صدر يوم امس تقرير " ديتليف ميليس " الذي طال انتظاره من قبل كل الأفرقاء . صدر التقرير وسط أجواء محمومة وتساؤلات كثيرة حول امكانية تسييسه . الجواب المنطقي على هذا الأمر برأيي هو التالي : إنه لمن المستغرب أن لا يسيس تقرير " ميليس " ، ومن طبيعة الأمور ان يجري استغلاله . إن لم يُستغل فعلينا أن نلاحظ بأن شيئا ما ليس على ما يرام .
ان يجري تسييسه تعني ان يجري استغلاله من الجهات التي يمكن ان تستفيد من ذلك .


لا ، لا ، لا أريد ان أتحدث في السياسة ولكن هذه هي طبيعة الأشياء المرتكزة على مسلمات قانون الحتمية في الحياة .
هناك دوما من يبحث عن إفادة ، أو عن مناسبة يستسهل فيها إثبات رأي له ، أو جني ربح ، أو تقديم سلعة ، أو الترويج لخدمة . ولا شك أن القدر يقدم أحيانا ظروفا وأوقاتا يسهل فيها هذا الترويج الذي كان في ما سبق صعبا .

سقطت شركة " رفكو " في فخ المختلسين ، وشكلت رابع أكبر عملية تزوير واختلاس في الولايات المتحدة . المتعاملون مع رفكو سيستردون أموالهم قريبا . هذا ما أكده لي - على الأقل - أحد الثقات في الشركة .

سقطت " رفكو " إذا ، وهذا ليس مستغربا في عصرنا هذا ، ألأمر يمكن أن يحدث في أي مؤسسة مالية أو تجارية أو صناعية ، يمكن أن يحدث في أي بنك كبير أو صغير . عصرنا هذا زاد فيه التكالب وسقطت المحرمات .

كل ما سبق قوله أراه طبيعيا غير مستغرب . ما اراه مستغربا ، غير طبيعي ، هو ما سيأتي قوله .

تلقيت اتصالا هاتفيا من واحد من كبار البنوك الأوروبية - أقول البنوك - .
قال : انتم تتعاملون وتقدمون لعملائكم خدمة شركة FXCM .
أدركت منذ اللحظة ما يرمي اليه الرجل ، وقدرت سبب اتصاله في هذا اليوم بالذات ، إدراكي وتقديري كانا في محلهما . لم يكن المتصل الوحيد .
قلت : نعم قلت الصواب .
قال : والآن ، بعد سقوط شركة " رفكو " ألم تقتنعوا بعد بأن التعامل مع بنك أفضل ؟
قلت : هل إن البنك الذي تعمل فيه يزيد على شركة رفكو ضخامة ، وقوة ، وانتشارا ؟
قال : لا استطيع أن أدعي ذلك ، قد يزيد عنها ، أو ينقص عنها بقليل .
قلت : وهل تستطيع أن تعطيني ضمانة بأن البنك الذي تعمل له لن يتعرض لأزمة كما الأزمة التي تتعرض لها " رفكو " .
فهم الرجل أن محدثه عارف ببواطن الأمور ، فقرر أن يذهب ال لبّ الموضوع .
قال : لا ، لا يمكن لأحد أن يعطي هذه الضمانة . ولكن ثمة نقطة مهمة تلعب لصالحكم إن انتم تعاملتم معنا .
قلت : أفصح ، فأنا سامع لك .
قال : ان تعاملتم معنا ، فسيكون من السهل جدا عليكم إقناع** الزبائن بأن يتعاملوا معكم .
فكرت بكلمته . فهمت مرماها . أردت أن أسمعها منه . إستغبيت في لهجتي . سألت : بربك ، مزيدا من الإفصاح .
قال : إن قلتم للزبون إنه يتعامل مع بنك ، سيكون من السهل عليكم إقناعه** أسرع وأكثر من القول إنه يتعامل مع بروكر . كلمة بنك لها رنة مختلفة ، توحي بالثقة أكثر ، الرجل العربي يحبها . انا واثق ان فعلتم ذلك فلن تجدوا صعوبة في إقناع ** الزبائن .
إستغبيت نفسي مرة أخرى .
قلت : وإن فتح متعامل حسابا معكم . هل يرسل المال مباشرة الى حساب باسمه ؟
قال : لا طبعا يرسله الى حساب عام يشمل كل حسابات العملاء . التعامل بالفوركس يتم عبر هذه الوسيلة .
وأضاف : لكن صدقني ، عندما يسمع المتعامل انه يتعامل مع بنك مباشرة فهو لا يسأل عن هذه التفاصيل . سيكون من السهل عليكم إقناعه** .
قلت : تقصد سيكون من السهل علينا خداعه **** .
أدرك الرجل أن حجته لم تقع في نفسي موقع الرضا . تغيرت لهجته ، أخذ مسافة في الحديث . لاحظت ذلك ، لم أشأ ان ينهي المكالمة تحولت الى سائل .
قلت : وهل إن أموال العملاء عندكم مؤمنة ؟
عادت اليه بارقة أمل . قال بثقة المفتخر : طبعا ، طبعا ، مؤمنة الى حد ال 40.000 دولارا .
قلت : ألا تعرف إنها مؤمنة عندنا الى حد ال 100.000 دولارا ؟
قال : أعرف ، ولكن إن اعتمدتم فقد نجد طريقة نزيد بها التأمين .
شكرت الرجل على اتصاله ، وعدته بإحالة عرضه على المسؤولين لدراسته ، أنهيت المحادثة .

ألمهم في الحديث من وجهة نظري أمران :
ألأول هو تسييس قضية " رفكو" ، والأمر يتطابق كليا مع إمكانية تسييس تقرير " ميليس " .
تسييسها يعني إستغلال الحدث من قبل المستفيدين من الحدث وهذا أمر طبيعي كما أسلفت . إستغلاله لتحقيق مكاسب خاصة ، واستعماله كمادة لدعاية خاصة .
ألثاني هو المخادعة في التسييس ، والأمر هنا ايضا يتطابق كليا مع إمكانية المخادعة في تسييس تقرير " ميليس " .
المخادعة بمعنى تضخيم الناحية في الحدث التي يلحق منها ضررا للخصم ، وتحجيم الناحية التي يمكن ان يلحق منها ضررا لصاحب الدعاية - أي للمخادع ذاته - ، او حتى إخفاؤها كليا . هذا ما جعلني أجيب الرجل بلهجة لا تخلو من السخرية :" تقصد سيكون من السهل علينا خداعه *** ."
ألإستغلال في الحالتين - حالة " ميليس " وحالة " رفكو " - لم يفاجئني ، لم يثر استغرابي ، هو بنظري طبيعي ومن مسلمات الامور .
هناك دوما من يبحث بين الجثث ، في ساحة المعركة ، عن غنيمة ما . هذا الفريق يعتبر نفسه الرابح الاكبر في المعركة ، ان هو عثر على شيء ما ، ولو كان تافها ، مثل ضرس مطلية بالذهب بين فكين مهشمين .

نأتي الى وجه آخر من الموضوع .
من الطبيعي ان يصاب عملاء شركة "رفكو" بالذعر عندما يسمعون أن شركتهم تتعرض لهذه الهزة . الخوف هو أمر طبيعي لا يمكن تخطيه في مثل هذه الحالات . المودع له الحق بأن يقلق لكن التطمينات والتأكيدات هي جدية ، عملاء " رفكو " سيستردون أموالهم قريبا . الذي لا يمكن تطمينه هو حامل أسهم شركة " رفكو " وليس المتعامل معها . حامل أسهمها لا بد أن يتحمل الخسارة .

والى محاولة تشريح منطقي للأمر .

من الطبيعي ان يتساءل كل متعامل بهذه المناسبة عما إذا كانت الشركة التي يتعامل معها تتمتع بحصانة . السؤال مشروع والجواب هو طبعا معروف : كل شركة وكل مؤسسة وكل بنك ، مهما كبر أو صغر هو عرضة لخضة من هذا النوع . إن امكانية سقوط شركة كبيرة في فخ كهذا تقل نسبتها كثيرا عن نسبة سقوط الشركات الصغيرة . هناك كل يوم أكثر من حالة تأسيس لشركات مبتدئة ، وحالات إختفاء لشركات صغيرة ، كانت موجودة بالامس في السوق ، الخبر لا يصل الى أسماعنا ، هو خبر عادي .
إذا ما هو متداول بين العامة صحيح :
إن إحتمال سقوط الشركات أو البنوك الكبيرة هو أقل بكثير من إحتمال سقوط الشركات أو البنوك الصغيرة . ألأسباب التي تؤدي الى سقوطها أقل بكثير من الأسباب التي قد تؤدي الى سقوط الشركات أو البنوك الصغيرة . هذه الأسباب تكاد تنحصر بالإختلاس فقط .
ألآن تعرضت شركة " رفكو " لخضة لم تعد تفاصيلها خافية على أحد . ليس هذا المهم . ألمهم هو التالي :
بحسب قانون الحتمية لا يمكن ان تكون هذه الخضة هي الأخيرة في سلسلة الفضائح أو الخضات التي تتعرض لها كبار الشركات . إذا لا بد أن تحصل مستقبلا حالة مشابهة ، لأن هناك مختلس جديد - بعد " ديك تشيني " في قضية " اينرون " قبل سنتين ، وبعد " فيليب بينيت " في قضية " رفكو " اليوم - سيبرز على الساحة وسيكون سببا بخضة لشركة ما .
بحسب قاون الحتمية هناك خضة جديدة بعد سنة او بعد سنتين ربما . لكن ، بحسب قانون النسبية يُستبعد التالي بنسبة عالية :
يُستبعد أن تكون الخضة التالية قريبة من الحالية من حيث الزمن ، فلا بد من وقت يفصل الخضتين عن بعضهما .
يُستبعد ان تكون الخضة التالية في شركة او في بنك اميركي . في أوروبا وفي آسيا ايضا نسبة عالية من المختلسين .
يُستبعد أن تكون الخضة التالية في مؤسسة مالية ، فالمؤسسات التجارية والصناعية لها ايضا حصتها من المختلسين .
هذا ما يفرضه قانون النسبية . وهذا يمكن ان يريح أعصاب المتعاملين في سوق المال .

ناتي الى FXCM :

لنجري عملية تشريح للأمر بهدوء وقلة انفعال .

أنا أعرف ، ومنذ فترة طويلة ، أن شركة رفكو تمتلك نسبة ضئيلة من شركة FXCM . لم اهتم للأمر في الماضي ، لا زلت لا أهتم له كثيرا اليوم . هذا ليس مدعاة اضطراب وهستيريا لي . إن كنت اعرف أن عملاء " رفكو" صاحبة العلاقة المباشرة سيستردون أموالهم في غضون أيام ، فهل اقلق على عملاء غيرها من الشركات ؟
لم أهتم في الماضي بمعرفة النسبة التي تمتلكها " رفكو " . سمعت عَرَضا بأنها 20% . في هذه الأيام ترامى الى مسامعي أن كتاب المنتديات رفعوا النسبة الى 35% . لا اعرف مقدار الصحة بهذه الأخبار وهي لا تهمني كثيرا . أعتقد انه موسم أخبار .
لم أهتم لهذه الأمور لماذا ؟
منذ اليوم الأول للحدث عمدت الى تحليل الوضع ، وصلت خلال دقائق الى النتيجة المنطقية : لا بد ان تسترد Fxcm الحصة التي امتلكتها " رفكو " فيها . لم أعمد الى نصح FXCM بهذا الحل . لم أعمد الى سؤالهم عما ان كان قد خطر ببالهم . أنا اعرف مستوى ذكاء الإدارة . ليسوا بحاجة لتنبيه على ضرورة هذه الخطوة . هذا منطق الأمور . لماذا نشغل انفسنا في مضغ ما لا طائلة منه . أرضاني هذا التحليل . إنصرفت عن التفكير بالأمر .
بالأمس وفي آخر بيان صدر عن FXCM قرأت التالي : " الشركة هي في حالة تفاوض متقدمة لشراء حصة " رفكو " المتواضعة فيها . لم أسارع لتهنئة الشركة على هذه الخطوة . إكتفيت بتهنئة نفسي لكوني قد قرأت المستقبل بشكل صحيح .

ولكن ان لم توفق FXCM بشراء هذه الحصة ؟
هذا لا يعني شيئا . طبعا ان شركة أخرى ستشتريها . يعني مالك آخر غير " رفكو " سيمتلك حصتها . لم يتغير شيء .
FXCM غير معنية بخضة " رفكو " . لا داعي للقلق . لا داعي للتساؤل .
دعوتي للأخوة المتعاملين هي التالية : ركزوا على التعامل الصحيح ، إحرصوا على الإبتعاد عن المغامرات في التعامل . إن لم تخسروا أموالكم في مثل هذه المغامرات المجنونة ، فإن دولارا واحدا لن يضيع عليكم في شركة FXCM .
الشركة بألف خير . هي مراقبة من أكثر من منظمة . ركزوا على عملكم . هذا بيت القصيد .