مفهوم الجهاد في الإسلام وشروطه وضوابطه










مقدمة

الحمد لله رب العالمين، خلقنا لعبادته، وجعل التنافس في طاعته، وهيَّأَ الجنة لأهل الإيمان والتقوى، وحَذَّرَ أصحاب العقول من فعل الأفعال التي تؤدي بهم إلى جهنم وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرًا، أما بعد:

فمن المعلوم أن الله -عز وجل- جعل التنافس في الدنيا في الأعمال الصالحة للحصول على رضا رب العالمين، ودخول الجنة، ورفعة الدرجة فيها، ومن أعظم ما يوصلنا لذلك الطاعات بأنواعها، سواء كانت بالدخول في دين الإسلام، الذي لا يقبل من العبد عملا إلا بتقديمه، أو كان بصنوف الطاعة التي يفعلها المسلم، فترفع درجته عند ربه، من صلاة وصدقة وصيام وغير ذلك.

الجهاد عبادة

إن مما وردت الشريعة بالترغيب فيه، وبيان عظم أجره عبادة الجهاد، فقد أمر الله بها في مواطن من كتابه، وأمر بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وقد رتب عليها الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والنصوص متواترة في الترغيب في هذه العبادة.

لكن إذا أردنا أن نتقرب إلى الله بهذه العبادة فلا بد أن نعرف معنى هذه العبادة، فلو أراد إنسان مثلا أن يتقرب إلى الله بعبادة الحج ولا يعرف طريقة الحج، ولا يعرف المناسك التي تُؤَدَّى في الحج، لم يصح منه حج حتى يؤدي الحج على وفق المفهوم الشرعي للحج، وهكذا أيضا فيما يتعلق بالجهاد.

لا بد من مراعاة المعنى الشرعي للجهاد فيمن أراد أن يؤدي هذه العبادة، كذلك لا بد من مراعاة الشروط والضوابط الشرعية لهذه العبادة عبادة الجهاد.

يجب مراعاة الشروط والضوابط في العبادات

إن من تقرب إلى الله بعبادة من غير مراعاة لشروطها وضوابطها قد يؤدي من المفاسد أعظم مما يؤدي إليه فعله من المصالح، وأضرب لذلك أمثلة: فمن صلى لله -عز وجل- قد يكون آثما بهذه الصلاة إذا لم يراع الضوابط الشرعية في الصلاة، فلو أدى الصلاة بدون وضوء مع قدرته على الوضوء لم تصح صلاته، وكان آثما بهذه الصلاة لأنه: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ، حَتَّى يَتَوَضَّأَ»(1) ، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلابد أن تكون هذه الصلاة على وفق الطريقة الشرعية.

فلو ابتدع إنسان صلاة على غير طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهَدْيِهِ، كان عمله وصلاته مردودةً عليه غير مقبولة عند الله -عز وجل-، وهكذا أيضا في الجهاد لا بد من مراعاة شروطه وضوابطه الشرعية.

لذا كان تناول هذا الموضوع من الأهمية بمكان، وذلك أنه لا بد قبل كل عمل من معرفة معناه، وحدوده، وضوابطه، لنعبد الله على بصيرة، ولا يكون عملنا مردودًا غير مقبول عند الله -عز وجل- أو قد نستحق به الإثم والخسارة، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.

انحراف الناس في فهم باب الجهاد

إن موضوع الجهاد من المواضيع التي وَلَجَها بعض الناس، فعصوا الله باسم طاعة الله فيها، وذلك أنهم أقدموا على أعمال يظنون أنها من شرع الله في الجهاد، وهي ليست كذلك، فأثمر ذلك سوءًا وضررًا وشرًّا عظيمًا، كما أن بعض الناس قصر في مفهوم الجهاد، ولم يراع المفهوم الشرعي فيه، فكان ذلك سببا في صرف الناس عن هذه العبادة، أو جعل بعض الناس يفسر عبادة الجهاد بغير مفهومها الشرعي، فكم من الدماء قد سفكت بسبب عدم مراعاة هذا المفهوم الشرعي، وعدم ملاحظة الضوابط الشرعية في الجهاد، ومن هنا لا بد من معرفة هذه الضوابط وهذه المعاني، من أجل أن تكون أعمالنا المتعلقة بهذا على وفق الشريعة، وما جاء في الكتاب والسنة.

نتائج الانحراف في باب الجهاد:

*إن من المعلوم أن الدم الحرام من أعظم المحرمات سفكه، كما قال -جل وعلا-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [سورة النساء : الآية 93]، ويشمل ذلك الدم المحرم للمعاهدين والمستأمنين، الذين يدخلون في بلاد المسلمين بأمان وعهد صحيح، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» كما رواه البخاري في صحيحه( 2).

*إن بعض الناس انحرف في فهم الجهاد الشرعي، فأنتج فعله تفرقة بين المسلمين، فكم اقتتل من طوائف من المسلمين بدعوى الجهاد، وليس الأمر كذلك، ومن المعلوم أن الشريعة قد نهت المسلمين عن التفرق وأمرتهم بالاجتماع، وبينت عواقب الاختلاف كما قال -سبحانه-: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ}[سورة آل عمران : الآية 105].

إن التفرق وعدم الاجتماع من أشنع الأعمال عاقبة في الدنيا والآخرة، ولذلك قال الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال : الآية 46] ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ إِلَّا أَهْلُهُ، فَإِذَا اسْتَحَلُّوهُ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ هَلَكَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَجِيءُ الْحَبَشَةُ فَيُخَرِّبُونَهُ خَرَابًا لَا يَعْمُرُ بَعْدَهُ أَبَدًا، هُمُ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ كَنْزَهُ» كما روى ذلك الإمام أحمد في مسنده بسند جيد( 3) . فالخطورة علينا من أنفسنا أعظم من الخطورة علينا من أعدائنا.

ونتيجة لعدم مراعاة الضوابط الشرعية في باب الجهاد تسلط الأعداء على المسلمين، وذلك أن بعض المسلمين ولج هذا الباب بدون معرفة أحكام الجهاد الشرعية، وبدون مراعاة الضوابط، فأدى ذلك إلى اعتداء على الآخرين وإيذاء لهم، فسلط الله الأعداء على بعض المسلمين بسبب هذه الأفعال.

ومما يؤدي إليه عدم مراعاة الضوابط الشرعية في باب الاجتهاد: التعدي على الشرع، وتفسير للمصطلحات الشرعية بغير مراد الله منها، ولا شك أن هذا من القول على الله بلا علم، وهو من أشنع المحرمات وأعظم الذنوب قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة : الآيتان 168- 169] وقال سبحانه: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[سورة طه : الآية 61].

التفسير الصحيح للجهاد

لابد من معرفة مفهوم الجهاد الشرعي، ما هو مراد الشرع بكلمة الجهاد؟ وما هو التفسير الصحيح لكلمة الجهاد في النصوص الشرعية؟

الجهاد الشرعي يشمل كل نصرة لدين الإسلام، سواء أكان نصرة لدين الإسلام باليد، والسِّنَان، والقوة، ومقاتلة الأعداء الذين يعتدون على المسلمين، ولا يمكنونهم من اعتناق دينهم، والسير على تعاليم دين الإسلام، ويشمل ذلك أيضا الدعوة لدين الله، والذب عن محارم الله باللسان، كما ورد في المسند وسنن النسائي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ»( 4)، فدل ذلك على مشروعية الجهاد باللسان، ولا يكون ذلك إلا بالدعوة لدين الله، وببيان محاسن هذا الدين، وعظم الفوائد التي يحصل عليها العباد في آخرتهم من اعتناقهم لدين الإسلام.

وهناك مجاهدة المنافقين كما قال -جل وعلا-: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [سورة التوبة : الآية 73]، ومن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كان معه في المدينة عدد من المنافقين، وقد أخبره الوحي بأن هؤلاء من المنافقين، فماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم حتى نعرف مدلول هذه الكلمة؟ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُهَادِنُهُم، ويُجَادلهم، وكان يدعوهم، وكان -صلى الله عليه وسلم- يبين لهم أحكام الشرع، ويجادلهم بالتي هي أحسن، ويدرأ أفعالهم السيئة ما استطاع، وهذا هو مفهوم جهاد المنافقين من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فالجهاد ليس منحصرًا في القتال، والجهاد الشرعي يشمل مجاهدة النفس على الإقدام على أنواع الطاعات، والبعد عن المعاصي، ويشمل مجاهدة الشيطان في وساوسه التي يقذفها في قلوب العبد، ويشمل جهاد المنافقين فيما يفعلونه بأهل الإسلام، من رغبة في تفريقهم وإبعادهم عن دينهم، ودلالتهم على الخير، وتحذير الناس من سوء ما يفعلونه، وباطن ما يضمرونه لأهل الإسلام، ويشمل أيضا جهاد الكفار المحاربين الذين يحاربون المسلمين، ويصدون عن دين الله، فهذا كله يدخل في أنواع الجهاد في دين الإسلام.

مفاهيم مغلوطة للجهاد

ومن هنا ننبه على بعض المفاهيم المغلوطة التي يُدْخِلُهَا بعض الناس في مفهوم الجهاد، وليست فيما يدخل في مفهوم هذه الكلمة في شرع الله -عز وجل- ودينه، فمن أمثلة ذلك:

*بعض الناس يعتقد أن من مفهوم الجهاد إلزام الناس بالدخول في دين الإسلام، وإلزام الكفار باعتناق دين الإسلام، وهذا ليس من دين الإسلام في شيء، فإن الله -عز وجل- قال {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة: الآية 256].

لقد عاش في دولة الإسلام من عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر كثير من غير المسلمين من اليهود والنصارى والمجوس، ومع ذلك لم يُؤْثَرْ عن أهل الإسلام أنهم ألزموا هذه الطوائف بدخول الإسلام، ولم يُؤْثَرْ عن أحد أنه جعلهم يدخلون في الدين كراهية ، وقد عاش في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة عدد من اليهود الذين صالحهم، وكان يعاملهم بالبيع، والشراء، والاقتراض، ويُجِيب ولائمهم، ولم يكن ذلك منافيا لمفهوم الجهاد الذي كان يقرره النبي -صلى الله عليه وسلم- انطلاقا من النصوص الشرعية، وقد مات النبي -صلى الله عليه وسلم- حين مات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لأهله، فدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعامل غير المسلمين بالبيع والشراء، ولا يلزمهم بالدخول في دين الإسلام، فمن ظن أن من مفهوم الجهاد إلزام غير المسلمين بالدخول في دين الإسلام، فإن ظنه خاطئ لا يوافق المفهوم الشرعي للجهاد.

*ومما أدخله بعض الناس في مفهوم الجهاد، وليس من الجهاد في شيء: الخروج على الولاة، وعدم السمع والطاعة لهم، فقد وجد في العصر الأول في عصر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بعض الطوائف الذين دعوا إلى الخروج عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، والخليفة الراشد باسم الجهاد، وظنوا أن ذلك من مفهوم الجهاد شرعا.

ثم جاءت طوائف المعتزلة والخوارج تقرر أن دين الإسلام يُبْنَى على أصول، وعَدُّوا من هذه الأصول أصل الجهاد، وأدخلوا في هذا الأصل الخروج على الولاة، بينما النصوص الشرعية متواترة في النهي عن الخروج على الولاة، وبيان أن ذلك من المحرمات، ومن الأمور التي لا يرضاها رب العالمين، بل يَسْخَطُ العبادَ على فعلها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ»( 5)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا، فَمَاتَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»( 6).

والنصوص في ذلك كثيرة متواترة، فعندما يأتي إنسان يدخل في مفهوم العبادة الشرعية وهو الجهاد معنى مخالفا لدين الإسلام، مما نهت الشريعة عنه لا نستجيب لما يذكره من دعوى مخالفة لدين الإسلام.

*ومما أدخله بعض الناس في مفهوم الجهاد: السفر المجرد، والانتقال من مكان إلى مكان، فجعلوا هذا هو في سبيل الله، وصرفوا النصوص عن مدلولها الشرعي، وهذا يخالف مقتضى النص الشرعي الذي جاء في تفسير الجهاد.

*ومما فسر به بعض الناس فريضة الجهاد معان مخالفة لدين الإسلام، فقصره بعضهم مثلا على جهاد النفس أو جهاد الشيطان، ولم يُدْخِلُوا جهاد الأعداء بالقوة والسلاح في مفهوم الجهاد، فقصروا الجهاد على بعض مدلوله، فهذا فهم خاطئ لهذه الكلمة الشرعية، يخالف مقتضى النصوص الشرعية التي جاءت بالأمر بالجهاد بالنفس والمال.

*ومما فسر به بعض الناس فريضة الجهاد: قصر بعض الناس مفهوم الجهاد الشرعي في بعض مدلولاته، فأخرجوا شيئا مما دلت النصوص الشرعية على أنه من أنواع الجهاد، ومن أمثلة ذلك: قتال قطاع الطريق الذي يقوم به رجال الأمن، هذا من أنواع الجهاد لأن فيه حماية لأموال المسلمين، ودمائهم، ولأنه يؤدي إلى استقرار أحوال المسلمين، وأمنهم، وطمأنينة قلوبهم، فهذا نوع من أنواع القتال الذي يحقق مقصدًا شرعيا.

ومن أمثلته: قتال البغاة الذين يخرجون عن طاعة الإمام، فإنه من أنواع الجهاد الشرعي الذي جاءت الشريعة به، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- به.

ومن أمثلته: قتال الخوارج الذين يكفرون المسلمين، ويستبيحون الخروج على الولاة، فإنه من أنواع الجهاد الشرعي، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخوارج: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»( 7)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»( 8)، فهذا حديثان صحيحان دلا على مقاتلة هؤلاء البغاة والخارجين عن ولاية الإمام، مما يدل على أن قتالهم نوع من أنواع الجهاد الشرعي.

شروط وضوابط الجهاد الشرعي

لابد من معرفة الضوابط الشرعية للجهاد قبل العمل به، وهذا يدلنا على أهمية العلم بأي عبادة نريد أن نفعلها قبل أن ندخلها، حتى تكون وفق مراد الله -عز وجل- وعلى وفق مراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- بحيث لا نؤدي العبادة خالية من شروطها الشرعية، فتكون مردودة غير مقبولة عند الله -عز وجل-.

الشرط الأول: صلاح النية

من شروط الجهاد الشرعي: صلاح النية، بأن يقصد المرء بعمله وجه الله والدار الآخرة، لا يريد شيئا من الدنيا، ولا يكون جهاده من أجل حزب، ولا جماعة، ولا تنظيم، ولا دنيا يقصدها، وإنما يكون عمله لله -عز وجل-، يريد به وجه الله والدار الآخرة، كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: «سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»( 9)، قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وقد جاءت النصوص الشرعية بالترغيب في إصلاح النية في جميع الأعمال ومنها الجهاد، لتكون تلك الأعمال مقبولة عند الله -عز وجل- كما قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [سورة الإسراء : الآيتان 18-19] وكما قال -جل وعلا-: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود : الآيتان 15- 16]، ومن هنا فلا بد من تصحيح النية في جميع الأعمال لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»(10).

الشرط الثاني: مراعاة المصالح والمفاسد

من الضوابط الشرعية التي جاءت بها الشريعة في باب الجهاد: مراعاة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإن الجهاد ما قُرِّرَ إلا من أجل رفع كلمة الله -عز وجل-، فإذا كانت مقاتلة الإنسان لغيره ستؤدي إلى تسلط الأعداء، وتؤدي إلى جعل الناس يبتعدون عن شريعة الله ودينه، وتؤدي إلى جعل كل من سمع بدين الإسلام ينفر منه ولا يقبله، فحينئذ لا بد من مراعاة المصلحة الشرعية في ذلك.

الشرط الثالث: القدرة على قتال العدو

من الضوابط الشرعية فيما يتعلق بباب الجهاد أن يكون هناك قدرة على مقاتلة العدو، فإن لم يكن بالمسلمين قدرة على مقاتلة العدو، فإنه حينئذ لا يجوز لهم الدخول في هذا الباب حتى يكون لديهم القوة والقدرة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الإسلام لم يشرع له الجهاد، بل قد نهي عن القتال لكون أهل الإسلام ليس لهم دولة ولا إمام، ولكون أهل الإسلام لم تكن قدرتهم مكافأة مع أعدائهم، فلو دخلوا مع أعدائهم في قتال لأدى ذلك إلى تسلط الكفار على المسلمين، وأدى ذلك إلى القضاء على أهل الإسلام، ويقطعون الخير الذي أنزله الله -عز وجل- على نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

والقدرة تكون في الأموال والسلاح والأبدان، ولهذا أمر الله -عز وجل- بإعداد القوة كما قال -سبحانه-: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [سورة الأنفال : الآية 60].

الشرط الرابع: مراعاة العهود والمواثيق

ومن الضوابط الشرعية في باب الجهاد: مراعاة العهود والمواثيق التي يعقدها أهل الإسلام، فإذا كان هناك عهد وميثاق، فإنه لا يجوز نقضه باسم الجهاد، وإذا خِيفَ من العدو أن يقاتل المسلمين في وقت العهد والميثاق فإنه حينئذ يُبَلَّغُونَ بانتهاء العهد والميثاق، كما قال -سبحانه-: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [سورة الأنفال : الآية 58] يعني: حتى تكونوا جميعا على حال متساوية من العلم بإمكان غزو الآخرين لكم.

إن الشريعة نصت على وجوب التزام العهود والمواثيق في كثير من النصوص الشرعية، منها: قول الله -جل وعلا-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة : الآية 1]، وقوله -سبحانه-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [سورة الإسراء : الآية 34 ].

وجاءت الشريعة بالتحذير من الخيانة والترهيب منها، وبيان سوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»( 11)، وجاء في الحديث الصحيح أن من خصال المنافق أنه: «إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»( 12).

ومما يتعلق بمراعاة العهود والمواثيق: أن الإمام الأعظم إذا عاهد قومًا، أو أَمَّنَهُم لزم من تحت يده أن يلتزموا بما صدر من الإمام من عهد وميثاق، ويحرم عليهم أن ينقضوا ذلك العهد. قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- : "وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ".( 13) ويدل على هذا المعنى ما وقع في صلح الحديبية، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صالح قريشًا على ترك القتال مدة، وكان فيه بعض البنود التي لم يرضها بعض صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،لم يستجز أحد من المسلمين أن يقول: إن ذلك الصلح إنما عقده الإمام فلا يلزمني، لأنني لم أعقده .

الشرط الخامس: الجهاد يجب أن يكون مع إمام

من الضوابط المتعلقة بالجهاد: أن الجهاد لا بد أن يكون مع إمام، إذ لو لم يكن الجهاد مع إمام لكان ذلك فوضى، ولكان سببا من أسباب تفرق المسلمين، وتسلط العدو عليهم، لأنه لا بد في الجهاد من ولاية يرجع الناس إليها، ويستأمرونها، ويستأذنونها، وتجتهد في أحكام الجهاد، وتنظر ما يُصْلح المسلمين، وما يلحق السيئات والعواقب الرديئة بهم، ويعرف مكامن العدو، ولو لم يكن هناك ولاية وإمامة فلا يكون هناك جهاد، ويدل على ذلك النصوص الشرعية الثابتة منها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَدَلَ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ، وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ»( 14) فدل ذلك على أن القتال لا بد فيه من إمام.

ويدل عليه أيضا قول الله -عز وجل-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [سورة التوبة : الآية 38] {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا } [سورة التوبة : الآية 38]، فدل ذلك على أن الذين يأمرون بالنَّفْر هم أهل الولاية، وهو الإمام الأعظم كما في الحديث: «إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»( 15).

ومن الأدلة: قوله -سبحانه- {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [سورة النور : الآية 62].

والولاية تكون في كل بلد مستقل عن البلد الآخر، متى استقل إمام كل بلد عن الأئمة الآخرين، فلا يصح لإنسان يكون مقيما في بلد أن يقول: إني سأطيع إمام البلد الآخر، لأن لكل إمام الولاية على البلد الذي هو فيه.

إن من لم تصح له ولاية، ولا بيعة، ولا إمامة، لا يدخل في هذا الباب، ولا يكون من أئمة المسلمين، ولا يطاع لا في باب الجهاد ولا في غيره، لأنه لم تنعقد له ولاية صحيحة، فكون الإنسان يكون في بلد محاصرة يقاتله أهل ذلك البلد، لا يثبت له ولاية على البلد الذي هو فيه، فضلا عن إثبات الولاية له في البلدان الأخرى، فمثل هذه البيعة، وهذه الولاية غير منعقدة، غير ملزمة شرعا، ويدل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: « مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ ، فَاقْتُلُوهُ» ( 17)، ويدل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»( 16) كما في الصحيح.

فهذه نصوص شرعية واضحة في الباب، لا يصح للعبد أن يخالف مدلول هذه النصوص، فإن قال قائل: إن الإمام الأول قد وقع منه ذنب ومعصية، ووقعت منه مخالفة للشريعة، ووقع علينا منه كذا وكذا. فنقول: إن الشريعة قد جاءت بالأمر بطاعة الإمام ولو كان عنده شيء من المخالفة للشريعة، كما قال -سبحانه-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء : الآية 59]، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»(18 )، وكما جاء في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطع»( 19). فمثل هذه الأفعال لا تجيز الخروج على الولاة.

الشرط السادس: استئذان ولي الأمر:

إذا تقرر هذا فلابد من استئذان الأئمة والولاة، فمن كان تابعًا لإمام وفي رعيته وجب عليه أن يستأذن إمامه في الجهاد قبل أن يقدم عليه، وهكذا كان حال الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- انطلاقا من النصوص السابقة، ولذلك جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ».( 20)

الشرط السابع: استئذان الأبوين

من ضوابط الجهاد: أنه لا بد من استئذان الأبوين في الجهاد، الذي يكون من فروض الكفايات، ولا يجوز لإنسان أن يخرج للجهاد والقتال، وهو لم يستأذن من أبويه، أو لم يستأذن من إمامه.

الشرط الثامن: ألا يقاتل غير المقاتلين

*ومن ضوابط الشريعة فيما يتعلق بباب الجهاد: ألا يقاتل غير المقاتلين، فالنساء والصبيان والشيوخ الكبار ومن لا يقاتل، لا يشرع قتالهم، ولا يعد قتالهم من الجهاد الشرعي، وقد وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فِيمَنْ يُقَاتِلُ»( 21).

وقد جاء في عدد من النصوص الواردة عن الأئمة: أبي بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم- في إرسالهم للجيوش والسرايا أنهم يوصونهم: ألا يقتلوا وليدًا، ولا شيخًا فانيًا، ولا امرأة، ولا معتزلا في صومعة، وهم في هذا مقتدون بالنبي -صلى الله عليه وسلم فإنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا»( 22).

*ومن ضوابط الجهاد فيما يتعلق بهذا الشرط أن يلاحظ أن مقاتلة العدو لبعض المسلمين لا يعني أنه بذلك قد نقض العهد بينه وبين بقية المسلمين، وهذه قاعدة قد يغفل عنها بعض الناس، وذلك أنه إذا وجد عهدًا وميثاقًا بين أهل الإسلام وبين غير المسلمين بعدم المقاتلة، ولم يحتو ذلك الصلح والعهد عدم مقاتلة العدو لمسلمين آخرين، فإنه حينئذ لا يعد ذلك نقضا للصلح، ولا يعد نقضا للعهد والميثاق، ويجب الوفاء بذلك العهد والميثاق.

دليل ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صالح قريشًا وقامت قريش بعد ذلك بإيذاء المسلمين الذين في مكة وتعذيبهم من أجل صدهم عن دينهم، لم ينقض النبي -صلى الله عليه وسلم- العهد الذي بينه وبين أهل مكة، ويدل على هذا قوله -جل وعلا-: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} [سورة الأنفال : الآية 72] فدل ذلك على أن المواثيق لا تنتقض بمقاتلة العدو لبعض المسلمين، إذا لم يكن من بنود الصلح والعهد أن الصلح ينتقض بمثل ذلك.

ومما يتعلق بهذا الشرط: أن بعض الناس يتوسع في هذا الباب ويزعم أن كل معاون للعدو فإنه يشرع قتاله وجهاده، ولو كانت معاونته بغير أمر متعلق بالقتال، وهذا الفهم فهم خاطئ وليس من مدلول الأحكام الشرعية، فعندما يأتي إنسان ويقول: من عامل غير المسلمين فإنني أستبيح قتاله، وأنقض العهد الذي بينه وبين غيره بسبب هذا الفعل الذي وقع منهم. فنقول: هذا خطأ ومخالف للشرع، وليس من أحكام الإسلام في شيء، وذلك أن الناس يتعاملون مع غير المسلمين بيعًا وشراء مما لا يتضمن إعانتهم في قتالهم على عدوهم المسلم، ولم يكن ذلك مبيحا لانتقاض العهد معهم.

الشرط التاسع: إعداد العدة والتخطيط له

ومن شروط الجهاد: أن الجهاد لا بد أن يكون بإعداد وتخطيط وبتجهيز مسبق، فإن لم يكن الأمر كذلك فإن هذا ليس مما يوافق مقصد الإسلام مما يتعلق بالجهاد، قال ابن قدامة: قال الإمام أحمد: "لا يعجبني أن يخرج المسلم مع القائد إذا عُرِفَ بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين"(23 ).

الشرط العاشر: لا جهاد بغير علم

المقصود أن باب الجهاد باب شرعي لا بد فيه من مراعاة الشروط والضوابط الشرعية، ومن أدَّاه على غير وجهه لا يكون بذلك موافقا للشرع، وقد يكون فعله مما ينتج ضررًا وسوءًا وخطيئة أعظم مما يحققه من مصالح ومن تحقيق لمقاصد دين الإسلام.

العلم قبل القول والعمل

إن مما يجب التنبيه عليه: أن حاجة أهل الإسلام إلى تعلم العلم، ونشر العلم في الناس أعظم من حاجتهم إلى الجهاد، وذلك أن الجهاد لا يصح إلا بمراعاة ضوابطه، وضوابطه لا تعرف إلا من خلال العلم الصحيح، ومن هنا فلا بد أن يُقَدَّمَ العلم على العمل ومنه الجهاد، وما زال الأئمة يقررون أن العلم يكون قبل العمل، ويدل هذا على فضيلة العلم، وأن العلماء أفضل من المقاتلين ومن المجاهدين، ويدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»( 24) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ»( 25)، ففضل العالم على بقية أهل العبادة -ومنهم أهل الجهاد-، ويدل على هذا أيضا قول الله -عز وجل-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [سورة النساء : الآية 69]، فقدم الله -عز وجل- رتبة الأنبياء، ثم جعل بعدهم الصديقين، ويشمل هذا اللفظ أهل العلم واليقين والتصديق الجازم، فقدمهم على الشهداء، ومن المعلوم أن أعظم مراتب الجهاد مرتبة الشهادة، وهذا يدلك على فضيلة العلم، وعظم مكانته، ورفعة منزلة أهله، ويدلنا هذا على شدة الحاجة لتعلم العلوم، لأن الناس إذا ضبطوا أفعالهم بالضوابط الشرعية المأخوذة من العلم الصحيح اندحرت شرور كثيرة.

إن من دخل باب الجهاد من غير معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة به، أحدث شرًّا عظيمًا وفسادًا كبيرًا، من سفك الدماء، وتفريق المسلمين، وتسليط أعدائهم عليهم، إلى غير ذلك من المفاسد الشنيعة التي حصلت من فعل هؤلاء، وما سبب ذلك إلا أن عملهم لا يرتبط بعلم صحيح.

من هنا نعلم أن من أعظم ضوابط الجهاد الشرعي أن يكون مبنيا على علم صحيح مأخوذ من الكتاب والسنة، ولو علم الأعداء بما يحدثه العلم وما ينتجه من ضبط لتصرفات المسلمين لكان ذلك داعيا لجعلهم يحاولون نشر العلم الشرعي، ففي العديد من دول غير المسلمة تكون هناك جاليات مسلمة عديدة إذا لم يكن عندهم تأصيل شرعي وعلم صحيح وعندهم عاطفة نحو دينهم، قد يستغلهم بعض الناس في فعل بعض الأفعال باسم الإسلام، وباسم الجهاد، وباسم نصرة الدين، ونصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكون ذلك سببا في إحداث فوضى عندهم.

فلو علموا مقدار العلم ومدى أثره في ضبط تصرفات أهل الإسلام، وجعلهم لا يحدثون مخالفة للشرع، ولا ضررًا للناس لكانوا من أعظم الناس حرصا على نشر العلم الصحيح المأخوذ من الكتاب والسنة.

حماية البلاد من تسلط الأعداء من الجهاد

إن عمل الذين يحمون المسلمين من الشرور والضرر والفساد، متى قصدوا به التقريب لله -عز وجل- كان مما يدخل في باب الجهاد، ومما يؤجر عليه العبد أجر المجاهدين والمرابطين، ومن أمثلة ذلك حماية حدود البلد من شر أعدائنا، ومن دخول ما يفسد العقول وينتج أمورًا مخالفة للشرع.

ومما يدخل في الجهاد ما يؤديه أولئك الذين ينتظمون في سلك الجيوش، يتقربون بذلك إلى الله بحماية بلاد المسلمين من تسلط الأعداء عليها، فهؤلاء مما يدخل عمله في مفهوم الجهاد الشرعي.

ومن ذلك أيضا ما يؤديه رجال الأمن الذين يحمون الأمة من شرور المجرمين، الذين يريدون سفك الدماء، أو أخذ الأموال، أو إحداث الاضطراب في الأمة، أو زعزعة ثقة الناس في ولاة أمورهم، كل هذا مما يدخل في مفهوم الجهاد الشرعي.

سؤال أهل العلم فيما يُشْكِلُ

إنَّ الشريعة نظمت هذا الباب، وأتت فيه بقواعد بينة واضحة جلية، وشروط ناصعة بَيِّنَة، ومن أشكل عليه شيء في هذا الباب وجب عليه مراجعة أهل العلم وسؤالهم فيه، لأن الله -عز وجل- قد أمر بالرجوع إليهم خصوصًا في هذا الباب، قال -سبحانه-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا}[سورة النساء : الآية 83] ويقول -جل وعلا-: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة : الآية 122]، فأوجب الله -عز وجل- الرجوع إلى أولئك الذين تفقهوا في الدين، وبَيَّنَ أن العاقل يحذر من مخالفة قول هؤلاء الفقهاء، فقال -سبحانه-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل : الآية 43].

للاستزادة اقرأ هذا الموضع:
صفات العلماء ومنزلتهم وصفات الرؤوس الجهال


شبهات وردود

إن بعض الناس يقول: باب الجهاد باب مستقل، فإذا أردنا أن نسأل فيه فينبغي أن نسأل المجاهدين، الذين زاولوه وعرفوا أحكامه.

هذا الكلام خطأ، مخالف لأحكام الشريعة، وليس من الشرع في شيء، وذلك أن الله -عز وجل- لم يوجب الرجوع إلى الْعُبَّادِ في عباداتهم، فلو قال قائل: أنا عندي مسألة في الصلاة سأرجع إلى ذلك الشخص الذي يصلي طول ليله، ولم يكن لديه علم شرعي. فهذا الكلام خطأ غير مقبول، لأن هذا المرء تقرب إلى الله بعبادة الصلاة، لكنه ليس لديه علم يحيط به بأحكام الصلاة، وإنما يرجع فيه إلى العلماء، ولذلك قال -سبحانه وتعالى-: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء : الآية 83]، يعني لعلمه الذين يتمكنون من إخراج الأحكام من الأدلة.

فكون المرء غير عارف لدلالة الأدلة الشرعية، وليس لديه القدرة على فهم الأدلة، ولا يعرف طرق الفهم والاستنباط، ولا دلالات الألفاظ، فهذا لا يجيز له أن يفسر كلام الله، ولا أن يثبت حكما شرعيًا، ولا يجيز لنا نحن أن نرجع إليه وأن نسأله عن أحكامنا، فإن الله قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل : الآية 43]، ولم يقل: أهل العمل الذي تعملونه.

فالمقصود أنه إذا أشكل على العبد في هذا الباب شيء، فإنه يرجع فيه إلى علماء الشريعة، أهل الاجتهاد، الذين لديهم قدرة على معرفة الأدلة، وفهمها، وتنزيلها على مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويعرفون مواطن الاتفاق والاختلاف، ويعرفون من دلالة اللغة ما يمكنهم من فهم مدلول هذه الأدلة.

يجب العلم بدقائق أحكام الجهاد

لا بد في الجهاد الشرعي من معرفة أحكامه الدقيقة، وذلك أن الجهاد يترتب عليه مسائل شرعية، من أمثلة ذلك: أنه عند الجهاد والقتال إذا قال العدو: لا إله إلا الله قَبْلَ قَتْلِهِ حَرُمَ على الإنسان أن يقدم على قتله، كما ورد في حديث أسامة -رضي الله عنه- فإنه قد صاول أحد المشركين في القتال، فلما تمكن منه أسامة وأراد قتله قال المشرك: لا إله إلا الله. فقتله أسامة -رضي الله عنه-، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: فَقَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟» قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (26)

فدل هذا الحديث على أنه لا بد من معرفة أحكام الشرع فيما يتعلق بالجهاد قبل الولوج إليه، ليعرف دقائق التفاصيل فيما يؤديه من الأعمال قبل أن يقدم عليه، وقد حكى الأئمة الاتفاق والإجماع على أنه لا يجوز للعبد أن يقدم على عمل قبل أن يعرف أحكام الله فيه، حتى لا يؤدي ذلك العمل على غير طريقة الشريعة وهديها.

ومن هنا يتبين لنا أن المرء قبل أن يقدم على عمل لا بد أن يعرف حكم الله فيه، هل هو مما يحبه الله ويرضاه، أو مما يسخطه ويأباه، هل هذا العمل يحقق مقصد الشريعة، أو هو مما ينافي أحكام الشريعة، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى علماء الشريعة الذين يعرفون مقاصد الشرع، ويعرفون أدلة الشريعة.

فإن قال قائل: إنه قد يأتيني آتٍ بدليل من الكتاب والسنة فكيف أخالفه؟ وكيف أراجع فيه؟ وكيف أسأل غيره وقد جاءني بدليل واضح جَلِيٍّ؟

فنقول: إن أدلة الشريعة منها ناسخ ومنسوخ، ومنها ما هو عام، وما هو مفسر، وما هو مخصص، وهناك أعمال وردت في الشريعة جاءت نصوص أخرى ببيان المراد بها تعريف حقيقتها، وبيان شروطها وضوابطها، فلا بد من مراعاة الأدلة الشرعية، ومن نظر في دليل واحد فقط، ولم ينظر إلى بقية أدلة الشريعة فهو كالأعور الذي لا يلاحظ الأمر من جميع جوانبه، ومن هنا لا يصح لك أن تعمل بقول كان كذلك ولو أورد عليك دليله، لأنه لم يورد عليك إلا دليلًا واحدًا، وأضرب لذلك مثلا: لو جاءنا إنسان وقال: هذه المرأة مطلقة، والمطلقة يجب عليها أن تعتد بثلاث حيض لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة : الآية 228]، وكان الأمر أن تلك المطلقة طُلَّقَتْ قبل دخول الزوج بها، فنقول حينئذ: هناك دليل آخر في هذه المسألة بخصوصها وهو أن الله -عز وجل- قال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [سورة الأحزاب : الآية 49].

ففي باب الجهاد، إذا جاءك من يقول إن الله تعالى يقول :{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ} [سورة التوبة : الآية 123] نقول: لا بد من معرفة الشروط والضوابط التي وردت في الأدلة الأخرى، لأن الشريعة بمثابة دليل واحد، لا بد من النظر إليها جميعا. ومن جاءنا واستدل بقوله -جل وعلا-: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}[سورة التوبة : الآية 73] وقال: نريد أن نقاتل أولئك المنافقين الذين يعيثون في دين الإسلام، وينشرون الفسق، والكلام الرديء المخالف للشريعة. قلنا: هذا فهم خاطئ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرف منك بمدلول هذه الكلمة، وهو خير من فهم القرآن، وخير من طبق القرآن، وإذا أردنا أن نجاهد الكفار بحسب المنطوق الشرعي فعلنا مثل فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فمن جاءنا بدليل قلنا: لا بد أن ننظر إلى بقية الأدلة، خصوصا إذا كان من جاء به لم يُعْرَفْ بعلم سابق، وليس ممن شهد له علماء الشريعة بالفهم والرسوخ في العلم، فمثل هذا لا يعتمد على قوله، ولا يلتفت إليه، ولا يكون قوله منطلقا لنا في أعمالنا، لأنه حينئذ يكون ممن عصى الله بهذه المقالة، لأنه نسب إلى شرع الله وإلى دينه ما ليس متأكدًا منه، وما لا يبنيه على فهم صحيح ولا اجتهاد مؤصل من كتاب وسنة.

من هنا نعلم أن دعوات بعض الناس للجهاد في مواطن شتى لا يستجاب لها مباشرة، ولا يبادر إلى السماع لها، والاستجابة حتى تتحقق الشروط الشرعية في هذا الفعل، فلا بد من أن يكون هناك استئذان من الإمام، ولا بد أن يكون هناك مصلحة شرعية، وقدرة، ومكافأة، ومراعاة للعهود والمواثيق.

ومما يتعلق بهذا أن من دخل بلاد غير المسلمين لعمل من الأعمال إما تجارة، أو سفارة أو لغير ذلك من الأعمال وجب عليه الالتزام بالنظم التي في ذلك البلد، وحرم عليه نقض العهد الذي بينه وبينهم، لأنه لم يدخل بلدهم إلا بتصريح وتأشيرة تتضمن موافقته على أنظمة ذلك البلد، وعدم إحداث شيء من الإفساد فيها.

ومن دخل بلدانهم وجب عليه أن يفي بمثل ذلك، وحرم عليه نقض العهد الذي بينه وبينهم، ولا يجوز له أن يحدث شيئًا من الخلل والفساد، ولو كان ذلك بادعاء أنه من الجهاد، هذا ليس من الجهاد في شيء، بل هو من مخالفة الشريعة، ومن مناقضة مقاصدها.

خاتمة

أحكام الجهاد كثيرة عديدة وشروطه لا يمكن أن نستوعبها، وإنما أوردنا أهم ما يتعلق بهذا الباب مما يحتاج إليه الناس في عصرنا.

نسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يهدي ضال المسلمين للهدى والحق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.





كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

إن موضوع الجهاد أمر يغلط الكثير فيه، ما بين مفرط، وغالي، وجافي، وما بين متناسي للآيات والأحاديث في فضله، وما بين من حملها على غير مدلولها.

مفهوم الجهاد

هذا الموضوع العظيم موضوع مهم يحتاج إلى فهمه على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه، إن الله -جل وعلا- جعل الجهاد باليد واللسان والقلب فقال: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [سورة الفرقان : الآية 52]، أي: بالقرآن، فالجهاد ليس مجرد المصافة والقتال، إنما الجهاد أعم من ذلك، فالداعي إلى الله مجاهد في سبيل الله، والخطيب إذا خطب، ونصح، ووجه، وبَيَّنَ هو من المجاهدين، المعلم إذا عَلَّمَ وأحسن فهو من المجاهدين، والْمُرَبِّي إذا رَبَّى وأحسن فهو من المجاهدين، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والآخذ على يد السفيه من المجاهدين، والحاكم بالعدل، والساعي في مصالح الأمة، والساهر على أمنها وطمأنينتها وراحتها من قياداتها هم من المجاهدين.

إن حقيقة الجهاد تحقيق عدل الله في الأرض، بأن تكون كلمة الله هي العليا، وبأن يكون الحكم لله، والتحاكم لدينه وشرعه، وقتال من يقف أمام هذه الأمة، فإن الجهاد لم يأتي بسفك الدماء، ونهب الأموال، واستباحة الذرية، بل جاء لإقامة عدل الله قال -تعالى-: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال : الآية 39]، فمتى تحقق انتفاء الفتنة، وكون الدين كله لله كنا بذلك محققين.

الجهاد ليس معناه الإكراه

إن الجهاد لم يأت لفرض الدين على الناس بالقوة، فهذا المفهوم ليس صحيحًا، لأن الله يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [سورة البقرة : الآية 256]، وكان الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- في جهادهم يزيلون العقبات التي تقف أمامهم حائلة بين بلوغ كلمة الله وشرعه إلى الجميع، فمتى أزالوا العقبات نشروا عدل الله، فدخل الناس في دين الله أفواجًا عن قناعة واختيار، لما رأوا أولئك القوم الذي صلحت سريرتهم، واستقام ظاهرهم، وكانوا خير الناس عدلًا، وإنصافًا، وإمامة، وقدوة، وتطبيقا، فاستقام الناس على الهدى ودخلوا في دين الله أفواجا.

إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- دعا بمكة بضع عشرة سنة يصارع الوثنية وأربابها، ويجادلهم بالحق، ويقيم الحجة عليهم ما أسلم إلا القليل، وهاجر إلى المدينة، وجرى بينه وبين قريش وقعة بدر، وأحد، والأحزاب، وجاء صلح الحديبية وما حصل فيه من خير، أمن الناس واتصل بعضهم ببعض، فدخل في دين الله من العرب أعظم مما دخل من قبل.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.





الأسئلة

سماحة الشيخ يقول السائل من البحرين: ما هو الجهاد الصحيح في هذا الزمن، وهل يوجد جهاد الآن؟ وجزاكم الله خيرًا.

يا إخواني الآن نحن بأمس حاجة إلى أن نجاهد أنفسنا، أنفسنا اليوم فيها أمراض الذنوب والمعاصي، فَحَرِيٌّ بنا أن نجاهد أنفسنا اليوم، ونجاهد أولادنا، وأهلينا، ونجاهد شبابنا بالدعوة إلى الخير، وحملهم على الخير، ما أمكن، نحن والله بأمس الحاجة إلى أن نعود على أنفسنا وننظر عيوبها، وننظر ماذا وقعنا فيه من الخلل، لعل الله أن يَمُنَّ علينا بتوبة نصوح.

يقول السائل: سماحة الشيخ ما الفرق بين الجهاد الشرعي الذي له ضوابط، والجهاد المزيف؟ لأنه في هذه السنوات ما يحصل من تفجيرات بالحزام الناسف وغيره، وما وقع فيه الشباب يحتاج إلى توجيه، فنرجو التوجيه، وجزاكم الله خيرًا.

أصل هذه التفجيرات والفتن التي يسمونها جهادًا كذبا وافتراء، قتل الأبرياء بهذه الحزامات النارية، التي ربما هذا المنتحر -نسأل الله العافية- يقدم النار، وقد قتل مئات من الناس بلا ذنب، ولا جرم، لا شك أن هذه قضايا خطيرة، هذه التفجيرات -نسأل الله العافية- هذه ظلم وعدوان، وسفك للدماء بغير حق، هؤلاء ما جاءوا يدعون ولا يصلحون، إنما جاءوا لينشروا الرعب في المجتمعات، فما تسمعون من تفجير بهذه الأنواع من التفجيرات العظيمة التي صنعها أعداؤنا، وجعلوا بلادنا ميدان التجارب فيها، وبلادهم لا يقع فيها شيء من ذلك، نسأل الله العافية، هذه التفجيرات بلاء، نسأل الله العافية.

يقول السائل: سماحة الشيخ، يغتر كثير من المسلمين بالمدعو أسامة بن لادن، ويقولون: لم يرفع أحد راية الجهاد ضد الكفار إلا هو، فهل من كلمة أبوية لأبنائك الشباب خصوصا، وللمسلمين عموما.

هذه الدعاوى الباطلة، وهذه الأهداف الخاطئة -نسأل الله العافية-، ماذا قدم هؤلاء، هم ليسوا قدوتكم، إن قدوتكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته -رضوان الله عليهم- ، والتابعون لهم بإحسان، والذين رفعوا لواء الحق والعدل والدعوة إلى الله، أما من يده مع يد الأعداء فكيف يكون مجاهدًا.

هذه كلها دعايات الإسلام بريء من سفك الدماء، والظلم والعدوان، الإسلام دين الرحمة ليس فيه ظلم وعدوان، هذه الأمور -نسأل الله العافية- ليست إسلامًا، فلا نغتر بهذه الرموز هؤلاء أفسدوا ولم يصلحوا، إنما هم شوكة في حلوق المسلمين، لم يحققوا هدفا، ولم يسعوا إلى خير، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية.

يقول السائل: سماحة الشيخ نرجو شرح حديث: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ»(27)، فما المقصود بالظلم؟ وما هي الراية الصحيحة في الجهاد؟

قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كلمة حق عند سلطان جائر»، ليس معناه أن أُعْلِنَ على الملإ، وأن أرفع صوتي، وأن أنشر العيوب، لا. كلمة الحق أن تنصح توجه بينك وبينه، بالطرق الشرعية التي تحقق الهدف، أما نشر المعائب أمام الناس، والتحدث أمام الملأ ، فهذه ليست نصيحة، هذه فضيحة، المسلم ليس له هدف في أن يفضح، ليس المسلم بالسَّبَّاب، ولا باللعان، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء، لكنه يقول كلمة الحق بصراحة، لكن بطرقها الشرعية، وقنواتها الصحيحة، ويوصلها بهدف أسمى، يقصد بذلك المنفعة.

أما من يأتي ويتكلم في الولاة بلا برهان ولا حجة، ولكن شيء في نفسه ليحاول انتقاص هيبة الوالي، أو أن يوجد بلبلة بين الناس، هذا ليس سلوك الناصحين، هؤلاء ليس لهم هدف أسمى الذي هدفه النصيحة يعرف لها طرقها ومكانتها.

يقول السائل: سماحة الشيخ حديث «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ»(28)، كيف نفسره؟ وهل هناك جهاد في هذ الزمن؟

هذا حق، لكن الله حكيم عليم، ما كل وقت يناسب الجهاد، الآن الأوضاع في العالم معقدة، وتصارع سياسي معقد، وأمور قد تسمع اليوم كلاما، وينتقض في اليوم الآخر، وسياسات لا تستطيع الحكم عليها، وأمور مختلفة.

الجهاد يحتاج إلى دعوة صادقة، وتربية جيدة، أما وقتنا الآن كما تشاهدون الصراع السياسي بين العالم والأفكار، وتصارع الأفكار والمطامع، إلى غير ذلك، العالم الآن في اضطراب لا تدري ولا تستطيع أن تسبر ما يقع في العالم، لأنها أمور وراءها من وراءها مما قد لا يكون ظاهرًا في الساحة، لكن الله حكيم عليم.

المسلم يعلم أن دين الله منصور، وأنه لا يزال في الأرض من يقيم حجة الله على العباد، وأن الله لن يخلي هذه الأمة على رأس قرن أن يهدي لها من يجدد لها أمر دينها ويعيدها إلى الصواب، نسأل الله أن يحفظ علينا إسلامنا.

يقول السائل: سماحة الشيخ هناك من يقول: إنه لا يشترط في الجهاد أن تكون هنالك قوة، ويستدل بأن عدد المسلمين في غزوة بدر، وأحد، وجميع المعارك الإسلامية كان قليلا، فما توجيه سماحتكم.

قال الله تعالى:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [سورة الأنفال : الآية 66]، بعد أن كان في أول الوحي عشرة، خفف الله ذلك عن الصحابة يوم أحد، فيوم بدر كانوا ثلاثمائة وعشرين وكذا، وقريش تسعمائة، ويوم أحد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- معه تسعمائة والمشركين ثلاثة آلاف، يعني هناك شيء من التعادل، لكن هذه الأمور تحتاج إلى تربية وإيمان قوي، متى وجد الإيمان والثقة بالله، وقوة العقيدة، وصلاح السريرة، والتدريب النافع، وتهيئة الظروف المناسبة، فليس كل ظرف مهيأ، النبي بقي بمكة ثلاثة عشر سنة، لم يكن فيها جهاد، أُذِنَ له بعد أن هاجر بقتال من قاتل، فالمسألة تحتاج إلى تأسيس، أيام التتر كان من أسباب خروجهم خطأ بعض أمراء تلك المناطق الذين هاجموهم ونهبوا تجارتهم، فتسلط التتر على المسلمين حتى أوقعوا فيهم ما أوقعوا.

إن الأمور إذا ما أحكمت، وسيست سياسة شرعية ربما تكون بعض التحركات سببا لضر المسلمين، فلا بد من تعقل الأمور.

سماحة الشيخ يقول السائل: ما رأي سماحتكم فيمن يقول: إن الدين الإسلامي انتشر بالسيف، هل هذا صحيح أم خطأ؟ ونرجو الرد على دعوى الكفار أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نشر دينه بالقوة.

هذا كله خطأ وتشويه، الإسلام انتشر بالدعوة الصادقة، وقتال من وقف أمام الدعوة.