((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)) [اﻷ‌عراف:156].
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جَعَلتُ الرجا ربي لعفوك سلما*
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي صار عفوك أعظما*
يا باغي الخير أقبِل، فالباب غير مقفل، يا من أذنب وعصى، وأخطأ وعتا. تعالَ فلعلّ وعسى، يا من بقلبه من الذنوب جروح، تعال فالباب مفتوح، والكرم يغدو ويروح، يا من ركب مطايا الخطايا، تعالَ إلى ميدان العطايا، يا من اقترفوا فاعترفوا، ﻻ‌ تنسوا ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا)) [الزمر:53]، يا من بذنب باء وقد أساء تذكّر: {يا ابنَ آدمَ لو بَلَغَتْ ذنوبك عَنَانَ السماء}، سقت بغي الكلب، فشكر لها الرب، وغفر الذنب. قتل رجل مئة نفس، ثم تاب إلى الله عزَّ وجلّ، فدخل الجنة على عجل.
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جُود فضلكِ ما علمتني الطلبا*
من الذي ما أساء قطّ؟ ومن له الحُسنى فقط؟ وهن هو الذي ما سقط؟ وأين هو الذي ما غلط؟ يا كثير اﻷ‌خطاء، أنسيت: {كل ابن آدم خطَاء}، كم يقتلك القنوط كم؟ وأنت تسمع: {والذي نفسي بيدهِ لو لم تُذنبوا لذَهَبَ الله بكم}.
اطرُقِ البابَ تجدنا عِندَهُ بِسَخَاء ويِبَذلٍ وَكَرَم*
ﻻ‌ تَقُل قد أُغلق البابُ وﻻ‌ تَحمِلِ اليَأسَ فَتُلقَى في الندم*
إذا أذنبت فتُب وتندّم، فقد سبقك بالذنب أبوك آدم، ومن يشابه أباه فما ظلم، وتلك شنشنة نعرفها من أخزم، فﻼ‌ تقلد أباك في الذنب وتترك المتاب، فإن أباك لمّا أذنب أناب، بنصّ الكتاب.
أصبحت وجوه التائبين مُسفرة، لمّا سمعوا نداء: {لو أتيتني بقُرابِ اﻷ‌رض خطايَا ﻷ‌تيتك بقُرابهَا مغفرةً}، اطرح نفسك على عتبة الباب، ومدّ يدك وقل: يا وهّاب. أرغِم أنفك بالطين، ونادِ: رحمتك أرجو يا ربّ العالمين.*
إن جَرَى بينَنَا وَبَينَكَ عَتبٌ وَبَعُدنَا وشط عنا المزار*
فالقُلُوبُ الﻼ‌تي عَرَفت تلظى والدموع التي عهدت غِزَارُ*
يا من أساء وظلم، اعلم أن دمعة ندم، تُزيل أثر زلّة القدم، أنت تتعامل مع من عرض التوبة على الكفّار، وفتح طريق الرجعة أمام الفجّار، وأمهل بكرمه اﻷ‌شرار. أنزل بالعفو كتبه، وسبقت رحمته غضبه.
والله ما لمَحَت عيني مَنَازلكم إﻻ‌ تَوَقدَ جَمْرُ الشوق في خَلَديِ*
وﻻ‌ تذَكَرتُ مغناكُم وأَرضَكُمُ إﻻ‌ كَأن فُؤاديِ طار من جَسَدي*
اسمه التوّاب، ولو لم تذنب لمَا عُرِفَ هذا الوصف في الكتاب، ﻷ‌ن الوصف ﻻ‌ بدّ له من فعل حتى يُوصف بالصواب. ما تدري بالذنب محي العجب، وباﻻ‌ستغفار حصل اﻻ‌نكسار، لكأس اﻻ‌ستكبار، وصار اﻻ‌نحدار، لجِدار اﻹ‌صرار.
ﻻ‌ تصرّ، بل اعترف وأقرّ، فإن طعم الدواء مُرّ، وسوف تجد ما يسرّ وﻻ‌ يضرّ، واحذر الشيطان فإنه يغرّ.
يا رب إن عظمت ذُنوبِي كثرة فلَقَد عَلِمتُ بأن عفوَكَ أعظم*
اﻻ‌عتراف باﻻ‌قتراف، طبيعة اﻷ‌شراف، قف بالباب، وقل: أذنبنا، وطف بتلك الديار وِقل تبنا، وارفع يديك وقل: أنبنا، ((أَفَﻼ‌ يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:74]، سبحان من يغفر الذنب لمِن أخطأ، ويقبلَ التوبة ممّن أبطأ.
التوبة تجُبُّ ما قبلها، وتعمّ بركتها أهلها، يقول صلى الله عليه وسلم: {التائب من الذنب كَمن ﻻ‌ ذَنبَ لهُ}، وهذا قول يجب أن نقبله، فهنيئاً لمن تاب وأناب، قبل أن يغلق الباب.*
التائب سريع الرجعة، غزير الدمعة، مُنكسِر الفؤاد، لربّ العباد، دائم اﻹ‌نصات، كثير اﻹ‌خبات.
للتائب فرحتان ودمعتان وبسمتان.
فرحة يومَ ترك الذنب، واﻷ‌خرى إذا لِقيَ الربّ، ودمعة إذا ذكر ما مضى، والثانيةُ إذا تأمّل كيف ذهب عمره وانقضى، وبسمة يوم ذكر فضل الله عليه بالتوبة، وهي أجلّ نِعمة، واﻷ‌خرى يوم صرف عنه الذنب وهو أفظع نقمة.
بُشرى لمَن عفّر جبينه، وأشعل في قلبه أنينه، وأضرم بالشوق حنينه، التائب تبدل سيئاته حسنات، ﻷ‌ن ما فات مات، والصالحات تمحو الخطيئات.
للتوبة أسرار، وﻷ‌صحابها أخبار، فالتائب يزول عنه تصيّد المعائب، وطلب المثالب، ﻷ‌نه ذاق مرارة ما تقدّم، فهو دائماً يتندّم، وهو يفتح باب المعاذير، لمَن وقع في المحاذير، وﻻ‌ يفعل فِعل المُعجَب المنّان، الذي قال: والله ﻻ‌ يغفر الله لفﻼ‌ن، بل يستغفر لمَن أساء من العباد، ويطلب الهداية ﻷ‌هل الفساد، والتائب يُطالع حكمة الرّب، في تقدير الذنب، وأنه ﻻ‌ حول للعبد وﻻ‌ قوّة، في منع نفسه من الوقوع في تلك الهُوّة، فالله غالب على أمره، بعزّته وقهره، والتائب ذهبت عن نفسه صولة الطاعات، والدّعاوى الطويﻼ‌ت، والتبجّح على أهل المعاصي، وأصبح ذليﻼ‌ً لمن أخذ بالنواصي، فإن بعض الناس إذا لم يقع في زلّة، ولم يذُق طعم الذّلّة، جمحت به نفسه اﻷ‌مّارة، حتى جاوز أطواره، فكلما ذُكِرَ له عاصٍ تأفّف، وكلما سمع بمذنب تأسّف، وكأنه عبد معصوم، في حياته غير مَلُوم، يحاسب الناس على زﻻ‌تهم، ويأخذ بعثراتهم، فإذا أراد الله تقويمه، ليسلك الطريق المستقيمة، ابتﻼ‌ه بذنب لينكسر لربه، وأراه ضعف قوّته فيعترف بذنبه، فيصبح يدعو للمُذنبين، ويحبّ التائبين، ويبغض المتكبِّرين.
ومنها أن كأس الندم يتجرّعه جرعة جرعة، مع انحدار دموع اﻷ‌سف دمعة دمعة، حينها ينال الوﻻ‌ية، ويدرك الرعاية، ﻷ‌نه يعرف سرّ العبودية، ويدخل باب الشريعة المحمديّة، فإن ذلّ العبد مقصود، وتواضعه محمود، لصاحب الكبرياء المعبود.
ومنها أنه يشتغل باﻻ‌ستغفار عن اﻻ‌ستكبار، فهو دائم الفكر في تقصيره، مشتغل به عن غروره، ﻷ‌ن بعض الناس ﻻ‌ يرى إﻻ‌ إحسانه، وﻻ‌ يشاهد إﻻ‌ صﻼ‌حه وإيمانه، حتى كأنه يَمنّ على موﻻ‌ه، بطاعته وتقواه، بخﻼ‌ف من طار من خوف العاقبة لبّه، وتشبّع بالندم قلبه، فهو كثير الحسرات، على ما مضى وفات، وهذا هو حال من عرف العبادة، وسلك طريق السعادة.
واعلم أن لوم النفس على التقصير، والنظر إليها بعين التحقير، واﻹ‌زراء عليها في جانب موﻻ‌ها، وعدم الرضا عنها لما فعله هواها، يقطع من مسافات السير، إلى اللطيف الخبير، ما ﻻ‌ يقطعه الصيام وﻻ‌ القيام، وﻻ‌ الطواف بالبيت الحرام، فهنيئاً لمن على ذنبه يتحرّق، وقلبه يكاد من اﻷ‌سف يتمزّق، ودمعه على ما فرط يترقرق.
وقَفنَا على اﻷ‌بواب نُزجِي دُمُوعَنَا وَنَبعَثُ شوقاً طالمَا ضجَّ صاحبُهْ*
أجمل الكلمات، وأحسن العبارات، لدى ربّ اﻷ‌رض والسماوات، قول العبد: يا ربّ أذنبت، يا رب أسأت، يا رب أخطأت، فيكون الجواب منه سبحانه: عبدي قد غفرت وسامحت، وسترت وصفحت.
إنَّ المُلُوك إذا شاَبت عبيدُهمُ في رقهِم أعتقُوهُم عِتقَ أَبرَار*
وأنتَ يا خَالِقيِ أَولَى بِذَا كَرَما قد شِبتُ في الرِّقِ فاعتِقنيِ من النار*
عفّر الجبين بالطين ونادِ: يا ربّ العالمين، تُبنا مع التائبين، اغسل الكبائر بماء الدموع، وأدّب النفس اﻷ‌مارة بالجوع، فهذا فِعلُ من أناب، حتى يفتح لك الباب. تأوه المذنبين التائبين، أحب من تسبيح المعجبين من قضى ليله وهو نائم، وأصبح وهو نادم، أحَبُّ ممّن قضاه وهو مسبّح مكبّر، وأصبح وهو معجب متكبّر.
إذا أردت القدوم عليه، توسّل برحمته وفضله إليه، وﻻ‌ تمنن بطاعتك لديه، ﻻ‌ تيأس من فتح الباب، ورفع الحجاب، فأدِم الوقوف عنده، واخطب ودَّه، فإن من قصده لن يردّه، ما أحوج الجيل، إلى آخر ساعة من الليل، ﻷ‌نها ساعة الهبات، واﻷ‌ُعطيات والنفحات، إمام الموحِّدين، يقول: ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) [الشعراء:82]، فجعل غاية مُناه، أن تُغفر خطاياه، وَأنت تُصِرّ، وﻻ‌ تقِرّ، وتحسو كأس الَذنب وهو مُرّ، فأفق من سُبات اللهوِ وﻻ‌ تكن من الغافلين، وأكثر من ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))*[اﻷ‌عراف:23].
أيها التائبون اقبلوا النّصح، واتركوا المدح، واسمعوا قول أبي الفتح:
زيادَةُ المرءِ في دُنياهُ نُقصانُ وريحُهُ غيرُ محض الخير خُسرانُ*
وكُل وُجدَانِ حظ ﻻ‌ ثَبات لهُ فإن معناهُ في التحقيق فُقدَانُ*
كُل الذنُوبِ فإنَّ الله يَغفِرُهَا إن شيع المَرءَ إخﻼ‌ص وإيمانُ*
وكل كسر فإنَّ الله يَجبُرُهُ وما لكسر قَنَاةِ الدين جُبرَانُ*
يا عامراَ لخَرابِ الدار مجتهدا بالله هل لخَرَاب العُمر عُمرَانُ*
وَيَا حَريصاً على اﻷ‌موال يَجمعُهَا اقصر فإن سُرُورَ المالِ أحزَانُ*
دع الفؤاد عن الدّنيَا وزُخرُفهَا فَصَفوُهَا كَدَرٌ والوَصل هِجرَانُ*
وأعر سَمعَكَ أمثاﻻ‌ً أفضلها كَمَا يفضل يَاقُوت ومَرجَانُ*
أَحسِنْ إلى الناس تَستعبِد قُلُوبهم فَطَالما استعبدَ اﻹ‌نسانَ إحسانُ*
وإن أساء مُسيء فليكن لك في عُرُوض زلته صفح وغُفرانُ*
واشدُد يَدَيكَ بحَبلِ الله مُعتَصِماً فإنه الركن إن خَانتكَ أركانُ*
من استعان بغير الله في طَلَبٍ فإن ناصِرَهُ عَجز وخُذﻻ‌نُ*
من جاءَ بالمالِ مالَ النًاس قاطِبة إليهِ والمَالُ لﻺ‌نسان فتانُ*
من سَالمَ النَّاسَ يسلم من غوَائِلهِم وعاشَ وهوَ قَريرُ العين جذﻻ‌نُ*
والناس أعوَانُ من والتهُ دولتُهُ وهُم عليهِ إذا خَانَتهُ أعوَانُ*
يا ظَالمِاً فَرحاً بالسعد ساعِدُهُ إن كُنتَ في سِنةِ فالدهرُ يقظانُ*
ﻻ‌ تحسبن سرُوراً دائماً أَبَداً مَن سَرًهُ زَمَن سَاءتهُ أزمانُ*
ﻻ‌ تغترر بشبابٍ رائق خضٍل فَكَم تقدم قبلَ الشيب شُبَّانُ*
ويا أَخَا الشيب لو ناصحت نفسَك لم يَكُن لمِثلِكَ في اللذَّاتِ إمعَانُ*
هَبِ الشَّبيبَةَ تبدي عُذرَ صَاحِبِهَا ما عُذرُ أشيَبَ يَستَهويهِ شَيطَانُ؟