طلعت زكي حافظ
تنفس الاقتصاد الأمريكي، وتنفست أسواق المال الأمريكية الصعداء بعد إعلان قرار موافقة مجلس النواب الأمريكي يوم الجمعة الموافق 3 تشرين الأول (أكتوبر) من العام الجاري، بأغلبية 263 صوتا (موافق) مقابل 171 صوتاً (معارض)، على خطة إنقاذ السوق المالية الأمريكية من الأزمة المالية التي تعرضت إليها، كما تفاعلت بقية أسواق المال العالمية مع إعلان الخبر بتسجيلها لمعدلات أداء قوية مقارنة بالمعدلات التي سجلتها، مع بداية انطلاقة شرارة الأزمة وتفاعلات تداعياتها حينما تزايدت حالات عدم قدرة سداد المدينين لمديونيات الرهونات العقارية في شهر شباط (فبراير) 2007، ما تسبب في عمليات إفلاس في مؤسسات مصرفية متخصصة في تمويل الرهونات العقارية.

تجدر الإشارة إلى أن الأزمة المالية التي تعرضت إليها الولايات المتحدة الأمريكية، قد بدأت إرهاصاتها وكما أسلفت بتعدد حالات عدم قدرة المدينين لتسليفات الرهونات العقارية على سداد مديونياتهم، كما أن ضخامة حجم المحفظة الائتمانية الخاصة بذلك النوع من المديونيات على مستوى المصارف الأمريكية، ضاعف من حجم المشكلة وسارع من وتيرتها، وفقما أشار إلى ذلك الكاتب في صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية مارتن وولف نقلا عن "الاقتصادية" العدد 5468، بأن سبب الأزمة المالية التي تعرضت إليها الأسواق المالية الأمريكية، يرجع إلى ارتفاع المخزون الإجمالي للدين العام الأمريكي من 163 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1980 إلى 346 في المائة في عام 2007، مشيراً إلى أن هناك قطاعين كانا مسؤولين عن هذا الارتفاع الكبير في المديونية العامة وهما: قطاع الأسر الذي قفزت مديونيته من 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1980 إلى 80 في المائة في عام 2000، ومن ثم إلى 100 في المائة في عام 2007، والقطاع الآخر هو القطاع المالي، الذي قد قفزت مديونيته من 21 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1980، إلى 83 في المائة في عام 2000، ومن ثم إلى 116 في المائة في عام 2007، الأمر الذي نتج عنه تخمة وتفجر في الميزانيات العمومية للقطاع المالي، وكذلك الربحية النظرية لذلك القطاع.
تبعاً لذلك بدأت إفرازات وتداعيات الأزمة المالية تتفاقم شيئاً فشيئاً ولكن بوتيرة متسارعة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي المعاصر، حيث بدأت البورصات المالية في التدهور أمام اتساع هوة الأزمة، بانخفاض أسعار أسهم عدد من المصارف، وإعلان بنك جي.بي.مورجان تشيز بشراء بنك الأعمال الأمريكي بير ستيرنز بسعر متدن، ووضع مجموعتين فريدي ماك و فاني ماي العملاقتين في مجال تسليفات الرهن العقاري تحت الوصاية، واعتراف بنك الأعمال ليمان براذرز في 15 أيلول (سبتمبر) من العام الجاري بإفلاسه، ومن ثم تأميم الحكومة لأكبر مجموعة للتأمين في العالم (إيه.أي.جي).
تنبه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، لضخامة حجم المشكلة ولعواقبها الوخيمة المحتملة على الاقتصاد الأمريكي، فوجه تبعاً لذلك في 19 أيلول (سبتمبر) 2008، نداء للحكومة الأمريكية بضرورة التحرك لإيجاد حل سريع للأزمة، بإقرار مشروع خطة إنقاذ، تمثلت باختصار شديد في رصد مبلغ 700 مليار دولار لوزارة الخزانة الأمريكية على مراحل من أجل شراء الأصول الرديئة المتمثلة في الديون العقارية، مع إتاحة الخطة لوزارة الخزانة تملك حصص رأسمالية في الشركات التي تندرج تحت البرنامج، كما يجوز للوزارة تعديل شروط القروض الرهن العقاري، التي تمتلكها كي تحول دون مصادرة المنازل من المواطنين، هذا إضافة إلى إتاحة الخطة لوضع قيود على تعويضات المديرين التنفيذيين في الشركات المستفيدة التي تبيع أصولها للوزارة، وكبديل للشراء المباشر للأصول المالية، تتيح الخطة للوزارة المذكورة، بإنشاء برنامج تأمين لضمان القروض العقارية المتعثرة في حوزة البنوك، التي تم شراؤها قبل شهر آذار (مارس) من العام الجاري.
خطة الرئيس الأمريكي بوش المذكورة لم تحظ في البداية لدى تقديمها لأعضاء الكونجرس الأمريكي بالتأييد الكامل، كما أنها لم تحظ كذلك بتأييد عدد كبير من المختصين في شؤون إنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة، وذلك للعديد من الأسباب، التي من بينها على سبيل المثال، أن الخطة مستعجلة ولا تعدو كونها سوى مسكن ومهدئ مؤقت للأزمة وليس حلا كاملا لها من جذورها، وأنها قد تفرض تكاليف مالية مستقبلية باهظة، ستلحق أضراراً بالغة بنمو الاقتصاد الأمريكي مستقبلاً، من خلال تأثير عاملين رئيسيين أولهما: ارتفاع الضرائب، وثانيهما انخفاض الاستهلاك، ولاسيما أن البعض يتوقع أن خطة الإنقاذ تلك قد تكلف الحكومة الأمريكية أضعاف المبلغ المبدئي الذي تم رصده، كما أنها تتعارض مع مبادئ وآليات عمل الاقتصاد الحر، الذي يعتمد على قوى السوق في تحريكه وتحديد اتجاهاته بما في ذلك تحقيق التوازن المنشود له.
المستشار المالي والدولي قحطان السلوم، نقلاً عن صحيفة الفرات السورية العدد 1156، أرجع أسباب حدوث الأزمة، إلى أسباب مباشرة تتعلق بالوضع الاقتصادي والمالي الأمريكي، التي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، تحرير أسواق المال ونزع كل القيود المنظمة لها، مما أدى إلى هجرة جماعية للرساميل إلى الجنات الآسيوية، وما ضاعف من حجم تلك المشكلة، التطور والتوسع الهائلان اللذان حدثا في القطاع المالي والقطاع العقاري بسبب عولمة الأسواق، بحيث أصبح هذان القطاعان يسيطران على النمو الاقتصادي، ويعتمدا بشكل كبير على المضاربة وليس على الاقتصاد الحقيقي، ونتيجة لسيطرة القطاع المالي على النظام الاقتصادي، أصبح النظام الاقتصادي في أسلوب عمله، لا يستند إلى قواعد تنظيمية محددة، إنما إلى "فوضي" أو ما يعرف بقواعد كازينو القمار التي تقوم على مبدأ المخاطرة الكبيرة مقابل تحقيق أرباح كبيرة.

أما بالنسبة للأسباب غير المباشرة، فتتمثل في انشغال الإدارة الأمريكية بالسياسات والهيمنة الخارجية، مما تطلب توظيف الموارد الاقتصادية بما يخدم تلك السياسات، على حساب إهمال المراقبة والمتابعة لأحوال الأوضاع الداخلية والمالية والاقتصادية.
إن السؤال الذي يلوح في الأفق بعد إقرار الخطة، وبالذات في ظل الشكوك التي تحوم حولها، هو: هل ستتمكن من إنقاذ السوق المالية وانتشال الاقتصاد الأمريكي من كارثة اقتصادية محتملة؟
برأيي أن الإجابة عن هذا السؤال، تعتمد على النتائج التي ستتمخض عن التطبيق، هذا إضافة إلى قدرة المشرع الأمريكي على سن المزيد من التنظيمات والقوانين الرقابية الصارمة على عمليات المصارف والمؤسسات المالية والاستثمارية، بما في ذلك تحقيق المزيد من الشفافية والإفصاح عن العمليات والتعاملات المالية التي تتم في داخل أروقتها، والله من وراء القصد.