سرت عاصفة الانهيارات المالية التي ضربت وول ستريت يوم الأحد الدامي كما تسري النار في الهشيم حيث امتد لهيبها ليلتهم عددا من عمالقة المال ويقوض أركان شركات صمدت لأكثر من قرن ونصف القرن أمام أعتى الأزمات المالية التي واجهتها الولايات المتحدة والعالم.

فقد بدأت مؤسسات مالية عملاقة تتساقط أمام أزمة الرهن العقاري التي يشير كافة خبراء المال والاقتصاد أنها لم تصل بعد إلى مستقر القاع المتوقع فيما تستعد السلطات الأمريكية لتلقي العزاء في المزيد من البنوك والشركات الكبرى مما ينذر
بأسوأ أزمة مالية تتعرض لها الولايات المتحدة منذ نحو قرن، حسب تقدير الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) آلن جرينسبان.

ولم تكن الخسائر التي تكبدتها الأسهم في بورصات نيويورك أمس الإثنين إلا غيض من فيض بينما يحوم شبح الإفلاس حول عدد من المؤسسات التي تشكل ركنا مهما من أركان النظام المالي الأمريكي.

وقدرت خسائر وول ستريت أمس الإثنين بحوالي 600 مليار دولار، وهي الأسوأ منذ الخسائر التي تكبدتها غداة هجمات 11 سبتمبر 2001.

ولم تكن أحداث الإثنين التي شهدت إفلاس شركة ليمان براذرز التي بدأت نشاطها عام 1850، ثم استحواذ "بنك أوف أمريكا" على ميريل لينش، أكبر شركة سمسرة للأسهم في العالم، مقابل 50 مليار دولار سوى قمة جبل الجليد الذي يخشى أن ينصهر ويغرق معه النظام المالي الأمريكي ويجرف معه أسواق المال العالمية.

وستواصل العاصفة اقتلاع مؤسسات أخرى بدأت تهتز أمامها وفي مقدمتها "المجموعة الأمريكية العالمية" التي تعد واحدة من أكبرشركات التأمين في العالم التي بدأت تترنح مع خسارة أسهمها لنحو 61 في المائة من قيمتها. وبدأت أعراض العدوى تطال عددا من المؤسسات الأخرى حيث خسر بنك "واشنطن ميوتوال" 27 في المائة من قيمة أسهمه ونزلت قيمة أسهم جنرال إليكتريك بنسبة 8 في المائة وتملك الخوف باقي البنوك التي بدأت تضيق الخناق على عمليات الإقراض مما يهدد المحرك الرئيسي للاقتصاد الأمريكي المتمثل في الائتمان فيما بلغ الدولار أضعف حالاته أمام الين الياباني منذ نحو عشر سنوات.

كما تراجعت أسهم سيتي جروب، أكبر بنوك أمريكا، بنسبة 15 في المائة ليصل سعر السهم إلى 24ر15 دولار في أقل مستوى له منذ عام 2002، وتلاه بنك أوف أمريكا بنسبة 21 في المائة ليصل إلى 55ر26 دولار وهو أقل سعر له منذ يوليو 1982 بعد أن قبل شراء ميريل لينش مقابل 50 مليار دولار، وخسرت أسهم أمريكان إكسبريس، أكبر شركات بطاقات الائتمان الأمريكية، 9ر8 في المائة من قيمتها ليصل سعر الواحد منها إلى 48ر35 دولار.

أما أكبر شركة تأمين أمريكية، المجموعة الأمريكية العالمية، المهددة بالإفلاس فقد نزل سعر سهمها من 38ر7 دولار إلى 76ر4 دولار وهو أدنى مستوى له منذ عام 1988 بسبب ديون الرهن العقاري المعدومة الناجمة عن عجز أصحابها على السداد وإعادة منازلهم للبنوك.

كما هبطت أسهم جولدمان ساكس بنسبة 12 في المائة وتراجعت أسهم جي بي مورجان تشيس آند كومباني بنسبة 10 في المائة. أما مورجان ستانلي، أكبر شركات التعامل في الأوراق المالية للخزانة الأمريكية، فقد هبطت أسهمها بنسبة 14 في المائة.

ولايبدو أن هذه الأزمة هي من النوع العادي الذي عايشته الأجيال الخمسة السابقة حيث أنها، بشهادة أساطين صناعة المال الأمريكيين، الأسوأ منذ مايقرب من قرن. وقد أكد ذلك آلن جرينسبان الذي رأى أن هذه العاصفة التي بدأت تطل برأسها مع بداية انهيار سوق الرهن العقاري القائم على القروض عالية المخاطر العام الماضي، لاتحدث إلا مرة كل قرن وربما تؤدي إلى توالي سقوط المزيد من الشركات. وقال جرينسبان (82 عاما) الذي أمضى 18 عاما على رأس إدارة البنك المركزي الأمريكي الذي يتعامل يوميا مع مايقرب من 4 تريليون دولار من النقد والسندات، أن مايحدث يتجاوز أي شيء رآه في حياته.

وقد أفاقت الخزانة الأمريكية إلى طبيعة النظام الرأسمالي الذي يقوم على قاعدة البقاء للأقوى ونفضت يدها من عمليات الإنقاذ لهذه الشركات المترنحة من خلال وضعها على جهاز الإنعاش المتمثل في ضخ المزيد من النقد من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في ميزانيات هذه الشركات. وقال وزير الخزانة هنري بولسون أن الحكومة لن تتدخل لإنقاذ ليمان براذرز أو ميريل لينش لكنها ستعمل مع مجموعة من المؤسسات المالية الخاصة لتدبير مابين 70 إلى 75 مليار دولار لإقراض المجموعة الأمريكية العالمية حتى تستعيد توازنها ولاتزيد من تفاقم حالة السقم في أسواق المال.

ولم يشأ مرشحا الرئاسة، الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري جون ماكين، أن يتركا هذه اللحظة دون استثمارها في استعراض من هو الأجدر بالتعامل معها.

ففي الوقت الذي اتهم فيه أوباما سياسات الجمهوريين بالتسبب في وصول أسواق المال إلى هذا الحد بعد دفن رؤوسهم في الرمال وتشجيع جشع البنوك ومؤسسات المال على حساب المواطن والمستثمر العادي، تعهد ماكين بإصلاح النظام المالي من جذوره.

وينتظر أن يجتمع مجلس إدارة البنك المركزي اليوم الثلاثاء ليقرر ماإذا كان سيضطر إلى تخفيض معدلات الفائدة لتدارك أزمة الائتمان والتخفيف من حدة هذه الضغوط على الأسواق وعلى قدرة البنوك على مواصلة أهم وظيفة لها وهي الإقراض.

ويهدد إقدام البنوك على غل يديها على الإقراض باحتدام حالة الكساد في أسواق العقارات وزيادة تدهور أسعار المنازل وبالتالي يزيد خسائر شركات التأمين والإقراض.

ولن تقف آثار هذا الزلزال المالي عند الخسائر المالية بل ستمتد إلى سوق العمل إذ حذر حاكم نيويورك ديفيد باترسون من أن شركات المال العاملة في وول ستريت قد تلجأ لتسريح مايقرب من 40 ألف عامل لديها في الوقت الذي لم يعرف بعد ماهومصير العاملين لدى ميريل لينش بعد أن ابتلعها "بنك أوف أمريكا."

وقد اتهمت الولايات المتحدة بالميل باقتصادها إلى النظام الاشتراكي بعد أن تدخلت لتأميم إدارة عملاقي الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك اللذان يستحوذان على نصف الرهون العقارية في الولايات المتحدة والتي يبلغ إجماليها 12 تريليون دولار حيث قامت بضخ 200 مليار دولار في خزائنهما ليتمكنا من مواصلة وظيفتهما المتمثلة في توفير الضمانات للقروض العقارية التي تمنحها البنوك.

كما نسقت الحكومة مع جي بي مورجان تشيز لشراء شركة بير ستيرنز وفتحت لها خط ائتمان من البنك المركزي لهذا الغرض.

ومع ازدياد قلق المستثمرين والمواطنين الأمريكيين، أصبح الاقتصاد الهم الأول للناخب الأمريكي مما جعل صامويل هيز، أستاذ شؤون المال بكلية هارفارد للأعمال، يتوقع أن يصب ذلك في صالح المرشح الديمقراطي باراك أوباما مع إلقاء اللوم فيما يحدث على "سوء" إدارة بوش. وقال أن هذه الأزمة ستؤثر نفسيا على الناخب وستبعث داخله القلق إزاء صحة ونزاهة النظام المالي.

ويجمع المحللون على أن القاسم المشترك في هذه الأزمات المالية هو فقاعة سوق العقارات التي انفجرت خلال العامين الماضيين وأدت حتى الآن إلى هبوط أسعار المنازل بنسبة 25 في المائة.

ويتوقع المحللون أن تهبط هذه الأسعار بنسبة 15 في المائة أخرى لينعكس وقعها على تباطؤ الاقتصاد وتشديد شروط الإقراض وزيادة معدلات البطالة وتخفيض الإنفاق والتكاليف وربما ينتهي الأمر بكساد حقيقي بنهاية هذا العام.

وكان صندوق النقد الدولي قد تكهن في وقت سابق من هذا العام بأن تصل الخسائر الناجمة عن أزمة الائتمان إلى حوالي تريليون دولار إلا أن الخسائر التي تحملتها البنوك حتى الآن وصلت إلى 350 مليار دولار. وقد أدت الأزمة حتى الآن إلى اختفاء 11 بنكا من الساحة، من بينها بنك إندي ماك الذي يستحوذ على أصول بقيمة 32 مليار دولار وودائع تصل إلى 19 مليار دولار. وتوقع كريستوفر والين، العضو المنتدب لشركة أبحاث "تحليلات المخاطر المؤسسية" أن يتم إغلاق مايقرب من 110 بنوك تصل قيمة أصولها إلى حوالي 850 مليار دولار وذلك بحلول منتصف العام القادم.

ويصل العدد الإجمالي لمؤسسات المال الواقعة تحت مظلة التأمين الفيدرالي إلى 1800 مؤسسة تستحوذ كلها على مايقرب من 13 تريليون دولار من الأصول والممتلكات. وتوقع آلن جرينسبان أن تستمر القوة الهادرة لهذه الأزمة حتى تستقر أسعار العقارات في الولايات المتحدة بعد أن يكون الاقتصاد العالمي قد تأثر بها.

وقد حذر جرينسبان من خطط المرشح الجمهوري ماكين بتمديد العمل بالإعفاءات الضريبية المعمول بها حاليا من خلال المزيد من الاقتراض. وقد بلغ إجمالي الدين الحكومي الداخلي والخارجي حتى الآن نحو 9 تريليون دولار وتأتي الصين في مقدمة الدول الدائنة للولايات المتحدة حيث قدمت مايقرب من 450 مليار دولار وتليها بريطانيا ثم اليابان ثم السعودية.

كما أن العجز في الموازنة الأمريكية بلغ 450 مليار دولار بينما زاد العجز التجاري عن 65 مليار دولار.

وقال جرينسبان أنه ليس من أنصار منح إعفاءات وتخفيضات ضريبية بمزيد من الاستدانة. لكن ماكين زعم أنه سيمول هذه الإعفاءات من تقليص وحجب التمويل عن المشروعات غير الضرورية أو المدسوسة التي يقحمها أعضاء الكونجرس على بنود الميزانية .