أم المؤمنين، كبيرة محدثات عصرها، ونابغته في الذكاء، والفصاحة، والبلاغة، فكانت عاملا كبيرا ذا تأثير عميق في نشر تعاليم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولدت بمكة في السنة الثامنة أو نحوها قبل الهجرة.
بعد أن لحقت خديجة -رضي الله عنها- بالرفيق الأعلى، أصبح بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاليا من الصدر الحنون والقلب الرءوف، الذي كان يبثه همومه ومتاعبه وما يلقاه من عنت المشركين وصدودهم وأذاهم، فجاءته يوما خولة بنت حكيم ) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَزَوَّجُ قَالَ: مَنْ؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا، قَالَ: فَمَنْ الْبِكْرُ؟ قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْكَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: وَمَنْ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ: سَوْدَةُ ابْنَةُ زَمْعَةَ قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ، قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ ( ثم أرسل في طلب سودة وأخبرها برغبته في أن تصبح زوجته، فسرت بذلك، فقال لها رسول الله: مُري رجلا من قومك يزوجك... ثم بنى بها، فمضت فترة على زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من سودة، ثم استرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا التي كانت تتكرر عليه، وهي قطعة القماش التي كانت عليها صورة عائشة وجبريل يقول له -عليه الصلاة والسلام-: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة، فكر رسول الله في أمر هذه الرؤيا وأنها أمر الله، ولا بد من تنفيذ أمر الله -عز وجل-، فلما استقر المقام بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قَصَّ على أبي بكر رؤياه، فأصغى الصديق وقد أدرك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء خاطبا، ثم التفت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: ما زالت صغيرة يا رسول الله، وسأرسلها إليك لتراها.
كانت الفرحة تغمر الصديق ثم دخل حَرم أهله ونادى عائشة التي كانت نحو التاسعة من عمرها، ثم أمرها بحمل إناء فيه تمر تذهب به إلى بيت رسول الله وتقول له: هذا ما عندنا فهل يوافقك؟؟
أسرعت عائشة إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهش لها وحيّاها ثم قدمت له التمر وقالت له ما قال لها أبوها، ثم عادت إلى والدها فسألها: ماذا قال يا بُنية؟ فأجابت: نعم، على بركة الله.
ارتاحت نفس الصديق -رضي الله عنه- وسر غاية السرور لجواب النبي -صلى الله عليه وسلم-، خُطبت عائشة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي بنت تسع سنين، لقد وثقت هذه الخطبة أواصر المحبة والصداقة بين رسول الله وصديقه أبي بكر، وزادتها متانة وقوة، ومرت السنوات.
سنوات كفاح وجلاد وجهاد، حتى كانت الهجرة إلى يثرب، وبعد أن استقر المقام بالمسلمين آخى النبي بين المهاجرين والأنصار، وجمع بين الأوس والخزرج على طريق الإيمان والإسلام، بعد ذلك جاء أبو بكر مذكرا النبي فقال له: ما الذي يمنعك أن تبني بأهلك يا رسول الله؟ فأجاب أبا بكر بالإيجاب، والابتسامة الرقيقة لا تفارق ثغره الكريم، دخلت عائشة بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- تحمل ضمن جهازها الدمى إذ كانت رغم اكتمال أنوثتها يغلب على تصرفاتها طابع الطفولة، ومع ذلك فقد كانت طفولة عائشة محببة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن ليتضايق منها أو يتألم، أو يبدي ضجرا أو اشمئزازا، ولكنه كان يرعاها رعاية الأب الحنون أو الوالد العطوف.
كيف لا؟ وهو نبي الرحمة، وهو الذي يقول: ) استوصوا بالنساء خيرا (.
كبرت عائشة ونضجت، واستوت عقلا وفهما وإدراكا، فكانت سيدة بيت رسول الله، ترعى شئونه وتدبر أموره، وتواسيه حين تجب المواساة، وتحفظ عنه الكثير من أقواله، وتتأسى بأفعاله، وتقوم بأمور بيت الزوجية خير قيام.
فعرف النبي -عليه الصلاة والسلام- لها الفضل، فكانت أحب نسائه إليه، وعرف فيها الذكاء والوفاء، والوعي والفهم؛ فقال مُوصيا أصحابه وأهله خذوا نصف دينكم عن هذه الحُميراء (، لقد وصل حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- إلى حد جعل باقي نسائه تشتد غيرتهن منها، وتدفعهن تلك الغيرة أن يُرسلن فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- إلى رسول الله يطلبن العدل بينهن، فجاءت أباها تنقل إليه احتجاج أزواجه، فغضب -صلى الله عليه وسلم- وأعرض عنها بوجهه، مع حبه الشديد لها، لكن فاطمة أعادت الحديث، وكررت الطلب، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: ) أي بنية، ألست تحبين ما أحب؟! فقالت: بلى، فقال: فأحبي هذه، لعائشة فسكتت فاطمة برهة، أضاف قائلا: ) فليتقين الله في عائشة، فوالله ما نزل الوحي في فراش واحدة منهن غيرها (.
حينما نتحدث عن عائشة فلا ننس غيرتها -رضي الله عنها-، فكانت شديدة الغيرة، فأتت أم سلمة بطعام في صحفة لها إلى رسول الله وأصحابه، فجاءت عائشة مستترة بكساء ومعها فهر، فكسرت الصحفة، فجمع رسول الله بين فلقتي الصحفة وهو يقول: ) غارت أمكم، غارت أمكم (، ثم أخذ رسول الله صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة إلى عائشة.
وخرج رسول الله من عند عائشة ليلا فغارت عليه، فجاء ليرى ما تصنع ثم قال لها: ) ما لك يا عائشة أغرت؟ فقالت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك (.
ولا يغربن عن البال أن ذلك الحب العظيم الذي تمتعت به عائشة أم المؤمنين كان عاملا قويا، بعث ما تكنه نفوس بعضهم من الحسد والغيرة لأن يقذفوا بالصديقة الطاهرة غير متورعين، ولا متحرجين من إثم، فبرأها الله بكتابه العزيز، فزادها ذلك منزلة وحبا لدى الرسول الأعظم، فبرأ الله عائشة بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ (سورة النور، الآيتان: 11-12)، ثم أمر رسول الله بالأشخاص الذين كانوا يروّجون ويفترون، فنالوا جزاءهم، وعادت الطاهرة إلى بيتها، وإلى مقامها في قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى مكانتها الرفيعة في نفوس المسلمين جميعًا.
بعد أن فتح المسلمون مكة وطهروا البيت الحرام من الأوثان، وارتفعت كلمة: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" مدوية في سماء الجزيرة، وبعد أن حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين حجة الوداع، وتلا قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (سورة المائدة آية: 3)، دمعت عينا أبي بكر -رضي الله عنه- إذ شعر بقرب وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتقاله إلى جوار ربه.
وحين دهمت الحمى رسول الله، سأل نساءه مستأذنا، بكل ما كان يتمتع به من أدب النبوة، أن يُمرَّض في حجرة عائشة فَأَذِنَّ له، فقامت عائشة المحبة الوفية بتمريضه، والاعتناء به، على خير ما يكون الوفاء والحب، وأوصى -صلى الله عليه وسلم- أن يدفن في حجرتها.
كانت -رضي الله عنها- أكثر نسائه وأهله حُزنا لفراقه، وألمًا لبعاده، ثم تولى والدها أبو بكر خلافة المسلمين، ثم تبعه عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- والكل يعرف لها مكانتها وفضلها وعلمها، فكم من قول وفعل كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ عنها وسمع منها.