بلعام الَّذي كَفَر



هذه قصة من القصص القرآنى ..



لكنها قصة من اعجب العجب ..



انها قصة انسان آتاه الله (تعالى) آياته ..



انسان فضله الله (تعالى) بعمله ، واسبغ عليه نعمة الإيمان والهداية والتوفيق ..



انسان اعطاه الله (تعالى) الفرصة كاملة الإيمان والهدى ، والارتفاع عن الانحطاط فى الكفر والانغماس فى الضلال ..



انسان رفعه الله (تعالى) الى قمة القمم وذروة الذرى فى الايمان والتقى ..



انسان كان قدوة و مثلا اعلى لغيرة ..



وبكل غباء يترك ذلك الانسان كل هذه النعم وتلك الفرص ، ويعرض عنها .. يضرب بها عرض الحائط فى جهل ..



وبكل جهل ينسلخ ذلك الاحمق من آيات الله ، ويخلع نفسه من الايمان ؛ ليهوى فى الكفر والالحاد ..



قصة انسان شقى هوى من افق النجوم المضيئة ؛ ليسقط على الارض ، ويغوص فى الطين والوحل ..



هذه قصة بائس منكود باع الاخرة بالدنيا. باعها بثمن بخس حقير ، فعرض نفسه لغضب الجبار ، وصار من اهل النار ..







فمن هو ذلك اليائس المغضوب عليه ، الكافر المستحق لعناته فى كل زمان ومكان ..



إنه عبرة ومثل يضرب لكل من انحطت نفسه ، وخارت عزيمته ، ولم يقدر نعمة الهداية والايمان حق قدرها ، فهوى الى اسفل سافلين فى الدنيا ، وهوى جحيم الآخرة ..



انه (بلعام) .. (بلعام بن باعوراء) ..



قالوا أن بلعام بن باعوراء كان حبرا من احبار بنى اسرائيل فى زمن النبى ((موسى)) عليه السلام ..



وإنه قد تلقى العلم .. علم التوراة على يدى نبى الله (موسى)عليه السلام ، وإن (موسى) عليه السلام هو الذى رباه وعلمه ، حتى صار من اعلم علماء بنى اسرائيل ..



وقد بلغ ((بلعام)) من العلم درجة لم يبلغها إلا الانبياء والصديقون ..



ومن غزارة علمه ومعرفته وتقواه ، كان الالاف يتلقون عنه العلم فى مجلس واحد ، وبكتبون كل ما يسمعونه منه ..



وقالوا انه كان فى مجلسه اثنتا عشرة الف محبرة للمتعلمين الذين يتلقون ويكتبون عنه ..



وقالوا إنه بلغ درجة من الهدى والتقى والنور والايمان وانه كان اذا نظر رأى عرش الرحمن من فوق سبع سموات ، وهو قابع فى مكانه على الارض ..



وقد قال الله تعالى عنه فى قرآنه الكريم : {واتل عليهم نبأ الذى اتيناه اياتنا }



فقد اتاه الله (تعالى) ايات كثيرا ، وليست ايه واحده وهذا من نعم الله (تعالى) الكثيرة عليه ..



ومن آيات الله (تعالى) على ((بلعام)) انه كان طاهرا مجاب الدعوة .. وكان يعرف اسم الله (تعالى) الاعظم ، الذى اذا دعى به اجاب ، واذا سئل اعطى ..



ثم ضل ((بلعام)) بعد هدى .. وكفر بعد ايمان ..



اضله الله (تعالى) بعد علم ، واعمى بصيرته بعد نور ، فكان ((بلعام )) اول انسان على وجه الارض يؤلف كتابا ينطق بالكفر من اول سطر الى آخر حرف .. كتابا يزعم فيه ان الكون ليس له اله ، وان العالم ليس له صانع ..



نعوذ بالله من كلمة الكفر واقوال الكافرين ..



ولكن كيف كانت قصة كفر ((بلعام)) والحاده ؟!







قيل ان نبى الله (موسى) عليه السلام قد ارسل ((بلعام)) الى اهل ((مدين)) ليدعوهم الى الايمان ، وتوحيد الواحد الاحد ..



فلما ذهب اليهم ((بلعام)) برسالة (موسى) عليه السلام ، اغروه بالمال والهدايا الكثيرة وعرض الحياة الدنيا الزائل ، وقالوا له :



اترك دعوة (موسى) ولا ترجع اليه ، ونحن نقدم لك كل هذه الهدايا والاموال ؛ فتعيش بيننا غنيا كواحد منا ، بل رئيسا علينا ..



وعرض عليه ملك مدين الكافر ان يزوجه بأجمل النساء من بنات قومه ، ويقدم له الكثير من الهدايا والاموال ، فى مقابل أن يترك دين الحق ويهجر دعوة موسى ، ويتخلى عن دينه ؛ لينضم اليهم فى كفرهم ضلالهم ..



كان هذا اول اختبار حقيقى يتعرض له (بلعام) واول فتنة وابتلاء له .. وهى فتنة وابتلاء عظيمان .. وهل هناك ابتلاء اعظم من ابتلاء الرجل فى دينه ؟! وماذا كان رده عليهم ، وهو المؤمن قوى الايمان ، والحبر العلامة ، كما رأينا ؟!



لما عرض أهل ((مدين)) وملكها ما عرضوه على ((بلعام)) قال لهم ..



اعطونى مهله حتى افكر واقدر وادبر امرى ، ثم أرد عليكم ، فإما رحعت الى (موسى) واما قبلت عرضكم وعشت بينكم .



وتركهم (بلعام) ثم ركب حمارته ، وسار بها ؛ ليختلى بنفسه ويفكر فى امره ، وفيما عرضه عليه القوم .. ولما اختلى بنفسه راح يحدثها قائلا :



الله أم الشيطان ؟!



(موسى) ام المال ؟!



الآخرة ام الدنيا ؟!



وهكذا راح ((بلعام)) يفكر ويقدر ويدبر .. ولم يستغرق منه الامر طويلا ..



فقد أرشده هواه الخسيس ونفسه الدنية إلى اختيار الشيطان ، وتفضيل المال على الدين ، والدنيا الفانية على الآخرة الباقية .. لقد فضل الرياسة والشرف الزائل ، وحب المال على دينه ، فقال فى جشع :



بل الشيطان والمال والدنيا ..



فلما كفر (بلعام) وقال ذلك ، قاد حمارته عائدا الى القوم ،



تراءى له الشيطان على مكان مرتفع عند قنطرة ، سعيدا بما فعل .. فلما رأت الحمارة الشيطان نفرت منه ، وسجدت لله (تعالى) ، بينما سجد الكافر (بلعام) لشيطانه اللعين ..



وهكذا كفر (بلعام) بعد ايمان ..



وضل بعد علم .. آثر الهوى على الهدى ..



غاص فى الطين والوحل وضل بعد أن حلق بأحنجة من النور مع الملائكة ، ورأى الملكوت الاعلى بنور بصيرته ، وهو قابع فى محرابه على الارض .. سقط (بلعام) وهوى بعد أن ضل وغوى ..



اتخذ (بلعام) هواه الها يعبده من دون الله ‘ بعد أن اختار الدنيا واطاع الشيطان ..



وبكفره صار (بلعام) من الهالكين الحائرين ، الذين عملوا بخلاف علمهم الذى علموه ..



وبعمله الخسيس الوضيع هذا صار (بلعام) أضل من الشيطان ..







وقالوا إن ((بلعام بن باعوراء)) كان رجلا صالحا مستجاب الدعوة ، وكان عالما لقومه من الكنعانيين ، أهل (فلسطين) واصحابها الاصليين .. وكان قومه يحبونه ، ويتبركون به ، ويستمعون الى نصحه ..



ولما سار نبى الله (موسى)عليه السلام بقومه تجاه أرض الكنعانيين ، ونزلوا قريبا منها ليأخذوها، هرع الكنعانيون الى (بلعام بن باعوراء) مستنجدين به ، وقالوا له متوسلين :



لقد جاء (موسى بن عمران) فى قومه من بنى اسرائيل ، ليخرجونا من بلادنا ويقتلونا ويأسرونا ، ثم يأخذوا بلادنا وارضنا وديارنا ، ونحن قومك وليس لنا مقام غير بلادنا ، فإن ضاعت شردنا فى الارض وضعنا ..



فقال لهم (بلعام) :



وماذا أنا فاعل لكم ؟! ماذا أغنى عنكم وانا رجل واحد ؟!



فقالو له :



انت رجل مجاب الدعوة .. فاخرج وادع الله على (موسى) وقومه حتى ينصرنا عليهم ..



صاح (بلعام) فى قومه مستنكرا :



ويلكم .. ويلكم .. هذا نبى الله ومعه الملائكة والمؤمنون ،



كيف اذهب وادعو الله عليهم ، وانا اعلم من الله (تعالى) مالا تعلمون ؟ّ! انكم بذلك تلقون بى الى التهلكة والتعرض لغضب الجبار ..



فلم يزل قوم (بلعام) يحرضونه ويتوسلون اليه أن يدعو على(موسى) وقومه ، حتى فتنوه عن دينه ، فأطاعهم وسار متوجها الى الجبل الذى كان (موسى) وجيشه يعسكرون تحته ..



ثم اعتلى الجبل ، وأطل على عسكر (موسى) وراح يدعو عليهم ، فصار كلما دعا على (موسى) وقومه بشر او هزيمة، صرف الله(تعالى) لسانه ، فينقلب الدعاء على الكنعانيين ، فيدعو عليهم بالشر والهزيمة ..



وكلما حاول (بلعام ) أن يدعو لقومه بالخير والنصر ، صرف الله (تعالى)لسانه الى (موسى) وقومه من بنى اسرائيل فيدعو لهم بالخير والنصر ..







*******







ولما رأى الكنعانيون وسمعوا ذلك من (بلعام) تعجبوا ،



وقالوا له :



يا ((بلعام)) أتدرى ما تقول وما انت صانع بنا ؟!



إنك تدعو لهم بالخير والنصر ، وتدعو علينا بالهزيمة والشر !



فقال (بلعام) :



أعرف لكننى لا املك غير ذلك .. ان ذلك يحدث بغير ارادتى وعلى الرغم منى .. ان الله هو الذى يصرف لسانى هكذا عن طلب النصر لكم ، وطلب الهزيمة لنبيه (موسى) عليه السلام .. لقد قلت لكم ذلك من قبل ولكنكم لم تصدقونى ..



فتعجب قوم (بلعام) وقالوا له فى غضب :



ماهذا الذى تزعم يا (بلعام ) هل تظن اننا يمكن أن نصدق مثل هذه الخرافات ؟! قل كلاما معقولا حتى نصدقه يا رجل ..



فقال (بلعام) صادقا ومتحسرا :



لقد ضاعت منى الآخرة بهذا الصنيع الذى اغضب الله على لأننى عاديت رسوله ودعوت ، مع علمى الغزير الذى أعطانيه .



فقال له قومه :



وما العمل ؟! هل تترك ((موسى)) وقومه يأخذون أرضنا وديارنا وأموالنا ، ويحتلون بلادنا ؟!



قال (بلعام) :



لم يبق الا المكر والحيلة .. سأحتال وأمكر لكم ..



فقالوا له :



ولماذا تحتال وتمكر لنا ؟!



فقال (بلعام) :



حتى تتمكنوا من هزيمة بنى اسرائيل ..



فقالوا له :



وكيف تحتال وتمكر لنا ؟!



فقال ((بلعام)) :



إذا ارتكب بنو اسرائيل المعاصى خذلهم الله ونصركم عليهم وسأبذل ما فى وسعى ، حتى يتسلل بعضنا الى معسكرهم ، ويزين لهم ارتكاب المعاصى ..



ولم يزل (بلعام بن باعوراء) يخطط ويدبر ، حتى وقع بنو اسرائيل فى المعاصى ، وارتكبوا الفواحش ، فانتشر بينهم الطاعون ، ومات منهم الكثيرون ..







*******







وأيا كان (بلعام بن باعوراء) فإن ما يهمنا هو ان الله (تعالى) قد اتاه اياته ، فانسلخ منها ، وارتد الى الكفر والالحاد ، بعد الهداية والايمان ..



ولو شاء الله (تعالى) لرفع ذلك ال(بلعام) الكافر المرتد بعد الايمان ولكنه سبحانه لم يشأ له الرفعة والعلو ، لما يعلمه من حقارته ودناءته وسعيه وراء حطام الدنيا الزائل ،



والخلود الى الارض ، والركون لها بعد ان كاد يلمس الثريا بعلمه وايمانه ..



لقد شبه الله (تعالى) بلعام فى دناءته وحقارته بالكلب فى أخس واحقر حالاته ، وليس فى امانته ويقظته وحراسته وحبه لسيده وتفانيه فى خدمته ، وفدائه له بنفسه ، وانما شبه بالكلب فى تعبه ولهثه وشقاوته ..



فالكلب دائما وفى كل الحالات يلهث .. وفى كل حالاته يخرج لسانه ويتنفس بصعوبة ، سواء قسوت عليه وزجرته ، ام ارحته وعطفت عليه ..



و ((بلعام بن باعوراء)) هو مثل لكل من اتاه الله (تعالى) اياته وعلمه العلم النافع ، فترك العمل به ، واتبع هواه ، وآثر سخط الله (تعالى) على رضاه ، ودنياه على اخراه ؛ ولذلك شبهه بالكلب ..



ولكن لماذا شبهه بالكلب ، دون غيره من الكائنات ؟!



لأن الكلب همته لا تتعدى بطنه ..



وتشبيه كل من أثر الحياة الدنيا على رضا الله والحياة الآخرة بالكلب اللاهث باستمرار يدل على مدى جشع وشدة لهث ذلك الكافر المنسلخ من ايات الله على الدنيا ، وهو لهاث مستمرلا ينقطع على المتاع الزائل ، يشبه لهاث الكلب المستمر .. فكل من كذب بأيات الله ، ان وعظته فهو ضال ، وان تركته فهو ضال ..وان طاردته يلهث ، وان تركته يلهث ..



وذلك نفسه مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، وكذبوا رسوله برغم علمهم بصدقها وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. وهؤلاء القوم هم اليهود الذين حرفوا وبدلوا التوراة ، حتى يخفوا صفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمذكورة عندهم فى التوراة ..



ولهذا طلب الله (تعالى) من رسوله (صلى الله عليه وسلم) ان يقصص القصص ، اى يتلو على يهود المدينة الايات التى تتحدث عن ذكر ذلك المنسلخ عن دينه وعن آيات الله ؛ حديثه المذكور فى القرآن الكريم مثل حديث هؤلاء اليهود المكذبين ، لعلهم ينقادون الى الحق ، ويقبلون على الصواب ..



وقد ذكرت قصة ((بلعام بن عوراء)) فى سورة الاعراف ..



قال (تعالى) :







{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {176} سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ}







[سورة الاعراف 175 : 177 ]


منقول موقع طريق التوبه


.: طريـــق التوبـــة www.twbh.com :.