الاقتصادية - تعرض شكل التراجع الاقتصادي العالمي على مدى أسابيع قليلة إلى تغير سريع. وقلبت البيانات الجديدة الحكمة التقليدية رأساً على عقب، الأمر الذي يثير مخاوف من تراجع متزامن لا تكون فيه الولايات المتحدة، التي يستمر تعرضها للمخاطر، هي العامل المحدد، بل إنها يمكن أن تؤدي بصورة أفضل من بعض نظيراتها.

كان هذا هو واقع الأمر خلال الربع الثاني حين نما الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بصورة أسرع بكثير من نموه في أي من البلدان الصناعية الكبرى، حيث زاد بنسبة 0.8 في المائة في الربع الثاني(أي بمعدل 3,3 في المائة سنوياً). وعانت منطقة اليورو، واليابان، خلال الفترة ذاتها، على التوالي من تراجع بنسبة 0.2 في المائة، و 0.6 في المائة، بينما سجلت كندا نمواً بنسبة 0.1 في المائة فقط، واستقر النمو في المملكة المتحدة على ما هو عليه.

حلت المملكة المتحدة محل الولايات المتحدة في موقع الدولة الأكثر تعرضاً لخطر تراجع حاد، كما أنه لم يتم الجزم بما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تعاني كسادا على الإطلاق. ويتوقع الاقتصاديون في بنك جي بي مورجان، على سبيل المثال، أن الولايات المتحدة لن تشهد ربعين متتالين من التراجع الاقتصادي، وهو الأمر الذي يمثل أداة قياس الركود، بينما يتوقع أن تشهد كل من المملكة المتحدة، ومنطقة اليورو، واليابان، ربعين متتاليين من التراجع.

إن جانباً كبيراً من تفسير ذلك يعود إلى التجارة ، حيث أدى التراجع الضخم في قيمة الدولار خلال السنوات الأخيرة إلى تشكيل حاجز حماية أمام التباطؤ الاقتصادي الأمريكي، وعمل على تصدير الضعف الأمريكي إلى الخارج. وشكل ارتفاع الصادرات، وهبوط الواردات، 0.7 من أصل 0.8 في المائة من نمو الاقتصاد الأمريكي في الفترة من شهر نيسان (أبريل)- حزيران (يونيو)، بينما هبطت مساهمة التجارة في عدد كبير من الاقتصادات الأخرى.

غير أن الاقتصادات الصناعية غير الأمريكية كانت في كل حالة تقريباً أضعف مما توقعته سلطاتها، ولم يقتصر الضعف على التجارة. وبينما كان معظم هذا الضعف على الجبهة التجارية، فإن الاستهلاك والاستثمار في تلك الاقتصادات كانا على وجه العموم أضعف من التوقعات بكثير. وأثناء ذلك، كانت هنالك أيضاً إشارات إلى أن النمو تباطأ في بعض الاقتصادات الناشئة الكبرى، على الرغم من أنه مازال في مستويات ديناميكية.

يشير التراجع خلال الفترة الأخيرة في أسواق السلع العالمية إلى مخاوف متزايدة من أن الضعف الاقتصادي يمكن أن يستمر في انتشاره في الأشهر المقبلة. وتحول عدد كبير من المستثمرين عن الاعتقاد بقصة "فك ارتباط العملات" إلى رؤية تراجع عالمي متزامن، الأمر الذي يشجع ارتداداً قوياً للدولار.

يرسم البعض أوجه تشابه مع عام 2001، حين سقطت الولايات المتحدة في فترة من الركود بعد انفجار فقاعة الدوت كوم. وجادل الخبراء خارج الولايات المتحدة في ذلك الحين لفترة ما بأنه ليس هنالك سبب يجعل الاقتصادات الأخرى تضعف. غير أن معظم العالم الصناعي سرعان ما تبع الولايات المتحدة في الدخول إلى المنطقة السلبية.

لا تتشابه أي دورتين اقتصاديتين، ويمكن أن تكون فرضية "فك ارتباط العملات بالدولار" ساذجة، كما أن فكرة تراجع اقتصادي عالمي متزامن يمكن أن تكون كذلك ضرباً من التبسيط. ويقول جورج المسكوف، من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في باريس، إن اقتصادات العالم تصارع قائمة من الهزات المتزامنة القاسية التي تختلف في حجمها وسعتها.

كانت هنالك صدمة سلع أصابت كل الاقتصادات بصورة متساوية إلى حد ما من خلال ارتفاعات حادة في أسعار الغذاء والطاقة التي سبقت التراجع الجزئي الأخير. كما كانت هنالك صدمة ائتمانية ذات مدى عالمي، وإن كان تأثيرها غير متساوٍ، حيث كانت أعظم آثارها في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأقلها في اليابان، والعالم الناشئ (كانت منطقة اليورو في مكان ما بالقرب من وسط ذلك ). وكانت هنالك صدمة إسكان، حيث انهارت أسعار المنازل في عدد من الاقتصادات، بما فيها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وإسبانيا، وإيرلندا.

رافق كل لك انتشارات اقتصادية ناجمة عن أحداث في كل الاقتصادات. وكان الأثر أشبه بأن نشاهد إلقاء عدد من الصخور الكبيرة في غدير من الماء معاً، حيث ترسل كل منها دوائر تصطدم ببعضها البعض.

الميل الظاهر في الولايات المتحدة هو تأكيد أن الشحة الائتمانية لا تقتصر على الداخل، بل على النطاق العالمي أيضاً، وذلك في تفسير مجرى الأحداث. وأما في الدول الصناعية الأخرى، فإن الخبراء يعيدون التباطؤ الاقتصادي العالمي خلال الربع الثاني لما شهدته تلك الفترة من ارتفاع حاد في أسعار النفط، كما أنه ازداد خطورة بسبب تأرجح التجارة.

يعتقد البعض أن خبرة الولايات المتحدة تفيد بأن الاقتصاد العالمي ، باستثناء العقار، يمكن ألا يكون معرضاً فقط للاضطرابات المالية. ويقول سايمون جونسون، الأستاذ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، والذي كان حتى فترة قريبة أحد كبار الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي: "يمكن أن تكون الصدمة الائتمانية أقل أهمية، بينما صدمة الأسعار أكثر أهمية بالنسبة للاقتصاد العالمي مما كنا نعتقد".

غير أنه يضيف أنه مازال من المحتمل أن تكون هذه هي "لحظة عدّاء الطريق"، حين نجا الاقتصاد الأمريكي من حافة الصخرة، واستطاع أن يواصل مسيرته لفترة قصيرة، حيث ينظر الآن إلى الأسفل ويهبط عمودياً. وبينما لا يصل الاحتياطي الفيدرالي إلى هذا الحد، فإنه يعتقد أن التوتر المالي سوف يكون له أثر كبير في النمو خلال الأشهر المقبلة.

لا يتفق صانعو السياسة على جانبي الأطلسي على درجة ومدى أزمة الشحة الائتمانية العالمية. ومن الواضح أن هنالك إعادة تسعير عالمية للمخاطر. غير أن كثيراً من صانعي السياسة غير الأمريكيين يرون في إعادة التسعير هذه تطوراً سليماً لا يوجب أن يثبط النمو بصورة كبيرة. ويضع البنك المركزي الأوروبي، على سبيل المثال، الكثير من الثقل على حقيقة أن كميات قروض منطقة اليورو مستمرة في النمو، على الرغم من أن الدراسات الميدانية تفيد بأن البنوك في هذه الكتلة التي تضم 15 دولة، تشدد معايير الائتمان بالدرجة ذاتها التي تتصرف بها نظيراتها في الولايات المتحدة. غير أنه حتى البنك المركزي الأوروبي، أصبح خلال الفترة الأخيرة يتحدث عن تراجع في النمو الاقتصادي لمنطقة اليورو.

تبدو الشحة الائتمانية أقوى وأشد أثراً حين يرافقها هبوط في أسعار المنازل، وميزانيات أُسَر ٍ مستنزفة، كما هي عليه الحال في الولايات المتحدة، (وببعض الاختلاف) في المملكة المتحدة. غير أن هبوط أسعار المنازل يمكن أن يصبح مشكلة أوسع نطاقاً. وشهدت السنوات الأولى من القرن الحالي انتعاشاً في أسعار المنازل في عشرات من الدول. وحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن المكاسب الحقيقية لأسعار المنازل "تتهاوى في كل مكان تقريباً".

هنالك فرصة ما بأن ينتشر هبوط أسعار المنازل من إسبانيا وإيرلندا، إلى فرنسا. كذلك يمكن أن تشهد الهند ذات شركات التمويل العقاري واسعة الانتشار، تراجعاً في أسعار منازل المدن، بينما يبدي مسؤول ياباني رفيع المستوى، على الأقل، مخاوفه كذلك من تراجع سوق العقارات في الصين.

تراجع أسعار المنازل يجعل الأداء الاقتصادي الأمريكي أكثر بعثاً على المفاجأة. ويقول ماركو أنيونزياتا ، كبير الاقتصاديين في بنك يونيكريديت "إن صانعي السياسة الأوروبيين ينظرون إلى الولايات المتحدة بذهول، حيث يعتقدون أن من المفترض أن يكون أداؤها الاقتصادي أسوأ. وأما ستانلي فيش، محافظ بنك إسرائيل المركزي، فيقول إن الاستجابة الأمريكية شديدة الاندفاع على مستوى السياسة النقدية، حيث خفضت معدل أسعار الفائدة بـ 325 نقطة أساس، وكذلك التحفيز المالي بمبلغ 110 مليارات دولار، يساعدان على تفسير عدم مواجهة أمريكا، لغاية الآن، لمصير أسوأ.

معظم ذلك يرتكز على أساسيات الاقتصاد الجزئي للاقتصادات العالمية الكبرى، حيث إن مرونة سوق العمل الأمريكية، منحت رئيس الاحتياطي الفيدرالي، بن برنانكي، حرية أعظم لتخفيض معدل أسعار الفائدة من خلال تخفيف مخاطر أن يحرك التضخم الحالي زناد صعود جماعة الضغط في الأجور. ويعتقد البنك المركزي الأوروبي أن المملكة المتحدة في الوقت الراهن أشبه بالولايات المتحدة منها بمنطقة اليورو، ولكنه ليس متأكداً من ذلك.

تعكس قوة أمريكا جزئياً، الحجم الهائل، وتنوع اقتصادها، والمكاسب التي تحققها على صعيد الإنتاجية. وارتفعت الصادرات الصناعية بسرعة أعلى مما كان متوقعاً. هذا النشاط الحيوي هو الأمر الأشد مفاجأة في ظل كون الولايات المتحدة أقل كفاءة في استهلالك الطاقة، كما أنها أشد عرضة لتأرجح أسعار الطاقة من غيرها من الاقتصادات الرائدة لمجموعة الدول السبع الصناعية الرئيسة.

يقول جونسون: "هنالك مرونة لدى الولايات المتحدة قللّ كثير من الناس من شانها، وإن ما سنكتشفه هو مدى مرونة أو هشاشة نمو منطقة اليورو".

تراجعت ثقة المستهلكين، وثقة الشركات بحدة في الاقتصادات الصناعية غير الأمريكية. وذلك أمر سيء للاستهلاك والاستثمار، ويفيد بأن الثقة يمكن أن تكون قناة مهمة بحد ذاتها، الأمر الذي يبث الضعف الذي نشأ في الولايات المتحدة. غير أن من الممكن أن السبب الرئيس للثقة الضعيفة كان هو التصاعد الشديد في أسعار السلع.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يفترض أن تتعافى الثقة، وتتراجع أسعار السلع. وسيكون الاختبار هو ما إذا كان الاستهلاك في منطقة اليورو، واليابان، سيرتفع استجابة لتراجع أسعار النفط، وما إذا كان المستهلكون في المملكة المتحدة سيواصلون الإنفاق بينما تهبط أسعار المنازل.

إذا كان التباطؤ خارج الولايات المتحدة شأناً يتعلق بأسعار السلع، وليس بشحة ائتمانية عالمية، فإن من المفترض أن ينهض الاقتصاد العالمي مرة أخرى بعد فترة ضعف في منتصف السنة. ومن الممكن أن يتراجع نمو الولايات المتحدة مرة أخرى مع نهاية العام مقارنة بقريناتها، ولكنه سيستمر في تلقي الدعم من جانب الصادرات.

لكن إذا كان الشح الائتماني هو المفتاح، فإن الضعف يمكن أن ينتشر مع قيام البنوك العالمية بتقليل الإقراض. إن اقتصادات البلدان الصناعية باستثناء الولايات المتحدة قد تكون على أية حال ما زالت غير قادرة على تحقيق نمو مستدام من تلقاء نفسها. وفي الواقع، وحتى لو كانت قصة السلع صحيحة، فإن هناك مخاطر أمامها. ذلك أن السوق النفطية بشكل خاص ما زال العرض فيها أقل من الطلب ويمكن أن تنهض من هذا الوضع إذا هدأت المخاوف بشأن النمو العالمي. ويمكن لبنك الاحتياطي الفدرالي أو البنك المركزي الأوروبي أن يرتكب خطأ فيما يتعلق بالسياسة.

علاوة على ذلك، فإن الكثير يعتمد على أداء الاقتصادات الناشئة الكبيرة وعلى رأسها الصين. ويقول أندي روثمان، الذي يعمل في دار CLSA للوساطة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إن إسقاطات الصدمات العالمية قد تقلل نمو الاقتصاد الصيني بنقطة أو نقطتين عن مستواه الحالي الذي يقارب 12 في المائة. وقد تتراجع الهند أيضا من 9 إلى 7 في المائة.

يقول روثمان إن الصين لديها مجال كبير لزيادة الطلب المحلي لتعويض ضعف الصادرات. ولكن ما زال بعض الخبراء يشكون في قدرة الاقتصادات الناشئة على استبدال الطلب المحلي بالصادرات.

يقول صانع سياسة أسبق: "إننا لا نعلم كم سيكون سهلاً عليهم إنجاز ذلك." إنه قلق من أن الصين ونظراءها إما أن تتباطأ بشكل أكثر حدة عما كان متوقعاً أو تعاود التسارع بسرعة أكبر مما ينبغي، الأمر الذي يشعل فتيل التضخم داخل بلدانها وفي أسعار السلع، قبل أن تضطر إلى الضغط على الفرامل مرة أخرى، الأمر الذي يحتمل أن يكون له تداعيات عالمية.