النتائج 31 إلى 45 من 63
الموضوع: بحر الدموع
- 31-08-2007, 11:16 PM #31
الفصل الحادي عشر
الفصل الحادي عشر
يا من رواحله في طلب الدنيا لها اسراع، متى تحل عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع؟ اذا طلبت الآخرة، تمشي رويدا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبا كيف تشدّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطاع! العمر أمانة أتلفت شبابه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي ونقول: عمري قد ضاع. متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع؟ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع. كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا من يبقى في القاع. يا من على عمره ليل الغفلة طلع الفجر المشيب بين الأضلاع. رافق رفاق التائبين قبل أن تنقطع مع المنقطعين { وما من غائبة في السماء والأرض الا في متاب مبين} النمل 75.
وأنشدوا:
اذا أنا لم أصبر على من أحبه وان حال عن وصلي فما انا صانع
أأتركه والقلب من فرط حبه أسير بما تطوي عليه الأضالع
أأسمع فيه العذل والوجد حاكم فما يغنني بالعذل ما أنا سامع
أأسلوه والشوق يمنع سلوتي وأكتم ما قد أظهرته المدامع
ويعتبني قلبي اذا زاد وجده فأضرب صفحا دونه وأمانع
وان زاد بي أشتكيه فحسبه على كل حال عند شكواي شافع
فلا عشة تصفو ولا موعد يفي ولا نظر يسلي ولا الصبر نافع
أرى الدهر يمضي برهة بعد برهة ولم ألف ما مالت اليه المطامع
فان ضقت ذرعا بالذي قد لقيته فكل مضيق فهو في الحب واسع
قال ذا النون المصري رضي الله عنه: رأيت امرأة متعبدة، فلما دنوت منها، ودنت مني، سلمت عليّ، فرددت عليها السلام، فقالت لي: من أين أقبلت؟ فقلت" من عند حكيم لا يوجد مثله، فصاحت صيحة شديدة، ثم قالت: ويحك كيف وجدت معه وحشة الغربة حتى فارقته، وهو أنيس الغرباء، ومعين الضعفاء، ومولى الموالي؟! أم كيف سمحت نفسك بمفارقته؟.
فأبكاني كلامها. فقالت لي: مم بكاؤك؟ فقلت لها: وقع الدواء على الجرح، فأسرع في نجاحه، فقالت لو كنت صادقا، فلم بكيت؟ فقلت لها: فالصادق لا يبكي؟ قالت: لا. قلت: ولم؟ قالت: لأن البكاء راحة للقلب. وهو نقص عند ذوي العقول.
قلت لها: علميني شيئا ينفعني الله به.
قالت: اخدم مولاك شوقا الى لقائه، فان له يوما يتجلى فيه الى أوليائه، لأنه سبحانه سقاهم في الدنيا من محبته كأسا لا يظمؤون بعدها أبدا.
ثم أقبت تبكي وتقول: الهي وسيدي، الى كم تدعني في دار لا أجد لي فيها أنيسا يساعدني على بلائي، ثم جعلت تقول:
اذا كان داء العبد حب مليكه فمن دونه يرجى طبيبا مداويا
يا أخي، اذا طردك مولاك عن بابه؟ فالى باب من ترجع، والى أي طريق تذهب، والى أي جهة تقصد؟ لازم باب مولاك، فلعل وعسى يثمر عودك.
وأنشدوا:
حنين قلوب العارفين الى الذكر وتذكارهم عن المناجاة بالسر
وأجسامهم في الأرض سكرى بحبه وأرواحهم في ليل حجب العلى تسرى
عباد عليهم رحمة الله أنزلت فظلوا عكوفا في الفيافي وفي القفر
وراعوا نجوم الليل لا يرقدونه بادمان تثبيت اليقين مع الصبر
فهذا نعيم القوم ان كنت فاهما وتعقل عن مولاك آداب من يدري
فما عرسوا لا بقرب حبيبهم ولا عرّجوا عن مسّ بؤس ولا ضرّ
أديرت كؤوس للمنايا عليهم فغفوا عن الدنيا كاعفاء ذي سكر
همومهم جالت لدى حجب العلى وهم أهل ودّ الله كالأنجم الزهر
فلا عيش الا مع أناس قلوبهم تحنّ الى التقوى وترتاح للذكر
ويروى عن بعض العبّاد رضي الله عنه أنه قال: بينما أنا في الطريق أسير، وكنت صائما، فرأيت نهرا جاريا، فانغمست فيه، فاذا أنا بسفرجلة على وجه الماء، فأخذتها لأفطر عليها.
قال: فلما أفطرت عليها ندمت، وقلت: أفطرت على ما ليس لي، فلما أصبحت سرت، فضربت على باب البستان الذي كان النهر يخرج منه، فخرج اليّ شيخ كبير، فقلت له: يا شيخ، انه خرج من بستانكم هذا بالأمس سفرجلة، فأخذتها وأكلتها، وقد ندمت على ذلك، فعسى أن تجعلني في حل.
فقال لي: أما أنا في هذا البستان أجير، ولي فيه منذ أربعين سنة ما ذقت من فاكهته شيئا قط، وليس لي في البستان شيء. قلت: لمن هو: قال: لأخوين بالموضع الفلاني.
قال: فأتيت الموضع، فوجدت أحدهما، فقصيت عليه القصة، فقال: نصف البستان لي، وأنت حل من نصيبي في الك السفرجلة. فقلت له: وأين أجد أخاك؟ قال: بموضع كذا وكذا.
فمضيت اليه، وقصيت عليه القصة، فقال لي: والله لا أجعلك في حل الا بشرط. فقلت: وما الشرط؟ قال: أزوّجك ابنتي وأعطيك مائة دينار. قال له العابد: ويحك أنا في شغل عن هذا. أما رأيت ما أصابني لأجل سفرجلتك؟ فاجعلني حل. فقال له: والله ما فعلت الا بالشرط المذكور.
فلما رأى العابد منه الجد، امتثل، وقال افعل، فأعطاه مائة دينار، ثم قال له: أعطني منها ما شئت مهر ابنتي، فرمى بها كلها اليه، فقال له: لا، الا البعض.
قال: فزوّجه ابنته، فلامه الناس على ذلك، وقالوا له: خطب ابنتك أرباب الدولة وكبراء الناس، ولم تعطها لهم، فكيف أعطيتها لفقير لا مال له؟ فقال لهم: يا قوم انما رغبت في الورع والدين، ولأن هذا الرجل من عباد الله الصالحين، رضي الله عنهم أجمعين.
- 01-09-2007, 02:25 PM #32
الفصل الثانى عشر
الفصل الثاني عشر
يا من عمي عن طريق القوم، عليك باصلاح نور البصر. القلب المظلم يمشي في شوك الشك وما عنه خبر. وقت التائب كله عمل: نهاره صوم، وليله سهر، ووقت البطال كله غفلة، وبصيرته عميت عن النظر. من ذاق حلاوة الزهد، استحلى التهجد والسهر، ان تدرك المتجهدين في أول الليل، ففي أعقاب السحر. تيقّظ من نوم الغفلة، فهذا فجر المشيب انفجر، وأذلة التخلف اذا تخلف عن الباب وما حضر!.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يكونن أحدكم كالعبد السوء، ان خاف عمل، وان لم يخف فلا عمل، أو كالأجير السوء، ان لم يعط أجرا وافرا لم يعمل".
أوحى الله الى داود عليه السلام: يا داود، العاشقون يعيشون في حلم الله، والذاكرون يعيشون في رحمة الله، والعارفون يعيشون في لطف الله، والصّدّيقون يعيشون في بساط الأنس بالله يطعمهم ويسقسهم.
قال أبو بكر الرازي: قا ابن عطاء: لما أكل آدم من الشجرة، طرده كل شيء ونفاه عن نفسه، وأبعده عن نفسه، وأبعده عن قربه، الا شجرة العود، فانها آوته. وبكى عليه كل شيء الا الذهب والفضة.
فأوحى الله اليهما: ما لكما لا تبكيان على محب طرده محبوبه؟ فقالا: الهنا، وما كنا لنبكي على محب عصى محبوبه. فقال: وعزتي وجلالي، لأعزنّكما ولأجعلنّكما قيمة كل شيء، ولأجعلنّ لأولاد آدم خدّاما لكما.
وأوحى الله الى العود: ومالك أويت طريد مولاه؟فقال: رحمة مني على ذلك.
فقال: وعزتي وجلالي، لأعذبنك بالنار في الدنيا، ولا ينتفع بك الا بعد احراقك، لأنك آويت من عصى في جوار مولاه بمرأى منه واطلاع عليه. وأنشدوا:
لقد ورد التقاة فما وردنا فهمنا والهين وما فهمنا
أحبّتنا بطيب الوصل جودوا فغير الجود منكم ما عرفنا
فان جدتم فعفوكم رجونا وبابكم الكريم به وقفنا
تذللنا بباكم عساكم بلطف جنابكم فارضوا علينا
وحقّكم لقد جئنا حماكم وآوينا لكم لكن طردنا
وحالت بيننا حجب المعاصي ولولا الذنب عنكم ما حجبنا
وما كان النوى والبعد منكم ولكن أصله مما افترقنا
فتحتم باب جودكم امتنانا علينا بعد جرم كان منا
فلم نصلح لقربكم ولكن أسأنا ثم تبنا ثم عدنا
وعاملناكم بالعدل دهرا وعاهدناكم زمنا فخنّا
ولم ينقض لكم عهد ولكن علينا قد نقضنا ما نقضنا
طردنا بالجرائم عن رضاكم ولو كنا له أهلا قبلنا
وأقررنا بزلتنا لديكم فجودوا بالرضا انّ اعترفنا
ومن يرجو العبيد يوى الموالي فأنتم راحمونا كيف منا
وهل في غيركم عنكم بديل وهل لولاكم للحق معنى
فما أشهى وصالكم وأحلى وما أعلى مقامكم وأسنى
فعزتنا تذللنا اليكم وأشرف حالنا لكم ان خضعنا
بجاه محمد خير البرايا تشفعنا لكم وبه اعتصمنا
عليه تحيّة ما لاح برق وتاق لحبّه قلب المعنّى
- 01-09-2007, 02:47 PM #33
رد: بحر الدموع
اكملي اختي الكريمه بارك الله فيكي
لان الراي فعلا ما رايتي في اقتطاع الكتاب على اجزاء
فبه تحصل الفائده ............ويكون الدواء
جعلكي الله تعالى من اوليائه ومن عباده النبهاء
وجعل ما تقديمينه لاخوانك زادا من دار الفناء لدار البقاء
- 01-09-2007, 05:36 PM #34
رد: بحر الدموع
بارك الله فيك و عليك و لك و رضى عنك و أرضاك يا أخى
الحقيقه يا أخى اننى انا من أستفيد جدا من تنزيله فى أجزاء و هو ما يجعلنى أقرأه ثانيه فأحببت أن أشارك أخوانى الذين فعلا أكن لهم كل أحترام و أن شاء ألله سيكون لنا لقاءات أخرى مع كتب أخرى أعتبرها كنوز نفعنا و أياكم ألله بها كل من يقرأها و حشرنا ألله و أياكم فى زمره المتقين مع جميع المسلمين ليكون أمامنا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم
- 02-09-2007, 01:35 PM #35
الجزء الأول الفصل الثالث عشر
الفصل الثالث عشر
يا هذا، كم لك على المعاصي مصر؟ متى يكون منك المتاب؟ جسمك باللهو عامر، وقلبك من التقوى خراب، ضيّعت الشباب في الغفلة، وعند الكبر تبكي على زمان الشباي. في المجلس تبكي على الفائت، واذا خرجت عدت للانتهاب. لا حيلة لوعظي فيك وقد غلق في وجهك الباب. كم لي أحدّث قلبك، وأرى قلبك غائبا مع الغيّاب، يا من قلبه مشغول، كيف تفهم الخطاب. وافرحة ابليس اذا طردت عن الباب! هذا مأتم الحزان، هذا المجلس قد طاب. رحلت رفاق التائبين الى رفاق الأحباب. يا وحشة المهجور المبعد عن الباب اذا لم يجد للقرب والدنو سببا من الأسباب. يا منقطعا عن الرفاق الأحباب، تعلق بأعقاب الساقة بذلّ وانكسار ودمع ذي اسكاب، وقل: تائه في بريّة الحرمان، مقطوع فيه تيه الشقاء، مسبول دونه الحجاب، كلما رام القيام، أقعده وأبعده بذنوبه الحجّاب، لا زاد ولا راحلة ولا قوة، فأين الذهاب؟ عسى عطفة من وراء ستر الغيب تهون عليك صعاب المصاب.
لله درّ أقوام شاهدوا الآخرة بلا حجاب، فعاينوا ما أعدّ الله للمطيعين من الأجر والثواب. ترى لماذا أضمروا أجسادهم وأظمؤوا أكبادهم، وشرّدوا رقادهم، وجعلوا ذكره بغيتهم ومرادهم؟!.
وأنشدوا:
يا رجال الليل مهلا عرّسوا انني بالنوم عنكم مشتغل
شغلتني عنكم النفس التي تقطع الليل بنوم وكسل
أنا بطّال وأنتم ركّع زاد تفريطي وزدتم في العمل
قلت مهلا سادتي أهل الوفا حمل القوم وقالوا لا مهل
قال وهب بن منبه: أوحى الله الى نبي من الأنبياء: أن اذا أردت أن تسكن معي في حظيرة القدس، فكن وحيدا في الدنيا، فريدا مهموما حظينا، كالطير الوحيد يظل في أرض الفلاة، يرد ماء العيون، ويأكل من أطراف الشجر، فاذا جنّ عليه الليل، آوى وحده استيحاشا من الطير، واستئناسا لربه.
ويروى عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال: مرّ عابد براهب، فقال له: يا راهب، كيف ذكرك للموت؟ قال: أرفع قدما ولا أضع أخرى، الا خشيت أن قد مت.
قال: كيف كان نشاطك للصلاة؟ قال: ما سمعت أحدا سمع بالجنة، فأتت عليه ساعة الا صلى ركعتين.
قال العابد: يا راهب، مالكم تلبسون هذه الخرق السود؟ قال الراهب: لأنها من لباس أهل المصائب.
فقال له العابد: أكلكم معشر الرهبان قد أصيب بمصيبة. قال الراهب: يا أخي وأي مصيبة أعظم من مصيبة الذنوب على أهلها؟.
قال العابد: فما تذكرت هذا الكلام، الا وبكيت.
قال العتبي: أنشد رجل من أهل الزهد هذه الأبيات:
ويوم ترى الشمس قد كوّرت وفيه ترى الأرض قد زلزلت
وفيه ترى كل نفس غدا اذا حشر الناس ما قدّمت
أترقد عيناك يا مذنبا وأعمالك السوء قد دوّنت
فاما سعيد الى جنة وكفاه بالتور قد خضّبت
واما شقي كسى وجهه سوادا وكفاه قد غللت
- 03-09-2007, 09:08 PM #36
الجزء الأخير من الفصل الثالث عشر
خرج عمر بن عبد العزيز في بعض أسفاره، فلما اشتد الحرّ عليه، دعا بعمامة فتعمم بها، فلم يلبث أن نزعها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لم نزعتها؟ لقد كانت تقيك الحرّ. قال: ذكرت أبياتا قالها الأول، وهي هذه:
من كان حين تمسّ الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوما راغما جدثا
في قعر مظلمة غبراء موحشة يطيل تحت الثرى في جوفها اللبثا
وقد خرج عيسى بن مريم عليه السلام على الحواريين وعليهم آثار الغبار، وعلى وجوههم النور، فقال: يا بني الآخرة، ما تنعّم المتنعمون الا بفضل نعمتكم.
وقيل للحسن البصري رضي الله عنه: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: خلوا بالرحمن، فألبسهم نورا من نوره.
وروي عن أبو ماجد، قال: كنت أحب الصوفية، فاتبعتهم يوما الى مجلس عالم، فرأيت في المجلس شخصا تتمنى النفوس دوام النظر اليه، وهو يبكي كلما سمع العالم والقارئ يقول: الله، الله، فلم تنقطع له دمعة.
فتعجبت من توكّف عبراته، وترتداف زفراته، مع صغر سنه، وغضّ شبابه، فسألت بعض الصوفية عنه فقال: انه تائب غزير الدموع، كثير السجود والركوع، رقيق القلب شفيق الحب.
فبينما نحن كذلك، اذا قرأ القرآن:{ فاذكروني أذكركم} البقرة 152، فقام قائما على قدميه، وهو يقول: سيّدي، خاب من في قلبه غير ذكرك. وهل في الأكوان غيرك حتى يذكر يا حبيب القلوب؟!.
وأنشدوا:
تهتّكي في الهوى حلا لي وعاذلي ما له وما لي
يلومني في الغرام جهلا وكلما لامني حلا لي
قالوا تسليّت قلت كلا يا قوم مثلي يكون سالي
قالوا تعشقت قل أهلا لقد تعشّقت لا أبالي
قال أبو علي: الرّجال في هذا المقام على أربعة أقسام:
القسم الأول: رجل قد استولى على قلبه عظمة الله وكحبته، فاشتغل بذكره عن ذكر من سواه، ولم تله الأكوان عن الاستئناس بذكره، فهذا هو الذي وصفه الله تعالى، فقال:{ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} النور 37.
والثاني: رجل عاهد الله تعالى بصدق الاجابة، وتحقق العبودية، واخلاص الورع، والقيام بالوفاء، فهو الذي وصفه الله تعالى بقوله:{ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الأحزاب 23.
والثالث: رجل يتكلم لله وفي الله وبالله ومن أجل الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر على سائر ضمائر الأسرار، ثم على ظواهر النفوس الأغيار، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال:{ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} يس 20.
والرابع: رجل يتكلم سره عن نفسه وعن الملكين الموكلين، ولا يطّلع على سرّه الا مولاه، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال:{الله نزل أحسن الحديث}، الى قوله:{ الى ذكر الله} الزمر 23، فهذا هو في ظاهره كالسّليّ الخليّ، وفي باطنه كالمتوليّ الشجيّ.
وأنشدوا:
اليك والا لا يفيد سرى الساري ولا حرف الا ما تلاه لك القاري
فيا منيتي يا بغيتي بل ورحمتي ويا جنتي في كل حال ويا ناري
اذا صحّ منك الاعتقاد فكل ما على الأرض فان من شموس وأقمار
قال مالغيرة بن حبيب: كنت أسمع بمجاهدة المحبين، ومناجاة العارفين، وكنت أشتهي أن أطّلع على شيء من ذلك، فقصدت مالك بن دينار، فرمقته على غفلة وراقبته من حيث لا يعلم ليالي عدة، فكان يتوظأ بعد العشاء الآخرة، ثم يقوم الى الصلاة، فتارة يفني ليلة في تكرار آية أو آيتين، وتارة يدرج القرآن درجا، فاذا سجد وحان انصرافه من ثلاته، قبض على لحيته، وخنقته العبرة، وجعل يقول: بحنين الثكلى وأنين الولهى، يا الهي، ويا مالك رقّي، ويا صاحب نجواي، ويا سامع شكواي، سبقت بالقول تفضلا وامتنانا، فقلت:{ يحبهم ويحبونه} المائدة 54، والمحبّ لا يعذ حبيبه، فحرم شيبة مالك على النار. الهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأيّ الرجلين مالك، وأي الدارين دار مالك؟.
ثم يناجي كذلك الى أن يطلع الفجر، فيصلي الصبح بوضوء العتمة رحمه الله.
- 04-09-2007, 06:29 PM #37
الفصل الرابع عشر
الفصل الرابع عشر
يا من أقعده الحرمان، هذه رفاق التائبين عليك عبور. لا رسالة دمع ولا نفس آسف، وما أراك الا مهجور. هذا نذير الشيب ينذر بالرحلة تهيأ لها منذور. كم أعذار؟ كم كسل؟ كم غفلة؟ ما أجدك يوم الحساب معذور. بيت وصلك خراب، وبيت هجرك معمور. بدر عساك تجبر بالتوبة وتعود مجبور، سجدة واحدة واصل بها السحر وتنجو من الأهوال، { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدوّ والآصال} الرعد 15.لله در أقوام قلوبهم معمورة بذكر الحبيب، ليس فيها لغيره حظ ولا نصيب، ان نطقوا فبذكره، وان تحرّكوا فبأمره، وان فرحوا فبقربه، وان ترحوا فبعتبته، أقواتهم ذكر الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، لا يصبرون عنه لحظة، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة.
وأنشدوا:
حياتي منك في روح الوصال وصبري عنك من طلب المحال
وكيف الصبر عنك وأي صبر لعطشان عن الماء الزلال
اذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحبّ يلعب بالرجال
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اذا بلغ العبد أربعين سنة، ولم يغلب خيره على شرّه، قبّله الشيطان بين عينيه، وقال: فديت وجها لا يفلح أبدا، فان منّ الله عليه، وتاب اليه، واستنقذه من الضلالة، واستخرجه من غمرات الجهالة، يقول الشيطان لعنه الله: يا ويلاه، قطع همره بالضلالة، فأقرّ بالمعصية عيني، ثم أخرجه الله من الجهالة بتوبته ورجوعه الى ربه" أورده الغزالي في الاحياء.
وذكر في بعض الأخبار أن رجلا كان من الفقهاء من أهل بغداد، وكان ممن يسار اليه في العلم والصلاح، وكان شيخا كبيرا فاضلا، وأراد الحج الى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيّه عليه الصلاة والسلام، فألّف من أصحابه جماعة من الذين كانوا يقؤون عليه، فارتبط معهم على أنهم يخرجون متوكلين على الله عز وجل.
فلما ساروا في بعض الطريق، واذا بدير نصراني، وقد أعياهم الحرّ والعطش، فقالوا: يا أستاذنا، نسير لهذا الدير، فنستظل حتى يبرد النهار، ونرحل ان شاء الله تعالى، فقال لهم: افعلوا ما شئتم، فساروا الى ذلك الدير، ونزلوا عند جداره وقد أضابهم العياء والحر، فنام الطلبة، والشيخ لم ينم.
قال: فتركهم الشيخ نائمين، وخرج يطلب ماء لوضوئه، ولم يكن له همّ الا ذلك، فبينما هو يمشي في حومة الدير يطلب الماء، فرفع رأسه، فرأى جارية صغيرة السن، كأنها الشمس الضاحية، فلما رآها الشيخ تمكّن ابليس من قلبه، ونسي الوضوء والماء، ولم يكن له هم الا الجارية، فأقبل يقرع الباب قرعا عنيفا، فخرج اليه راهب وقال له: من أنت؟
قال له: أنا فلان العالم الفلاني، وعرّفه بنفسه واسمه.
فقال له الراهاب: ما تريد يا فقيه المسلمين؟.
قال له: يا راهب، هذه الصبية التي بدت من أعلى الدير، ما هي منك؟.
قال الراهب: هي ابنتي، فما سؤالك عنها؟.
قال له الشيخ: أريد أن تزوّجني اياها.
قال له الراهب: ان ذلك لا يجوز عندنا في ديننا، ولو كان جائزا، لكنت أزوّجها منك بغير مشورتها، ولكن قد جعلت لها على نفسها عهدا، أن لا أزوّجها الا من ترضى لنفسها، ولكن أنا أدخل عليها وأعلمها بخبرك، فان هي رضيتك لنفسها، زوّجتك منها.
قال له السيخ: حبا وكرامة.
قال: فذهب الراهب الىابنته، فأعلمها بالقصة، والشيخ يسمع.
فقالت: يا أبت، كيف تزوّجني منه، وأنا على دين النصرانية، وهو على دين الاسلام، انّ ذلك لا يتم له الا أن يدخل في دين النصرانية.
قال: فعند ذلك، قال لها الراهب: أرأيت ان دخل في دينك، تتزوجينه؟.
قالت: نعم.
والشيخ العالم في هذا كله يتضاعف به الأمر، وابليس يزيّنها في عينيه، وأصحابه رقود، ليس عندهم علم بما حلّ به.
قال: فعند ذلك، أقبل عليها الشيخ وقال لها: قد نبذت دين الاسلام، ودخلت في دينك.
قالت له الجارية: هذا زواج قدري، ولكن لا بد من حق الزوجية ودفع المهر، وأين الحق، وأراك رجلا فقيرا، ولكن أقبل منك في حقي أن ترعى هذه الخنازير عاما كاملا، ويكون ذلك صداقي.
قال لها: نعم، لك ذلك، ولكن أشترط عليك أن لا تجبي وجهك عني، لأنظر اليك غدوة وعشيا.
قالت: نعم.
فأخذ عصاه التي كان يخطب عليها، وأقبل بها على الخنازير، يزجرها لتمشي للمرعى.
وجرى هذا كله وأصحابه نيام، فلما استيقظوا من نومهم طلبوا الشيخ فلم يجدوه، فسألوا عنه الراهب، فأعلمهم بالقصة.
قال: فمنهم من خرّ مغشيا عليه، ومنهم من بكى وناح، ومنهم من تأسف على ما حلّ به.
ثم قالوا للراهب: وأين هو؟.
قال لهم: يرعى الخنازير.
قال: فمضينا اليه، فوجدناه متكئا على عصاه التي كان يخطب عليها وهو يزجر بها الخنازير، وقلنا له: يا سيّدنا، ما هذا البلاء الذي حلّ بك.
وجعلنا نذكّره فضل القرآن والاسلام، وفضل محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأنا عليه القرآن والحديث.
فقال لنا: اليكم عني، فأنا أعلم بما تذكرونني به منكم، ولكن قد نزل بي البلاء من عند رب العالمين.
قال: فكلما عالجناه ليسير معنا، ما قدرنا عليه، فمضينا الى مكة وتركناه، وفي قلوبنا منه حسرة.
وقضينا حجنا ورجعنا نريد بغداد، فلما صرنا الى ذلك الموضع، فقلنا: تعالوا ننظر ما فعل الشيخ، لعله ندم وتاب الى الله عز وجلّ، ورجع عما كان فيه.
قال: فذهبنا اليه، فوجدناه على حالته، وهو يزجر الخنازير، فسلمنا عليه وذكّرناه، وقرأنا عليه القرآن، فما ردّ علينا شيئا، فانصرفنا عنه وفي قلوبنا منه حسرة عظيمة.
قال: فلما صرنا على بعد من الدير، واذا نحن بسواد قد أقبل علينا من ناحية الدير، وهو يصيح علينا، فوقنا له، فاذا هو صاحبنا الشيخ قد لحق بنا.
وقال: اشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وأنا قد تبت الى الله، ورجعت عما كنت فيه، وماكنت فيه، وما كان ذلك الا من ذنب كان بيني وبين ربي عاقبني به، فكان من البلاء ما رأيتم.
قال: فسررنا بذلك غاية السرور، وجئنا الى بغداد، وأقبل الشيخ على العبادة والاجتهاد أكثر مما كان عليه قبل ذلك، فبينما نحن في دار الشيخ نقرأ عليه، واا نحن بامرأة قد قرعت الباب، فخرجنا اليها وقلنا لها: ما حاجتك أيتها المرأة.
قالت: أريد الشيخ وقولوا: ان فلانة بنت فلان الراهب قد جاءت لتسلم على يديك، فأذن لهابالدخول، فدخلت، وقالت: يا سيدي جئت لأسلم على يديك.
فقال لها الشيخ: وما كانت القصة.
قالت له: لما وليت عني، غلبتني عيناي، فنمت، فرأيت فيما يرى النائم علي بن ابي طالب رضي الله عنه، وهو يقول: لا دين الا دين محمد صلى الله عليه سولم، قال لي ذلك ثلاث مرّات، ثم قال لي بعد ذلك: ما كان الله ليبتلي بك وليا من أوليائه. وها أنا ذا قد جئت اليك، وأنا بين يديك، وأقول: أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
ففرح الشيخ بذلك، حيث منّ الله عليها بدين الاسلام على يديه، فتزوجها على كلمة الله وسنة رسوله.
قال: فسألناه عن ذلك الذنب الذي كان بينه وبين الله.
قال: كنت يوما ماشيا في بعض الأزقة، واذا برجل نصراني قد لصق بي، فقلت له: ابعد عني عليك لعنة الله. فقال: ولم ؟ قلت له: أنا خير منك.
فالتفت النصراني، وقال: ما يدريك أنك خير مني، وهل تدري ما عند الله تعالى حتى تقول هذا الكلام؟.
وقد بلغني بعد ذلك أن هذا الرجل النصراني قد أسلم وحسن اسلامه، ولزم العبادة، فعاقبني الله تعالى من أجل ذلك ما رأيتم.
نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
**
- 05-09-2007, 05:42 PM #38
الفصل الخامس عشر
الفصل الخامس عشر
معاشر التائبين: تعالوا نبكي على الذنوب فهذا مأتم الحزان، تعالوا نسكب المدامع. ونشتكي الهجران، لعل زمان الوصال يعود كما كان.هذا بياض الشيب ينذر بخراب الأوطان، يا من تخلف حتى شاب، وقد رحلت الأظعان.
يا تائها في تيه، التخلف، يا حائرا في بريّة الحرمان، نهارك في الأسباب، وليلك في الرقاد، هذه الخسارة عيان، اذا ولى الشباب ولم يربح، ففي الشباب حتى ذبل من معاصي الرحمن، فعند اقبال المشيب، ندمت على ما قد كان. ان لم يشاهدك رفيق التوفيق، والا ففي الحرمان حرمان. وقد يرحم المولى من ضعف عن الأسباب{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} الرعد 39.
وأنشدوا:
أتبني بناء الخالدين وانما يقاؤك فيها لو عقلت قليل
لقد كان في ظل الأراك مقيل لمن كل يوم يقتفيه رحيل
ويروى عن الحسن البصري رضي الله عنه، أنه كان يقول: يا ابن ىدم، انّ لك عاجلا وعاقبة، فلا تؤثر عاجلتك على عاقبتك، فقد، والله، رأيت أقواما آثروا عاجلتهم على عاقبتهم، فهلكوا وذلوا وافتضحوا.
يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا.
يا ابن آدم، لا يضرّك ما أصابك منشدة الدنيا اذا ادّخر لك خير الآخرة، وهل ينفعك ما أصبت من رخائها اذا حرمت من خير الآخرة.
يا ابن آدم، الدنيا مطيّة، ان ركبتها حملتك، وان حملتها قتلتك.
يا ابن آدم: انك مرتهن بعملك، وآت على أجلك، ومعروض على ربك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، وعند لموت يأتيك الخبر.
يا ابن آدم: لا تعلق قلبك بالدنيا فتعلقه بشر متعلق، حسبك أيها المرء ما بلّغك المحل.
ويروى عن مالك بن دينار رضي الله عنه، أنه كان ماشيا في بعض أزقة البصرة، اذا هو بجارية من جواري الملك، راكبة ومعها الخدم والمماليك، فسمع مالك حسّها خلفه، فالتفت اليها وهي راكبة، فرأى زهرتها وهيأتها وحالها، فنادى: أيتها الجارية هل يبيعك مولاك.
قال: فلما سمعت منه تلك الكلمة، نظرت اليه، فرأت عباءة خلقة بالية، وله هيأة حسنة وتواضع وسكينة لله عز وجل.
فقالت للخدم: أمسكوا مطيتي، فمسكوها، فردّت رأسها اليه، وقالت له: يا شيخ، أعد عليّ مقالتك. قال: قلت هل يبيعك مولاك. قالت: ويلي عليك، وه لمثلك ما يشتريني به لو باعني؟!.
قال: فحفّ به المماليك، قال: خلوا عني أسير معكم، فسار معهم حتى أتت قصرها، فقام اليها حجبة الدار فأنزلوها، فدخلت، وبقي مالك بباب القصر حتى وصلت الى مولاها، فقالت: يا مولاي، ألا أحدثك بعجب؟!.
قال: وما هو يا حسنة؟.
قالت: يا مولاي لقيني شيخ كبير فقير عليه عباءة رثة بالية، فنظر الى حسني وجمالي وبهائي وكمالي ومماليكي، فأعجبه ما رأى من هيأتي، فقال: هل يبيعك مولاك، فضحك مولاها من ذلك، وقال لها: وأين هو ويلك؟! قالت: قد جئتك به معي، وها هو بباب القصر، فقال: أدخلوه عليّ.
فدخل مالك، ولم يعرفه الرجل، فلما وقف بباب مجلسه، اذ هو بيت مملوء بضروب من الوطأ، والمتكأ، واذا هو بصاحب القصر قاعد على مرتبة عظيمة، فجعل مالك ينظر اليه. فقال: مالك؟ أدخل أيها الشيخ.
فقال مالك: لا أدخل حتى ترفع هذا الوطاء، وتغيّب عني فنتنته، حتى لا أنظر اليه، ولا أطأ شيئا منه.
فألقى الله الهيبة والطاعة في قلب صاحب القصر، فأمر برفع الوطاء والبسط، حتى كشف عن الرخام، وقعد صاحب القصر على كرسي قال: اجلس أيها الشيخ كما أحببت.
قال: لا والله حتى تنول عن هذا الكرسي، وتجلس على هذا المرمر. قال: فجلس الرجل، وجلس مالك معه.
فقال رب البيت: قا حاجتك أيها الشيخ.
قال: جاريتك هذه التي دخلت عليك الساعة، أتبيعها لي؟.
فقال له صاحب القصر: وهل لك ما تبتاعها به مني؟.
قال: وما ثمنها؟.
قال له: ان من شأنها وقدرها وحالها ومالها، تساوي كذا وكذا ألفا.
فقال مالك: والله ما تساوي عندي نواتين مسوستين، فضحك الرجل، وضحكت الجارية، وضحك الجواري والخدم من وراء الستر من كلام مالك.
فقال مالك: وما الذي أضحككم؟.
قال صاحب البيت: وكيف كان ثمنها بهذه الخساسة عندك؟.
فقال مالك: لكثرة عيوبها.
قال: ومن أعلمك بعيوبها.
قال: أنا أعلم من عيوبها ما لم تعلم أنت.
قال: أعلمني بها، وأوقفني عليها.
قال: ان لم تتعطر تغيّرت، وان لم تستك بخرت، وان لم تغتسل بظرت، وان لم تمتشط قملت وشعثت، وان عمّرت عن قليل هرمت وهي ذات بخار، وبصاق، وحيض وبول وغائط أقذار جملة، وآفات بينة، ولعلها لا تريدك الا لنفسها، ولا تحبك الا لتمتعها بك، وتمتعك بها، فلا تفي بعهدط، ولا تصدق في ودّك وعهدك، ولا يتخلف عليها أحد من بعدك الا رأته مثلك. وأنا أجد بدون ما سألت جارية خلقت من سلالة الكافور، ولو مزج بريقها الأجاج لطاب، ولو دعي ميت بكلامها لأجاب، ولو بدا معصمها للشمس أظلمت دونه، ولو برز لسواد الليل لسطع نوره، ولو واجهت الآفاق بحليّها وحللها، لترخرفت، ولو نفخ ريح ذوائبها على الأرض وما فيها لتعطّرت، فهي العطرة الشكلة المغنّجة المتنسقة، التي نشأت في رياض المسك والزعفران وغنيت بماء التنسيم، فلا يكسف بالها، ولا يحول حالها، ولا يخلف عهدها، ولا يتبدّل ودّها، ولا يتوقع ضدها. فأيهما أحق بالرفعة ايها المغرور؟.
قال: التي وصفت، فما ثمنها رحمك الله؟.
قال: اليسير المبذول، أن تتفرّغ ساعة عن ليلك، فتفوم فتصلي ركعتين تخلصهما لربك، وأن تضع طعامك بين يديك، فتذكر جائعا، فتؤثره على شهوتك، وأن تخطو الطريق فتلتقط منه حجرا ومدرا، وأن تحرّك لسانك بطيب الكلام، أو بذكر الرحمن، وأن تقطع أيامك باليسير من القوت، وترفع همّتك عن دار الغفلة، فتعيش في الدنيا عيش القنوع راسخا، وتأتي غدا يوم القيامة آمنا، وتنزل على الملك الأكبر مخلدا.
قال: فعند ذلك نادى: يا جارية.
قالت: لبيك يا مولاي.
قال: أسمعت ما قاله الرجل؟.
قالت: نعم.
قال لها: هل هو صادق، أم كاذب؟.
قالت: بل هو، والله صادق.
قال: فأنت اذن حرّة لوجه الله تعالى، وضيعة كذا وكذا عليك صدقة، وأنتم أيها الغلمان أحرار، وضياع كذا وكذا عليكم صدقة، وهذه الدار صدقة بجميع ما فيها من الأثاث والأموال على الفقراء والمساكين.
ومدّ يده على ستر كان على بعض أبوابه، فأخذه وستر به نفسه ورمى جميع ما كان عليه من اللباس.
قالت جارية: يا مولاي، لا عيش لي بعدك، فرمت بكسوتها ولبست ثوبا خشنا وخرجت معه، فودّعهما مالك بن دينار ودعا لهما وأخذا طريقا، وأخذ مالك طريقا آخر.
قال ناقل الحديث: فذكر أنها لم يزالا يعبدان الله عز وجل على تلك الحالة حتى لقياه. رحمة الله عليهم ونفعنا ببركاتهم.. آمين.
- 07-09-2007, 12:43 AM #39
الفصل السادس عشر
الفصل السادس عشر
يا تائها في الضلال بلا دليل ولا زاد، متى يوقظك منادي الرحيل فترحل عن الأموال والأولاد؟ قل لي: متى تتيقّظ وماضي الشباب لا يعاد، ويحك كيف تقدم على سفر الآخرة بلا زاد ولا راحلة. ستندم اذ حان الرحيل، وأمسيت مريضا تقاد، ومنعت التصرف فيما جمعت، وقطعت الحسرات منك الأكباد، فجاءتك السكرات، ومنع عنك العوّاد، وكفنت في أخصر الثياب، وحملت على الأعواد، وأودعت في ضيق لحد وغربة ما لها من نفاذ، تغدو عليك الحسرات وتروح الى يوم التناد، ثم بعده أهوال كثيرة، فيا ليتك لمعاينتها لا تعاد.
فاغتنموا بضائع الطاعات، فبضائع المعاصي خاسرة{ كلا بل تحبّون العاجلة وتذرون الآخرة} القيامة 20ـ21.
وأنشدوا:
احذر دنياك وغرّتها واحذر أن تبد لها طلبا
تبغى ودّا ممن قدما لك قد قتلت أمّا وأبا
وعلى الجيران فقد جارت كلا قهرت أولت عطبا
كم من ملك ذي مملكة قد مال لها سكرا وصبا
أضحى في اللحد ومقعده بتراب اللحد قد احتجبا
اطلب مولاك ودع دنياك ففي أخراك ترى عجبا
كم من قصر قد شيد بنا بالموت وها أضحى خربا
يا طالبها لا تله بها كم من تاه ملك غضبا
أين الماضون قد سكنوا لحدا فردا خربا تربا
كانوا ومضوا ثم انقرضوا فتأدب أنت بهم أدبا
فالعمر مضى والشيب أتى والموت لجينك قد قربا
فأعدّ الزاد فما سفر عمر الأيام قد انتهبا
بادر بالتوب وكن فطنا لا تلق بجريتك النصبا
فلعل الله برحمته يلقي بالعفو لنا سببا
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: كنت أحمل الحطب من الجبال وأتقوّت به، وكان طريقي فيه التقوى والتحري، فرأيت جماعة من صلحاء البصرة في النوم، منهم الحسن ومالك بن دينار، وفرقد السّبخي.
فقلت لهم: أنتم أئمة المسلمين فدلوني على الحلال الذي ليس فيه تبعة، ولا للخلق فيه منّة، فأخذوا بيدي وأخرجوني من طرسوس الى مرج فيه خبّازي، فقالوا لي: هذا هو الحلال الذي ليس فيه لله تبعة، ولا للخلق فيه منة.
قال: قعدت آكل منه دهرا نيئا، وآكل منه مطبوخا، فأوجدني الله تعالى قلبا طيبا. قلت: ان كان أهل الجنة بالقلب الذي لي، فهم والله في عيش.
فخرجت يوما على باب البلد، واذا بفتى يريد البلد، وكانت لي قطيعات بقيت لي من الحطب الذي كنت أبيعه قبل ذلك، فقلت: هذه لا أحتاج اليها، أدفعها لهذا الفقير ينفقها.
فلما دنا مني، أدخلت يدي لأخرجها له، فرأيته قد حرّك شفتيه، واذا كل ما حولي من الأرض ذهب وفضة، حتى كاد يخطف بصري.
قال: ثم خرجت مرة أخرى، فرأيته قاعدا وبين يديه ركوة وفيها ماء، فسلمت عليه، ثم طلبت منه أن يكلمني فمدّ رجله، فقلب الركوة بمائها، ثم قال: كثرة الكلام تنشفّ الحسنات، كما تنشف هذه الأرض الماء، يكفيك.
قال محمد بن غسان صاحب الكوفة وقاضيها: دخلت على أمي في يوم عيد أضحى، فرأيت عندها عجوزا في أطمار رثة، واذا لها بيان ولسان، فقلت لأمي: من هذه؟ فقالت: خالتك عانية أم جعفر بن يحيى البرمكي، وزير هارون الرشيد، فسلكت عليها، وسلمت علي، فسألتها عن حالها، وقلت لها: صيّرك الدهر الى ما أرى!.
قالت: نعم يا بنيّ، انما كنا في عوار ارتجعها الدّهر منا.
فقلت اهت: حدّثني ببعض شأنك.
قالت: خذ جملة، وقس على ذلك. لقد مضى عليّ عيد في مصثل هذا منذ ثلاث سنين، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاق، وقد كان بعث اليّ برسم الضاحي ألف رأس من الغنم، وثلاثمائة رأس من البقر، دون ما يتبع ذلك من الزينة واللباس، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدي شاتين أجعل احداهما شعارا، والآخر دثارا، تعني غطاء بليل.
قال: فغمّني ذلك من قولها، وكربني ما رأيت من حالها، وأبكاني والله قولها، فوهبت لها دنانير كانت عندي.
فانظر أخي حال الدنيا، وكيف يحوّل نعيمها وكيف يذهب ويزول، فالمغرور، والله من اغترّ بها، والمسعود من رأى عيبها وفرّ منها والمصائب في الدنيا أعداد: فواحد يصاب في الأموال والأولاد، والآخر يعرى من الاسلام بالطرد والابعاد.
قال: بعض السادات: كنت جالسا عند الحسن البصري رضي الله عنه، فمرّ بنا قوم يجرون قتيلاـ، فلما رآه الحسن البصري، وقع مغشيا عليه، فلما أفاق من غشيته، سألته عن أمره فقال: ان هذا الرجل كان من أفضل العبّاد والزهاد وكبار السادات، فقلت له: يا أبا سعيد أخبرنا بخبره، وأطلعنا على أمره.
قال: ان هذا الشيخ خرج من بيته يريد المسجد ليصلي فيه، فرأى في طريقه جارية نصرانية، فافتتن بها، فامتنعت عليه، فقالت: لا أتزوجك حتى تدخل في ديني، فلما طالت المدة، وزاد به الأمر جبذته شهوته، ثم غلبت عليه شقوته، فأجاب الى ذلك، وبريء من دين الحنيفية.
فلما صار نصرانيا، وكان منه ما كان، خرجت المرأة من خف الستر، وقالت: يا هذا، لا خير فيك، خرجت من دينك الذي صحبته عمرك من أحل شهوة لا قدر لها، لكن أنا أترك دين النصرانية طلبا لنعيم لا يفنى عني طول الأبد في جوار الواحد الصمد، ثم قرأت:{ قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} الاخلاص.
فتعجب الناس من أمرها، وقالوا لها: أكنت تحفظين هذه السورة قبل هذا؟! قالت: لا والله ما عرفتها قط، ولكن هذا الرجل لما ألحّ عليّ، رأيت في النوم كأني دخلت النار، فعرض عليّ مكاني منها، فارتعبت وخفت خوفا شديدا، فقال لي مالك: لا تخافي ولا تحزني، فقد فداك الله بهذا الرجل منها، ثم أخذ بيدي، وأدخلني الجنة، فوجدت فيها سطرا مكتوبا. فقرأته، فوجدت فيه{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} الرعد 39. ثم أقرأني سورة الاخلاص، فأقبلت أردّدها، ثم انبتهت وأنا أحفظها.
قال الحسن: فأسلمت المرأة، وقتل الشيخ على ردّته نصرانيا. نسأل الله العافية.
- 07-09-2007, 02:07 PM #40
الفصل السابع عشر
الفصل السابع عشر
يا من يذوب ولا يتوب، كم كتبت عليك الذنوب، ويحك خلّ الأمل الكذوب. واأسفا، أين أرباب القلوب، تفرّقت بالهوى في شعوب، ندعوك الى صلاحك ولا تؤوب، واعجبا لك، ما الناس الا ضروب.يا دهر ما أقضاك من متلوّن في حالتيك وما أقلك منصفاوغدوت للعبد الجهول مصافيا وعلى الكريم الحرّ سيفا مرهفادهر اذا أعطى استردّ عطاءه واذا استقام بدا له فتحرّفالا أرتضيك وان كرمت لأنني أدري بأنك لا تدوم على الصفاما دام خيرك يا زمان بشرّه أولى بنا ما قل منك وما كفىروي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: أدركت أقواما، وصحبت طوائف، كان ياتي على أحدهم الخمسون سنة ونحوها ما طوى منهم أحد ثوبا قط لفراش ولا نوم، ولم يأمر أهله قد بعمل طعام، ولا جعل بينه وبين الأرض فراشا، ولقد كان يأكل أحدهم الأكلة، فيودّ أنها حجر في بطنه، وما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، ولهي أهون عليهم من هذا التراب الذي تطؤونه بأرجلكم، ولقد كان أحدهم يعيش عممره مجهودا شديد الجهد، والمال الحلال الى جنبه، فيقال له: ألا تأخذ من هذا المال شيئا لتقتات به؟ فيقول: لا والله، اني لأخاف ان أصبت منه شيئا يكون فساد لقلبي وديني.ويروى عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، أنه تزوّج امرأة من كندة يقال لها: صواب، فأتاها ووقف بباب البيت ونداى باسمها فلم تجبه.فقال لها: يا هذه أخرساء أنت أم صمّاء؟ألا تسمعين؟.قالت: يا صاحب رسول الله، ما بي خرس و لا صم ولكن العروس تستحي أن تتكلم.فدخل المنزل، فاذا بالأستار والأرياش ولباس الديباج، فقال: يا هذه أبيتك هذا محموم فدثرته، أم تحوّلت الكعبة في مندة.قالت: لا يا صاحب رسول الله، ولكن العروس تزيّن بيتها، فرفع رأسه فرأى خدما وقوفا على رأسه قد أتوه بالماء والطعام، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نام على الموثور، ولبس المشهور، وركب المنظور، وأكل الشهوات، لم يرح راشحة الجنة".قالت: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهدك أن كل ما في البيت صدقة لوجه الله تعالى، واكفني برا، أكفك اشتغال البيت ومحاولة العيش، فقال لها: رحمك الله وأعانك.نفعنا الله ببركاتهم بمنّه.**
- 09-09-2007, 07:02 PM #41
الفصل الثامن عشر
الفصل الثامن عشر
يا غافلا عن نصيره، يا واقفا مع تقصيره، سبقك أهل العزائم، وأنت في بحر الغفلة عائم، قف على الباب وقوف نادم، ونكّس رأس الذل وقل: أنا ظالم، وناد في الأسحار: مذنب وراحم، وتشبّه بالقوم وان لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، وقم في الدجى نادبا، وقف على الباب تائبا، واستدرك من العمر ذاهبه، ودع اللهو جانبا، وطلّق الدنيا ان كنت للآخرة طالبا، يا نائما طوال الليل سارت الرفقة، ورحل القوم كلهم، وما انتبهت من الرقدة.
ويروى عن اياس بن قتادة رضي الله عنه، وكان سيّد قومه، أنه نظر يوما الى شعرة بيضاء في لحيته، فقال: اللهم اني أعوذ بك من فجأة الأمور، أرى الموت يطلبني، وأنا لا أفوته، ثم خرج الى ثومه، وقال لهم: يا بني سعد، قد وهبت لكم شبابي فلتهبوا لي شيبتي، ثم دخل داره، ولزم بيته حتى مات.
وأنشدوا:
أمن بعد شيب أيها الرجل الكهل جهلت ومنك اليوم لا يحسن الجهل
تحكّم شيب الرأس فيك وانما تميل الى الدنيا ويخدعك المطل
دع المطل والتسويف انك ميّت وبادر بجدّ لا يخالطه هزل
سأبكي زمانا هدّني بفراقه فليس لقلبي عن تذكره شغل
عجبت لقلبي والكرى اذا تهاجرا وقد كان قبل اليوم بينهما وصل
أخذت لنفسي حتف نفسي بكفها وأثقلت ظهري من ذنوب لها ثقل
وبارزت بالعصيان ربا مهيمنا له المنّ والاحسان والجود والفضل
أخاف وأرجو عفوه وعقابه وأعلم حقا أنه حكم عدل
وروي عن الحسن البصري أنه كان يقول: يا ابن آدم، هبطت صحيفتك، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فالذي عن يمينك يكتب حسناتك، والذي عن يسارك يكتب سيئاتك، اعمل ما شئت، وأقلل أو أكثر، حتى اذا فارقت الدنيا، طويت صفحتك، وعلّقت في عنقك، فاذا كان يوم القيامة، أخرجت وقيل لك:{ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} الاسراء 14.
يا أخي، عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
يا ابن آدم، اعلم أنك تموت وحدك، وتدخل قبرك وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك.
يا ابن آدم: لو أن الناس كلهم أطاعوا الله، وعصيت أنت، لم تنفعك طاعتهم.
وروي عن ابراهيم بن أدهم أنه لقى رجلا، فقال له: كيف حالك يا ابا اسحاق، فقال له:
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع
فطوبى لعبد آثر الله ربّه وجاد بدنياه لما يتوقع
ويروى أن عون بن عبدالله كان يقول: ويحي، كيف أغفل ولا يغفل عني.
وكيف يهنأ عيشي، واليوم ثقيل من ورائي؟ كيف لا أبادر بعملي، ولا أدري متى أجلي؟ أم كيف أسرّ بالدنيا ولا يدوم فيها حالي، أم كيف أؤثرها وقد أضرّت بمن آثرها قبلي؟ وهي زائلة ومنقطعة عني؟ أم كيف لا يطول حزني وربي لا أدري ما يفعل بي في ذنوبي.
ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت تأتي أربعون ليلة ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصباح ولا نار. قيل لها: فيم كنتم تعيشون؟ قالت على الأسودين: الماء والتمر.
وعن عائشة بنت سليمان زوج يوسف بن أسباط أنها قالت: قال لي يوسف بن أسباط: اني لأشتهي من الله ثلاثة، قلت: وما هي؟ قال: أشتهي أن أكون حين أموت ليس في ملكي شيء، ولا يكون عليّ دين، ولا يكون على عظمي لحم.
ولقد أعطي من ذلك كله ولقد قال في مرضه: قالت: هل بقي عندك نفقة؟ قلت: لا، فقال: أي شيء تريدين؟ فقلت: أخرج هذه الخابية الى السوق للبيع، قال: فاذا فعلت ذلك، انكشف حالنا، فقال الناس: انما باعوها من الحاجة.
وكان عندنا خروف أهداه لنا بعض اخواننا، فأمر باخراجه الى السوق، فبيع بعشرة دراهم.
فقال لي: اعزلي درهما لحنوطي، وأنفقي سائرها.
قالت: فمات وما بقي من الدراهم الا الدرهم الذي أمر بعزله لحنوطه، رضي الله عنه ونفغنا ببركاته.
يا من تحدّثه الآمال، دع عنك هذه الوساوس، متى تنتبه لصلاحك أيها الناعس، متى تطلب الأخرى، يا من على الدنيا يتنافس. متى تذكر وحدتك اذا انفردت عن كل مؤانس، يا من قلبه قد قسا وجفنه ناعس.
وأنشدوا:
اني بليت بأربع ما سلّطت الا لعظم بليّتي وشقائي
ابليس والدنيا ونفسي والهوى كيف التخلص من يدي أعدائي
وروي عن عبد الأعلى بن علي رضي الله عنه قال: صعدت على جبل لبنان، لأرى من أتأدب به وأتهذب بأخلاقه، فدلّني الله على أحدهم في مغارة، فوجدت فيها شيخا تلوح على وجهه الأنوار وقد علته السكينة والوقار، فسلمت عليه، فأحسن الرد، فبينما أنا قاعد عنده، واذا أنا بمطر عظيم وسيل شديد، فاستحييت أن أوي الى المغارة من غير اذنه، فناداني وآواني، وأقعدني على صخرة بازائه، وكان يصلي على مثلها، وقد ضاق صدري من المطر، وتضييقي عليه في موضعه، فناداني، وقال لي: من شرائط الخدّام، التواضع والاستسلام. فقلت له: ما علامة المحبة؟
قال: اذا كان البدن كالحية يلتوي، والفؤاد بنار الشوق يكتوي، فاعلم أن القلب على المحبة منطو، وكل نقمة يشاهدها المحب دون الهجر فهي نعمة، فالكل عنه عوض الا المحبوب. ألا ترى الى آدم عليه السلام شاهد العتاب والنقمة، ولكنه لما لم يكن معه هاجر، كانت منحا ونعمة، وجعل يقول رضي الله عنه:
جسد ناحل ودمع يفيض وهم قاتل وقلب مريض
وسقام على التنائي شديد وهموم وحرقة ومضيض
يا حبيب القلوب قلبي مريض والهوى قاتلي ودمعي يفيض
ان يكن عاشق طويل بلاه فبلائي بك الطويل والعريض
قال: وصاح الشيخ صيحة، فسقط ميتا، فخرجت لأنظر معي من يدفنه وأجهزه، فما وجدت أحدا.
فرجعت الى المغارة، فطلبته، فما وجدته، فبقيت متحيّرا في أمره متفكرا، فسمعت هاتفا يقول:
رفع المحب الى المحبوب وفاز بالبغية والمطلوب
ونفعنا الله ببركاته ورضي الله عنه.
- 11-09-2007, 08:27 PM #42
الفصل التاسع عشر
الفصل التاسع عشر
يا أخي، لا يبيع الباقي بالفاني الا خاسر، واياك والنس بمن ترحل عنه، فتبقى كالحائر، رفيق التقوى رفيق صادق، ورفيق المعاصي غادر، مهر الآخرة يسير، قلب مخلص، ولسان ذاكر، اذا شبت ولم تنتبه، فاعلم أنك سائر، فديت أهل التهجد بلسان باك وجفن ساهر، كم لهم على باب تتجافى جنوبهم من تلمق ودمع قاطر، اذا تنسّموا نسيم السحر أغناهم عن نسيم العذيب وحناجر، عصفت بهم رواشق الاستغفار البواكر، عمروا منازل الخدمة، ومنزل الغفلة خراب داثر.
قال ذا النون المصري رضي الله عنه: رأيت شابا في بعض السواحل مصفرّ اللون على وجه نور القبول، وآثار القرب وعز الأنس، فقلت: السلام عليك يا أخي، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقلت له: ما علامة المحبة، فقال: التشتت في البلاد، والتهتك في العباد، وتحريم الرّقاد، وخشية البعاد.
وأنشدوا:
أبليت من أحببت يا حسن البلا وخصصت بالبلوى رجالا خشعا
أحببت بلواهم وطول حنينهم وأطلت ضرّهم لكي يتخضعا
اخواني: كم الى دير المحبة من موارد ومصادر، نبهوا رواهب الشوق لتكون اليهم سائر، طلبوا منه شرابا عتيقا جلّ عن معاصرة العاصر، فتح لهم دنان التوله، فانفض منه رحيق التحقيق له شعاع يملأ البصائر، أدار عليهم أقداح الوجد، فحنّوا الى المزيد حنين الذاكر، خامرهم سكر التولة، فبدا لهم كل غائب وحاضر، استزادوا من هذا الشراب الطيّب الطاهر، بذلوا فيه النفوس والأوطان والغائب والحاضر، أطربهم تلحين أهل دير المحبة، فتواجدوا تواجد كابر عن كابر، محبوبهم ساقيهم، ومجلس أنسهم منضدّ بأنواع الأزاهر، ملوك في وقت السكر، عبيد في وقت الصخوة، فهم بين غائب وحاضر.
شربة من هذا المدام رخيصة ببذل الكون وتأوائل والأواخر، لا يتركه الا سيفه ليس لتيه شقائه من آخر، اقبل نصحي وبادر قبل غلق بابه وباكر، يغنيك عن كل مطعوم ومشروب، وعن كل نسيم عاطر.
منها شرب آدم، وناح عليها نوح، ونشر زكريا بالمناشر، وعرض الخليل على النار،، فما أحسّ بما هو اليه سائر، وعاجل الشوق موسى فقال: أرني لعلي أرى المنظور في الناظر، وكم لداود منسكر وأشواق وتلحين مزامر، وهام عيسى في البراري لا يأوي على باد ولا حاضر، شربها شربا نبينا محد صلى الله عليه وسلم يوم السبت، فألقت فيه بقيّة أوجبت المدائح والمفاخر.
لك انفتح الكون، فاختر هذا الشراب الطيب الطاهر، قطرة منها نهر الكوثر، تروى منها في ظمأ الهواجر، دارت على الصدّيق والفاروق والسعيد الى العاشر. اجتمعوا لشربها في الأول، واجتمعوا لشربها في الآخر، أبقوا في أدنان المعاني بقايا الكرام فعل الأكابر، صفت لأهل الصفة، فصفت بشربها السرائر.
فاخلع في شربها العذار، فما لك ان خلعت من عاذل، وان لم تخلعه فما لك من عاذر، وزمزم وأطرب وارقص، فالكون كونك، ومحبوبك حاضر. صن موضع السر عن سواه، وايّاك والخاطر الخاطر، ان نظرت لغيره، أبعدك وما لك ان بعدت من ناصر.
يا معشر الفقراء، هذه سماعكم، فأين من هو معي حاضر، يا أرباب الأحوال، معكم أتحدث، ولكم أصف، ولركبكم أساير، يا معشر التائبين، أما يهون عليكم بذل المعصية لنيل هذا الجوهر الفاخر، ان فاتك هذا السماع ولم تطرب، فأنت في بريّة الحرمان حائر.
قا أبو بكر الوراق رضي الله عنه: حقيقة المحبة مشاهدة المحبوب على كل حال، فان الاشتغال بالغير حجاب، وأصله التسليم واليقين، فانها يبلغان الى درجات المتقين في جنات النعيم.
وأنشدوا:
أحبّ الصالحين ولست منهم وأطلب أن أنال بهم شفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
ويروى عن ذي النون المصري رضي الله عنه أنه قال: بينما انا في بعض الفيافي والقفار، أطوف، واذا بغلام قد انتقع لونه ونحل جسمه، يتلألأ نور الخدمة بين عينيه، وينطق آثار القبول من بين وجنتيه، وعلى وجهه سمت الطاعة والمجاهدة، وهيأة المؤانسة والمشاهدة، وعليه طمران، وعلى بدنه جبّة صوف متفتقة الأكمام والذيول، وعلى أحد كميّه مكتوب:{ ان السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسؤولا} الاسراء36. وعلى الكم الآخر مكتوب:{ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}النور 24. وعلى أذيالها مكتوب:{ ونحن أقرب اليه من حبل الوريد} ق 16. وعلى ظهرها مكتوب:{ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} الحاقة 18.
وعلى رأسه مكتوب:
حبّ مولاي بلائي حيث مولاي دوائي
فما رأيت أنظف من طمرين كانا عليه، فتهيأت لخطابه، ثم دنوت منه بعد ساعة، فقلت: السلام عليك يا عبد الله، فقال: السلام عليك عليك يا ذا النون، فقلت له: ومن أين عرفتني يا أخي؟! فقال: اطلعت حقائق الحق من ضميري على مكنون ضميرك، فشاهد صفاء معرفتك في غياهب غيوب همتك، فتناطقا وتعانقا، فعرّفني أنك ذو النون المصري.
فقلت له: يا أخي ما هي ابتداء المحبة؟
فقال: الاعتبار بهذه الآية التي تراها وتسمعها، وأشار الى المكتوبة على طمريه، فقلت له يا أخي وما انتهاء المحبة، فقال: يا ذا النون محبوب بلا انتهاء ومحبته بابتهال محال، فقلت له: يا أخي الزهد في الدنيا طلب للعقبى، أم طلب للمولى؟
فقال:يا ذا النون، الزهد في مخلوق لطلب مخلوق آخر خسران، وانما يصلح الزهد في الدنيا المخلوقة لطلب المولى الخالق.
يا ذا النون، صغرت همة عبد رضيت من محبوب قديم بجنة مخلوقة. انما معنى الزهد: التجنّب عن الأغيار، وتتبع الأخيار، ومشاهدة الآثار لوجود الملك الجبار، فمن طلب الأغيار، فمطلوبه مشهوده، ومن طلب الجبار، فمطلوبه محبوبه، فالمخلوق اذا رضي بمخلوق مثله، فالمشاكلة مقصودة.
يا أخي ذا النون: الدّون كل الدّون والمغبون كل المغبون من هجر لذة الكرى والهوى، وأبغض طيب الدنيا، ثم رضي بدون المولى، وكدّ نفسه وهجر دنياه، رهبة أن تكون النار مثواه، أو رغبة أن تكون الجنة مأواه.
فقلت له: يا أخي: تصبرون في هذه الفيافي والمهالك المقحطة بلا زاد؟.
فغضب، وقال: يا بطّال، ما هذا الاعتراض على من لم يطلعك على حاله، ولا يأتمنك على سره، أما أمرنا في حال المأكول والمشروب، فهكذا، فوكز برجله اليمنى الأرض، فاذا بعين من سمن وعسل، فأكل وأكلت معه، ثم وكز الأرض برجله اليسرى فاذا بعين من الماء أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، فشرب وشربت معه، وردّ الرمل عليهما، فعادت الأرض كما كانت، كأن لم يكن بها شيء قط، ثم ولى عني وتركني، فبقيت باكيا، ومما عاينت متعجبا، رضي الله عنه ونفعنا بأمثاله.
- 13-09-2007, 10:51 AM #43
الفصل العشرين (كل عام و أنتم بخير)
الفصل الموفى عشرين
يا أسيرا في قبضة الغفلة، يا صريعا في سكرة المهلة، يا ناقض العهد، انظر لمن عاهدت في الزمن الأول، أكثر العمر قد مضى، وانت تتعلل، يا مدعوّا الى نجاته وهو يتوانى، ما هذا الفتور والعمر قد تدانى، كأنك بالدمع يجري عند الموت هتانا.
يا أخي ما أحسن ما كنت فتغيّرت، ما أقوم جادتك، فكيف تعثرت؟ يا معاشر المطرود عن رفاق التائبين { وما من غائبة في السماء والأرض الا في كتاب مبين} النمل 75.
كان بعض الأغنياء كثير الشكر فطال عليه المد، فبطر وعصى، فما زالت نعمته ولا تغيّرت حالته، فقال: يا رب، تغيّرت طاعتي، وما تغيّرت نعمتي، فهتف به هاتف يقول: يا هذا: ان الأيام الوصال عندنا حرمة وذمام، حفظناها نحن لك، وضيّعتها أنت لنا.
وأنشدوا:
سأترك ما بيني وبينك واقفا فان عدت عدنا والوداد سليم
تواصل قوما لا وفاء بعهدهم وتترك مثلي والحفاظ قديم
قال رجل لحاتم الأصم رضي الله عنه: أوصني بشيء أتصل به الى باب الله سبحانه وتعالى، فقد عزمت على سفر الحج.
فقال: يا أخي، ان أردت أنيسا، فاجعل القرآن أنيسك، وان أردت رفيقا، فاجعل المائكة رفقاءك، وان أردت حبيبا، فالله سبحانه يتولى قلوب أحبابه، وان أردت الزاد، فاليقين بالله سبحانه وتعالى نعم الزاد، واجعل البيت قبلة وجهك، وطف بسرّك حوله.
وقال عطاء السليمي لعمر بن يزيد السلمي: أوصني:
فقال: يا أحمد، الدنيا بلاء في بلاء مع هوى النفس ومقارنة الشيطان، والآخرة بلاء في بلاء مع الموافقة والحساب. فيا لها من نفوس مضمحلة فيما بينهما، فحتى متى تسهو وتلعب وملك الموت في طلبك لا يغفل عنك، والملائكة يكتبون عليك أنفاسك.
قال: فخرّ مغشيا عليه.
يا من صحيفته سوداء، اغسلها بالدموع، وتعرّض لمجال المتهجدين، وقل: ضال ضل عن الطريق مقطوع، وهذا مأتم الأحزان، الى أي وقت تدّخر الدموع، هذا مجلس الشكوى، هذا وقت الرجوع.
فبادروا اخوتي، وافهموا أسرار المراد:{ فستذكرون ما أقول لكم وأفوّض أمري الى الله ان الله بصير بالعباد} غافر 44.
وأنشدوا:
ما الذنب لي فيما مضى سالفا الذنب للدهر وسوء القضا
فامنن وجد بالصفح عن مذنب معترف بالذنب فيما مضى
قد ظل من خوفك في حيرة في قلبه منك لهيب الفضا
ان كان لي ذنب فلي حرمة توجب لي منك جميل الرضا
ومن كتاب لوامع أنوار القلوب، قال الأصمعي: كنت مارا في البادية، واذا أنا بامرأة كأنها فلقة قمر، فدنوت منها، وسلمت عليها، فأحسنت اليّ الرد، ثم قلت: يا جارية، كلّي بكلّك مشغول، فقالت في الحال: كلّي لكلّك مبذول، ولكن ان أعجبك حسني فانظر خلفك فانك ترى من هي أحسن مني، فنظرت خلفي، فما رأيت أحدا، فصرخت علي وقالت: اليك عني يا بطّال، لما رأيتك من بعيد حسبتك عارفا، فلما تكلمت حسبتك وامقا، واذا بك يا مسكين لا عارفا ولا وامقا، تدّعي محبتي وتنظر الى غيري، وأنت لم تصل الى قربي، ثم ولّت عني، ورمقت الى السماء بطرفها، ونادت، آه.. آه، حب الوصال شرّدني، آه آه، خوف القطيعة أزعجني، آه من الانفصال قبل الاتصال، وجعلت تقول:
حبي في ذي القفار شرّدني آه من الحب ثم آه
خوف فراق الحبيب أزعجني آه من الخوف ثم آه
شبه حالي بتاجر غرق نجا من البحر ثم تاه
ومن الكتاب المذكور: قال سالم: بينما أنا سائر مع ذي النون المصري في جبل لبنان، اذ قال مكانك يا سالم حتى أعود اليك، فغاب عني ثلاثة أيام في الجبل، وأنا أطعم نفسي من نبات الأرض، وأسقيها من غدرانها اذا طالبتني بشيء من القوت.
فلما كان بعد ثلاثة أيام، عاد اليّ وهو متغيّر اللون، ذاهب العقل.
فقلت له: هل عارضك السبع يا أبا الفيض؟.
فقال: دعني من تخويف البشرية، اني دخلت كهفا من كهوف هذا الجبل، فرأيت فيه رجلا أبيض الرأس واللحية، أشعث أغبر، نحيفا، كأنه خرج من قبره، ذا منظر يهول وهو يصلي، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، وقال لي: الصلاة، وقام الى الصلاة، فلم يزل راكعا ساجدا حتى صلى العصر واستند الى حجر كان بازاء محرابه، وهو لا يكلمني، فبدأته الكلام، وقلت له: يرحمك الله أوصني بشيء أنتفع به، وادع لي بدعوة.
فقال لي: يا بني، من ىنسه الله سبحانه بقربه، أعطاه أربع خصال: عزا من غير عشيرة، وعلما من غير تعلّم، وغنى من غير مال، وأنسا من غير جماعة، ثم شهق شهقة لم يفق منها الا بعد ثلاثة أيام، حتى ظننت أنه ميّت، فلما أفاق قام وتوضأ من عين كانت الى جنبه وسألني عما فاته من الصلاة، فأخبرته، فقضاه، ثم قال لي:
ان ذكر الحبيب هيّج قلبي ثم حب الحبيب أذهل عقلي
وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين. وأنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام.
فقلت: يرحمك الله، وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة نك. فقال: أحبّ مولاك ولا تحب غيره، ولا ترد بحبّه بدلا، فالمحبون لله سبحانه هم تيجان العبّاد، وأعلام الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه.
ثم صرخ صرخة ووقع فحرّكته، فاذا هو ميّت، فما كان الا هنيهة، واذا بجماعة من العباد قد انحدروا من الجبل فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، فسألتهم ما اسم هذا الشيخ الصالح؟ فقالوا: شيبان المصاب.
قال سالم: فسألت عنه أهل الشام فقالوا نعم، رجل مجنون، خرج من أذى الصبيان، فقلت لهم: هل تعرفون من كلامه شيئا؟ قالوا: نعم كان اذا ضجر يقول: اا أنا بك لم أجن سيدي فبمن أجن. رحمه الله ونفعنا به.
- 14-09-2007, 07:42 PM #44
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الحادي والعشرون
يا أخي، لله درّ أقوام نعمّهم مولاهم بقربه، فحجبهم عن خطرات الوسواس. حمي اقليم قلوبهم نت غبار الشهوات من حمايته بحراس، قبلوا أمره بالقبول، وقاموا به على العينين والرأس، قدّموا زاد الأعمال لسفر الموت وظلمة الأرماس، يا بطّال، أبطال ميدان الدّجى لله درّهم من أبطال وأفراس، خلع عليهم خلعة الرضا، ونادهم مرحبا بالأحباب الأكياس،{ كنتم خير أمة أخرجت للناس} آل عمران 110.وأنشدوا:أيا نفس توبي قبل أن ينكشف الغطا وأدعى الى يوم النشور وأجزعفلله عبد خائف من ذنوبه تكاد حشاه من أسى تتقطعاذا جنّه الليل البهيم رأيته وقد قام في محرابه يتضرّعينادي بذل يا الهي وسيدي ومن يهرب العاصي اليه ويفزعقصدتك يا سؤلي ومالي مشفع سوى حسن ظني حين أرجو وأطمعفجد لي بعفو وامح ذنبي ونجّني من النار يا مولى يضرّ وينفعبهذا ينال الملك والفوز في غد ويجزى نعيما دائما ليس يقطعوقف الفضل الجوهري العالم في الحرم متوجها الى الكعبة وهو محرم ثم قال بأعلى صوته:يا تلفى بحتوف المراقبة والمعرفة، يا قتلى بسيوف المؤانسة والمحبة، يا حرقى بنار الخوف والاشتياق، ويا غرقى في بحر المشاهدة والتلاق، هذه ديار المحبوب، فأين المحبون؟ هذه أسرار القرب، فأين المشتاقون؟ هذه آثار الديار والربوع فأين القاصدون؟ هذه ساعة العرض والاطلاع على الدموع فأين الباكون؟.ثم شهق شهقة عظيمة وغشي عليه، فأفاق بعد ساعة وهو يقول:مذ تبدي لناظري بلبل الشوق وخاطريحاضر غير غائب ساكن في الضمائرهو كنزي الذي بدا في الرسوم والدوائرقال الراوي: فدنوت منه وقلت له: يا سيدي ما علامة المحبين لله؟.قال: ان المحبين عند ظلام الليل عند الله سبحانه وتعالى نشاطا، وبينهم وبينه انبساطا، شغلهم الأنس بمعبودهم عن لذة الكرى، وقطعهم الشغل به عن جميع الورى، ولا يؤثرون على مناجاته مناما، ولا يختارون على كلامه كلاما، عرفه من عرفه، وذاقه من ذاقه، واستأنس به من استطابه.سبحان من حكم بالفناء على الخلائق، فتساوى عنده الملوك والعبيد، تفرّد بالبقاء، وتوحّد بالقدم، وصرف أقداره في الملك بما يريد، ظهر افتقار الكل اليه، الصالح والطالح والغويّ والرشيد، { يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن} الرحمن 29.جواد غمر الكل عطاؤه، فأين يفر العاصي ومن يجبر الفقيد؟ كم جدّل القضاء من زعيم، وكم أدخل للحضر من طريد، ما أغفل أهل المعاصي عن قسمة العباد، فمنهم شقي ومنهم سعيد.وأنشدوا:احدى وستون لو مرّت على حجر لكان من حكمها أن يخلق الحجرتؤمّل النفس آمالا لتبلغها كأنها لا ترى ما يصنع القدرقال أبو اسحاق الجبيلي: قدمت على علي بن عبدالحميد الغضائري، فوجدته أفضل خلق الله عبادة، وأكثرهم مجاهدة، وكان لا يتفرّغ من صلاته آناء ليله ونهاره، فانتظرت فراغه. فلم أصبه ولا وجدته.فقلت له: انّا قد تركنا الآباء والأمهات والأهلين والأوطان ولبنين والبنات بالراحلة اليك، فلو تفرّغت ساعة تحدثنا بما آتاك الله من العلم.فقال: أدركني دعاء الشيخ الصالح سريّ السّقطي رضي الله عنه، جئت اليه وقرعت عليه الباب، فسمعته يقول قبل أن يخرج اليّ مناجيا: اللهم من جاءني يشغلني عن مناجاتك، فأشغله بك عني، فما رجعت من عنده، حتى حبّبت اليّ الصلاة والشغل بذكر الله تعالى، فلا أتفرّغ الى شيء سواه، ببركة ذلك الشيخ.قال أبو اسحاق: فرأيت كلامه يخرج من قلب حزين، وهم كمين، والدمع يسابقه رضي الله عنه.سبحان من ألف بحكمته بين لطائف الأرواح، وكثائف الأشباح، جعل الليل والنهار جناحي الأعمال، يطيران للفناء بلا ريش ولا جناح، سقى أرواح المحبين شراب المحبة، فلله ما أحلاه من راح، غني لهم في مجلس أنسهم معبد الوجد، فشربوا بالدّنان، لا بالأقداح، زيّنوا روضة الدجى بأزهار التهجد، واصطبحوا على الأذكار أي اصطباح، فهم بين صبوح وغبوق وبين ريحان وراح، قلوبهم في قالب الابتلاء، تنادي بلسان تصبّرهم: لا براح. خلع عليهم خلعة الرضا، وأجلسهم بين أفراح من الشوق وافتراح. انظروا الى الكون، فما رأوا سواه، فليس عليهم في هيمانهم جناح. غشي بصائرهم نور معرفته، فترنّم عارفهم بألسنة من التوحيد، فصاح.وأنشدوا:يا أعز الناس عندي كيف حتى خنت عهديسوف أشكو لك حالي فعسى شكواي تجديأنت مولاي تراني ودموعي فوق خديأقطع الليل أقاسي ما أقاسي فيه وحديقال ذو النون المصري رضي الله عنه: عطشت في بعض أسفاري عطشا شديدا، فعدلت الى بعض السواحل أريد الماء، فاذا أنا بشخص قد ائتزر بالحياء والاحسان، وتدرّع بدراع البكاء والأحزان، قائم على ساحل البحر يصلي، فلما سلّم دنوت منه، وسلمت عليه قال: وعليك السلام يا ذا النون.قال: فقلت له: يرحمك الله، من أين عرفتني؟!.قال: اطّلع شعاع أنوار المعرفة من قلبي على صفاء نور المحبة من قلبك، فعرفت روحي روحك بحقائق الأسرار، وألف سريّ سرّك في محبة العزيز الجبار.قال: فقلت: ما اراك الا وحيدا!.قال: ما الأنس بغير الله الا وحشة، وما التوكل بغيره الا ذل.فقلت له: أما تنظر الى تغطغط هذا البحر، وتلاطم هذه الأمواج؟.فقال: ما بك من العطش أكثر من ذلك.فقلت: نعم، فدلني على الماء بقرب منه فشربت، ورجعت اليه، فوجدته يبكي بشهيق وزفير.فقلت له: يرحمك الله، ما يبكيك؟ّ.فقال: يا أبا الفيض، ان لله عبادا سقاهم بكأس محبته شربة أذهبت عنهم لذة الكرى.قال: فقلت له: دلني على أخل ولاية الله يرحمك الله.قال: هم الذين أخلصوا في الخدمة، فاستخصّوا بالولاية، وراقبوا مولاهم، ففتح لهم في نور القلوب.قال: فقلت له: ما علامة المحبة؟.فقال: المحب لله غريق في بحر الحزن الى قرار التحيّر.قال: فقلت له: ما علامة المعرفة؟.قال: العارف بالله لم يطلب مع معرفته جنّة، ولا يستعيذ من نار، فعرفه له ولم يعظم سواه معه.ثم شهق شهقة عظيمة، فخرجت روحه، فواريته في الموضع الذي مات فيه، وانصرفت عنه، رحمه الله ونفعنا ببركاته.
- 15-09-2007, 08:27 AM #45
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
يا أخي لا تغسل أدناس الذنوب الا بماء المدامع، لا ينجو من قتار المعصية الا من يسارع، أحضر قلبك ساعة، عساه بنائحة الموعظة يراجع، كم لي أتلو عليك صحف الموعظة، وما أظنك سامع.
لكن يوم المعصية ما أنحسه من طالع، ويوم الطاعة مختار وكل سعد فيه طالع، أطلب، ويحك، رفاق التائبين، وجدد رسائلم للحبيب وطالع، مصباح التقوى يدل على الجادة، وكم في ظلمة الغفلة من قاطع، ابك، ويحك، على موت قلبك وعمى بصيرتك، وكثرة الموانع. اذا لم يعظك الدهر والشيب والضعف، فما أنت صانع، فبالله يا اخواني بادروا بالمتاب، وراجعوا أنفسكم قبل يوم الحساب.
ما اعتذاري وأمر ربي عصيت حين تبدي صحائفي ما أتيت
ما اعتذاري اذا وقفت ذليلا قد نهاني ما أراني انتهيت
يا غنيا عن العباد جميعا وعليما بكل ما قد سعيت
ليس لي حجة ولا لي عذر فاعف عن زلتي وما قد جنيت
قال علي بن يحيى في كتاب لوامع أنوار القلوب: صحبت شيخا من عسقلان سريع الدمعة، حسن الخدمة، كامل الأدب، متهجدا بالليل متنسكا في النهار، وكنت أسمع أكثر دعائه الاعتذار والاستغفار، فدخل يوما في بعض كهوف جبل اللكام وغيرانه، فلما أمسى رأيت أهل الجبل وأصحاب الصوامع يهرولون اليه، ويتبركون بدعائه، فلما اصبح وعزم على الخروج، قام أحدهم، وقال: عظني، قال: عليك بالاعتذار، فانه ان قبل عذرك وفزت بالمغفرة، سلك بك الى درجات المقامات، فوجدتها أمانيك، ثم بكى وشهق وخرج من الموضع، فلم يلبث الا قليلا حتى مات.
قال: فرأيته في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: حبيبي أكرم من أن يعتذر اليه مذنب، فيخيب ظنه ولم يقبل عذره. قبل الله عذري وغفر ذنبي، وشفّعني في أصحاب اللكام.
لا شيء أعظم من ذنبي سوى أملي في حسن عفوك عن جرمي وعن عملي
فان يكن ذا وذا فالذنب قد عظما فأنت أعظم من ذنبي ومن زللي
ويروى عن يوسف بن عاصم أنه ذكر له عن حاتم الأصم أنه كلن يتكلم على الناس في الزهد، والاخلاص، فقال يوسف لأصحابه: اذهبوا بنا اليه نساله عن صلاته ان كان يكملها، وان لم يكن يكملها، ننهيناه عن ذلك.
قال: فأتوه وقال له يوسف: يا حاتم، جئنا نسألك عن صلاتك، فقال له حاتم: عن أي شيء تسألني عافاك الله؟ عن معرفتها أو عن تأديتها؟
فالتفت يوسف الى أصحابه، وقال لهم: زادنا حاتم ما لم نحسن أن نسأله عنه. ثم قال لحاتم: نبدأ بتأديتها.
فقال لهم: تقوم بالأمر. وتقف بالاحتساب وتذخل بالسنة، وتكبّر بالتعظيم، وتقرأ بالترتيل، وتركع بالخشوع، وتسجد بالخضوع، وترفع بالسكينة، وتتشهد بالاخلاص، وتسلم بالرحمة.
قال يوسف: هذا التأديب فما المعرفة؟.
قال: اذا قمت اليها فاعلم أن الله مقبل عليك، فأقبل على من هو مقبل عليك، واعلم أن جهة التصديق لقلبك، أنه قريب منك، قادر عليك، فاذا ركعت: فلا تؤمّل أن تقوم. ومثل الجنة عن يمينك، والنار عن يسارك، والصراط تحت قدميك، فاذا فعلت فأنت مصل. فالتفت يوسف الى أصحابه، وقال: قوموا نعيد الصلاة التي مضت من أعمارنا.
يا من مات قلبه، أي شيء تنفع حياة البدن اذا لم تفرّق بين القبيح والحسن.
سلبك المشيب من الشباب، فأين البكاء، وأين الحزن؟ اذا كان القلب خرابا من التقوى، فما ينفع البكاء في الدّمن. يا قتيل الهجران، هذا أوان الصلح بادر عسى يزول الحون.
وقال عاصم بن محمد في كتاب لوامع أنوار القلوب: كان لي معامل يهودي، فرأيته بمكة متضرعا مبتهلا فأعجبني حسن اسلامه. فسألته عن سبب اسلامه.
فقال: تقدّمت الى أبي اسحاق ابراهيم الآحري النيسابوري، وهو يوقد في تنّور الآجر، اطلب دينا كان لي عليه، فقال لي: أسلم، واحذر نارا وقودها الناس والحجارة، فقلت: لا بأس عليك يا أبا اسحاق، فأنت أيضا فيها. قال: فعسى تعني قوله سبحانه{ وان منكم الا واردها} مريم 71. فقلت: نعم. فقال لي: أعطني ثوبك، فأعطيته ثوبي، ثم لف ثوبي في ثوبه، ثم رمى بهما في التنور، وصبر ساعة طويلة ثم قام واجدا شاهقا، باكيا ودخل في الأتون، يعني مستوقد النار وهي تتأجج لهيبا وزفيرا، وأخذ الثياب من وسط النار، وخرج على الباب الآخر، فهالني ذلك من فعله، فهرولت اليه متعجبا، واذا بالرزمة صحيحة كما كانت، فحلها، واذا بثيابي قد احترقت كأنها فحمة في وسط ثيابه، وثيابه صحيحة لم تمسها النار.
ثم قال: يا مسكين، هكذا يكون{ وان منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا} مريم 71.
فأسلمت على يديه في الحال، وهذا ما رأيت من احوال الرجال.
لله درّ قوم ملأ قلوبهم بأنوار الحكمة والرشاد، حرّك ساكنا وجدهم، فتمايلهم كالغصن الميّاد، صفت زجاجة أرواحهم ورقّ لهم شراب وجدهم، وطاب لهم سماع الانشاد.
ادرا عليهم حميا الحماية، فألفت عيونهم السهاد، فمنهم سكران ونشوان، وكل أيامكمهم بمحبوبهم أعياد.
مدّ عليهم أطناب ليل الخلوة غيرة من رقيب الرقاد، فهم يتشاكون الشواق بنفس تلف في محبة أو كاد.
والمحروم نهاره في الشقا وليله في النوم، وعمره في نفاد ركب مركب القضاء للمحنة، ففي أصل تركيبة فساد. ضيّع أيامه في الغفلة، وفي الكبر يبكي على فائت لا يعاد.
فيا معشر المذنبين جدّوا قبل الرحيل عن الأجساد.
قال يوسف بن الحسن: كنت أسير في طريق الشام، اذ عرض لي عارض، فعدلت عن الطريق فهالتني المفازة، فبدت لي صومعة، فدنوت منها، واذا براهب فيها قد أخرج رأسه منها، فأنست به، فلما دنوت منه، قال لي: يا هذا، أتريد موضع صاحبكم؟.
قال: رجل في هذا الوادي على دينكم، متخل عن فتنة الأقران، منفرد بنفسه في ذلك المكان، واشوقاه الىحديثه!.
فقلت له: وما الذي يمنعك عنه، وأنت على قرب منه؟.
فقال: أصحابي أقعدوني في هذا الموضع، وأنا أخشى على نفسي القتل منهم، ولكن اذا مضيت اليه فأقرئه مني السلام، واساله لي في الدعاء.
قال: فمضيت اليه، واذا برجل قد اجتنعت اليه الوحوش، فلما رآني قرب مني وكنت أسمع جلبة عظيمة للقوم، ولا أرى أحدا منهم، فسمعت قائلا يقول: من هذا البطال الذي وطيء محل العاملين؟.
فرأيت رجلا منكّسا راسه مسترسلا في كلانه، تعلوه هيبة ووقار شديد. فسمعته يقول: لك الحمد على ما وهبت من معرفتك، وخصصتني به من محبتك، لك الحمد على آلائ، وعلى جنيع بلائط. اللهم ارفع درجتي الى درجات الأبرار للرضا بحكمك، وانقلني الى درجة الأخيار.
ثم صاح صيحة عظيمة، ثم قال: آه من لي بهم، وخرّ مغشيا عليه، فلم يتحرّك لساني هيبة له، فلما أفاق من غشيته، قال لي: سر زودّط الله التقوى، وسار عني وتركني.
نفعنا الله به، وبأمثاله... آمين.
**
المواضيع المتشابهه
-
الطفلة التي تذرف الحجارة بدلا من الدموع
By شذى22 in forum استراحة اعضاء المتداول العربيمشاركات: 12آخر مشاركة: 30-08-2010, 11:21 PM -
المشاكل الناجمه عن حبس الدموع
By شذى22 in forum استراحة اعضاء المتداول العربيمشاركات: 0آخر مشاركة: 11-08-2010, 10:56 AM -
عندما يبكي الباكون .. تتشابه الدموع ولكن !!
By قحطانية كوووول in forum استراحة اعضاء المتداول العربيمشاركات: 0آخر مشاركة: 25-02-2010, 08:48 PM -
أجمل أنواع الدموع وأكثرها تأثيرا
By قحطانية كوووول in forum استراحة اعضاء المتداول العربيمشاركات: 7آخر مشاركة: 04-06-2009, 09:52 PM -
أين نحن من هذه المرأه؟؟ قصة جعلت الدموع تنهمر
By قحطانية كوووول in forum استراحة اعضاء المتداول العربيمشاركات: 1آخر مشاركة: 05-09-2008, 03:33 AM