ومن الحب ما قتل !!!
.
بقدر ما كان الغداء مميزا ذلك اليوم ، حيث أن مضيّفنا (وهو أحد أرحامنا) أعد لنا وجبة فريدة اشتهر بها أهل المنطقة التي ينتسب إليها . إلا أن ما ميَّز زيارتنا ذلك اليوم هي تلك العلاقة الحميمية التي لاحظها كل الموجودين بين هذين الحبيبين .
.
الحبيب الأول هو (ماجد) الطفل الذي لم يبلغ الثالثة من عمره ، أما الثاني فهو أباه (عمرو) ذلك الشاب الذي يعيش نهاية العشرينات من عمره تزوج بزوجته قبل سنوات قليله وزرقهما الله قرة عينهما الوحيد (ماجد) .
.
لم تكن تلك أول مرة ألتقي فيها بعمرو ، ولكنها أول مرة أمتع ناظري بماجد ، طفل يأسر فؤاد كل من يلقاه بجماله وخفة ظله وحيويته ، وبسمته التي لا تكاد تفارق ثغره الطاهر . لاحظت ذلك اليوم أن علاقه عمرو بماجد لم تكن مجرد علاقه أب بطفله الوحيد ، فالمراقب لطريقه تعامل عمرو مع ماجد يظن أنه أب حرم من طفله الوحيد سنوات قبل أن يلتقي به ذلك اليوم . لا يكان يتحرك ماجد إلا وعين أبيه ترمقه عن قرب، وما هي إلا ثوان معدوده حتى يعود ذلك الطفل المدلل إلى حضن والده الذي يضمه إليه ويقبله كما لو كان لن يراه مجددا.
.
بعد خروجي ذلك اليوم من وليمة الغداء ، أخذت أسأل الأهل والأقارب عن قصة عمرو مع ابنه ماجد ، وعن سر تلك العلاقه القوية التي تربطهما سويا . فأجمع كل من سألت بأنهم مثلي تماما لم يروا شيء مثل ذلك قط . وأخذ كل منهم يروي لي بعضا مما رأى من عجائب تلك العلاقه.
.
كان عمرو لا يكاد يتحرك إلا وفؤاده (ماجد) معه ، وأصدق ما يقال أن ماجد كان كالهواء الذي يتنفسه عمرو ولا يكاد يستغني عنه مطلقا ، كلما خرج أخذه معه ، حتى صلاة الفجر يستيقظ ذلك الشاب الصالح فيوقظ ماجد ليرافقه للصلاة . ويصف لي آخر سعادة عمرو يوما ما عندما رأى ماجد يأخذ شيئا من التراب في رحلة برية فيضعه في فمه ، فيضحك أباه عمرو ويقول الحمد لله الذي جعل ابني مثلي يعشق البر والرمال.
.
ومما تواتر لي بأن عمرو من شدة حبه لماجد ، كان لا يحتمل بقاءه بعيدا عنه حتى أثناء قيادته للسيارة ، ولذلك كان دائما ما يضعه في أحضانه على رجليه أثناء تنقلهما سويا ، وربما جعله يشاركه في التحكم بمقود السيارة من باب المداعبة والمزاح .
.
يقول محدثي أنه في الأسبوع الماضي خرج مع عمرو وبعض زملاءه الى معرض للسيارات ، ومن نافلة القول أن نقول بأن ماجد كان برفقته، لم يكن هم عمرو مشاهدة السيارات الجديدة كما كانت هوايته منذ الصغر. فهمه هذه المرة كان منصبا على متعة تفوق أي متعة أخرى . كان همة إسعاد طفله الصغير ماجد ، فأخذ يركبه سيارة تلو أخرى ، ويجعله يمسك بمقود القيادة ويلاعبه ويهمس في اذنيه : غدا تكبر يا ماجد واشتري لك السيارة التي تشتهيها .
.
ولو استطردت في سرد كل ما سمعت لما انتهى بنا الحديث من وصف المواقف والعجائب والتي أعلم أنني لم أسمع إلا جزءا يسيرا منها.
.
وفي ليلة الخميس الماضي ، وبينما كنت أحضرحفل زفاف لأحد الأصدقاء ، تلقيت مكاملة من شخص لم أعهد اتصاله بي في مثل تلك الساعة المتأخره من الليل ، بعد السلام قال لي : لقد تعرض عمرو لحادث سيارة قوي .. فسألته عن صحته ، فقال الحمد الله لم يتعرض لمكروه ...
.
وعندها تغير صوته وخنقته العبرة ، فقلت ما الأمر ؟؟ ، فقال : ولكن ابنه ماجد كان معه وقد فارق الحياة ...
.
إنا لله وإنا إليه راجعون ....
.
خرج عمرو لمشوار قريب ، وأثناء قيادته للسيارة وفي احضانه ماجد طفله المدلل ، فاجأته سيارة مسرعة معاكسة للطريق فاصطدمت بسيارته ، لتبقي شاب بكسر في وجنته اليسرى ، وفؤاد منزوع بعد علمه بوفاة ابنه الوحيد بسبب ارتجاج شديد في المخ تسبب في مفارقته للحياة.
.
يروي لي من حضر في المستشفى بأن عمرو بمجرد سماعه للخبر ، غادرالمستشفى فورا دونما أي اهتمام بتوجيهات الأطباء الذين حذروه من احتمال اصابته بنزيف وأهمية بقاءه في المستشفى . توجه على الفور لجثة ابنه ... أمسك به وأخذه في أحضانه وخرج على الفور قائلا : سآخذ ماجد لنتمشى سويا ...
.
أم ماجد وما أدراك ما أم ماجد ، فهي حتى الآن لا تكاد تصدق الخبر ... قبل دفن ابنها بدقائق كانت تأخذه في حضنها وتلاعبه وتقول ما أجمله ، إنظروا اليه كيف يلعب ويضحك معي ....
.
هكذا رحلت يا ماجد عنا وعن والديك ... ويبقى السؤال .. من المسؤول عن هذا الرحيل المر ؟؟
.
هل نقول أن حب أباك لك جعله يستهين بمبادئ السلامة التي تحتِّم وضع الأطفال في الأماكن المخصصه لهم في السيارات ، وبذلك يصدق المثل القائل : ومن الحب ما قتل !!
.
كان الله في عونك يا عمرو ... فكم من السنين ستحتاج لتتجاوز شعورك بالذنب تجاه تهاونك الذي أدى إلى سلبك أعز ما تملك ؟ يا له من شعور صعب لا يكاد يتحمله أحد .
.
هوّن عليك يا أبا ماجد ، فهذا قضاء الله وقدره ، ووالله لو ربطته بألف حزام لما رده ذلك عن قدره المكتوب عليه ، إنها قسمة الله فلا تجزع ...
.
سؤال آخر يتبادر لذهني ... كم سيكفي من العقوبة لذلك السائق المتهور ؟ كيف سيشعر ذلك السائق عندما يروى له قوة العلاقة بين الأب وابنه ؟ وبأنه في لحظه تهور واستهتار خطف البسمة والبهجة عن أسرة بأكملها !!!
.
إنها والله مصيبة وأي مصيبة ، ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا :
إنا لله وإنا إليه راجعون .... إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا ماجد لمحزونون.
.
قال صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه .
.
.
أبو عاصم
الجمعة 16 شوال 1426 هـ