الاقتصادية - يس من المبكر جداً تقييم أول الدروس الجيوسياسية المترتبة عن الاضطراب المالي الحالي. فبينما تتكشف الأزمة، تنبثق الاتجاهات. إن اقتراب الرأسمالية من الانهيار يؤكد، ويؤجج، ثورة قائمة فعلا في السياسات الدولية. فمن هم الخاسرون ومن على الأرجح سيكون الفائزون، أي أولئك الذين ستكون خسارتهم أقل ما يمكن في الفوضى الحالية العارمة؟ في لغة وول ستريت، الرأسمالية الغربية الحرة في انهيار، ومبدأ التدخل الحكومي في ارتقاء. إضافة إلى ذلك، الديمقراطية نفسها ستسقط في حالة من تشوه السمعة إذا لم يتم إيجاد حلول للأزمة.

أولاً، تعزز الصدمة التراجع النسبي للولايات المتحدة الأمريكية، والمرور من عالم أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب. وبغض النظر عمن سيكون رئيس أمريكا المقبل، لن يكون عليها أن تواجه المزيد من التحديات المتنوعة والمعقدة فحسب، بل ستكون لديها وسائل أقل لمواجهة تلك التحديات. وأدى التفاعل بين الجشع المعدي للطبقة المالية، وتقصير ساستهم في أداء واجباتهم، إلى سلب البلاد خصوبتها. ويبدو أن شعلة التاريخ تمر من الغرب إلى الشرق. صحيح أن الصين والهند متأثرتان كذلك بالاضطراب المالي، وأقل منهما اليابان، فهي دولة يُعد تحفظها المالي نتاج تجربة مريرة قبل 20 عاماً. لكن بإعادة صياغة ما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران: النمو في الشرق والديون في الغرب. والأكثر من ذلك، الخوف في الغرب والأمل في الشرق، لذا نحن مهيأون بطرق مختلفة لمواجهة الأزمة.

كشف الانهيار أزمة هوية عميقة، ليس في أمريكا فقط، ولكن كذلك في أوروبا. وربما كان التأميم الرد الأمريكي الأولي على الأزمة. لكن التأميم هو العقبة الأساسية التي تواجه أوروبا. إن إغراء فكرة "كلٌ له حق الحصول على أفضلياته الشخصية" قائم في أوروبا في الأوقات الجيدة، لكنه أصبح أمراً تصعب مقاومته في الأوقات السيئة. وربما كان نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي للاتحاد الأوروبي، يقود قتالاً شجاعاً وأنيقاً للخروج بـ "حل أوروبي"، لكن نشاطه غير كافٍ لإخفاء انقسامات عميقة بين الدول الأعضاء. ومرة أخرى، من المحتمل أن يتم تقليد الميدالية الذهبية في الإنانية للإيرلنديين، الذين أتبعوا نكرانهم للجميل المتمثل في توصيتهم بـ "لا" على معاهدة لشبونة، بازدراء تام للبحث عن حل جماعي للأزمة المالية. إن الروح المعنوية الأوروبية متدنية و"الإرادة السياسية الأوروبية" في تراجع.

هزّت الأزمة المالية روسيا كذلك، وأظهرت الفجوة بين طموحها لاستعادة مكانة القوة العظمى التي كانت لديها خلال فترة الحرب الباردة، ووسائلها الحقيقية بوصفها دولة ترتكز ثروتها بصورة منفردة على الطاقة. وبالمقارنة، وبفضل تنوع الموارد، على الأرجح أن تخرج البرازيل من الفوضى الحالية أقوى من السابق. ورغم أن الإمارات مصابة أيضاً، إلا أنها من المحتمل أن تنخرط في فورة شرائية لجواهر الرأسمالية الغربية بخسة الثمن. وعلى صعيد القارة الإفريقية، فإن الدول الغنية بالطاقة فقط يمكن أن تخرج غير متأثرة نسبياً، بينما تواجه باقي الدول خطر انهيار أكبر. فحين يصبح الثري أقل ثراءً، يميل الفقير لأن يصبح أشد فقراً.

وبينما يذوي مبدأ الأسواق الحرة، الدور الحكومي في ازدهار. فعشية المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير في دافوس في كانون الثاني (يناير)، سأل رئيسه ومؤسسه، كلاوس شواب: "ماذا يمكن أن يفعل قطاع الأعمال لإنقاذ العالم؟". وينعكس ذلك السؤال اليوم على الوجه الآتي: "ماذا يمكن أن تفعل الدوله لإنقاذ النشاط المالي؟". إن الأزمة الحالية تدور حول ما يشبه ذعر المصرفيين عام 1907 في أمريكا أكثر مما تشبه الكساد العظيم. ففي ذلك الوقت جاء بالحل جون بيربونت مورجان الذي أقنع مصرفيين آخرين بتوفير حاجز لإيقاف الأزمة. واليوم تُدعى الحكومات كي تكون المنقذ المُطلق من الأزمة.

وعلى أية حال، بينما يعبر مواطنو العالم الغربي عن حاجتهم للحماية الحكومية، تساورهم أيضا شكوك متزايدة تجاه السياسة والساسة. ويتزايد خوفهم في الوقت الذي تتلاشي فيه الثقة. وإذا كان التدخل الحكومي غير ناجح، فإن التعليقات التي صدرت عن العديد من الزعماء الأفارقة ـ مقارنين استقرار الأنظمة الشمولية بالظروف الفوضوية للأنظمة الديمقراطية ـ ستبرز في كثير من البلدان الغربية. لقد أدت أزمة سوق الأسهم عام 1929 إلى الحرب العالمية الثانية. وإذا فشلنا في حل الأزمة المالية لعام 2008، فستعمل على تعجيل الانحدار المقارن للغرب كقوة اليوم، وأنموذجا يُحتذى به لباقي العالم غداً.