليات المسلمة كيانات غريبة في نطاق مجتمعاتها, وغير مرغوب في إقامتهم, وتجردهم من حق المواطنة, وتطالبهم بالعودة من حيث أتوا, بل وتطردهم من ديارهم, وتجردهم من أموالهم وممتلكاتهم؛ ليعيشوا في حال لجوء يعانون من العِوز والاحتياج والمرض, وما حدود بعض الدول التي يسكنها اللاجئون من المسلمين منا ببعيدة, على سبيل المثال بنجلاديش وباكستان, ولا نملك لهم سوى بعض البطاطين التي لا تصلح للغطاء في حر الصيف, فما بالنا بصقيع الشتاء وبعض البقايا من الطعام والفتات التي تقذف به أيدي بعض أثرياء المسلمين, إلى جانب بعض الاستنكار وقليل من الدموع المنهمرة ممن لا حول لهم ولا قوة, ولهم الله مستضعفو المسلمين.
هذا, وقد ازدادت التحديات التي تواجه هذه الأقليات في الآونة الأخيرة؛ حيث اعتبر الإسلام كمنظومة فكرية بديلة تواجه الفكر الغربي بعد سقوط الشيوعية؛ ما أدى إلى ملاحقة المسلمين ومحاربتهم في أرزاقهم, وفرض القيود على تمثيلهم في المجالس النيابية لممارسة حقوقهم الانتخابية.
وفي الحقيقة فإن الأقليات الإسلامية في العالم الغربي محاصرة بكم هائل من وسائل الإعلام الحديثة, التي تقدم دومًا كل ما هو منافٍ لأخلاق وتعاليم ديننا الحنيف.
وفي الوقت الذي تلهث فيه هذه الأقليات جاهدة لتحقيق شخصيتها الثقافية والتمسك بمرجعيتها العقدية فإنها تواجه عقبات كثيرة كعدم توافر المدارس واختلاف نظم التعليم في الغرب, حتى إن الأغلبية العظمى من أبناء تلك الأقليات لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه, وبالتالي قد انقطعت صلتهم بلغتهم الأم.
وهناك أيضًا المنظمات اليهودية والأنشطة التنصيرية, بالإضافة إلى الفرق الضالة التي تدعي الإسلام ظاهرًا وتبطن العداء الشديد له, مثل البهائية والقاديانية وغيرها ممن يقفون حجر عثرة في طريق الدعوة الإسلامية في تلك البلاد.
إن الأمر جد خطير, ويحتاج إلى المزيد من التضحية بكل غالٍ ونفيس, وكذلك وقفة أمينة صادقة خالصة لوجه الله لمعونة هذه الأقليات؛ للحفاظ على هويتها والدفاع عن دينها, ومن ثم استثمارها لتشكل جسورًا تعبر من خلالها الدعوة الإسلامية إلى الملتقى الغربي, ولا سيما أن الإسلام ينتشر بقوته الذاتية في أوروبا والولايات المتحدة بسرعة وقوة تذهل خبراء السياسة والعلاقات الدولية, ولو وجد هذا الدين من يقدمه إلى الرأي العام الغربي بصورته الصحيحة لحدث انقلاب كامل وتغيير لشكل الحياة في هذه المجتمعات.
فهل نأمل أن تتحرك الحكومات والمنظمات الإسلامية لتحيق هذا الأمل بدلاً من مناصبة هذه الأقليات العداء أو العمل على توظيفها لتحقيق الأغراض السياسية لأنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي؟!
وأخيرًا ولأن هذه الأقليات المسلمة من وجهة نظر التاريخ هي ترجمة للمد الإسلامي تاريخيًا وجغرافيًا, فتوزع هذه الأقليات في مناطق متفرقة من العالم هو جزء من الجغرافيات الإسلامية, وتمسّك الأقليات المسلمة بعقيدتها الإسلامية هو ترجمة لتواصل حلقات التاريخ الإسلامي المجيد, فقد رأينا بعين الاهتمام برفعة الإسلام وإعزاز المسلمين أن نسجل كافة جوانب هذه القضية المهمة الخطيرة, ونفتح صفحاتها ونضعها بين يديْ من يهمه الأمر.
والله الموفق إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين, وإلى اللقاء لنكمل مسيرتنا في عرض أحوال أحبابنا من مسلمي الأقليات, فالمسيرة طويلة وتحتاج لتكاتفنا جميعًا.
نقلاً عن موقع مفكرة الإسلام.