الاقتصادية - إنقاذ البنوك وسيلة إلى غاية، وليس غاية في نفسه.

جاء جوردون براون لينقذ الرأسمالية لا ليدفنها. دفع 37 مليار جنيه استرليني ثمناً لتأميم جزئي لبعض المؤسسات الكبرى التي يقوم عليها الاقتصاد ربما لا يكون الفكرة التي لدى كثير من الناس عما تفعله الحكومات المؤيدة لحرية السوق، لكن رئيس وزراء المملكة المتحدة اتخذ خطوات جريئة لإنقاذ النظام المالي ومعه الاقتصاد الحقيقي. الأنموذج الذي وضعه لإنقاذ البنوك أنموذج جيد ويجري تقليده في أوروبا والولايات المتحدة.

إن الإجراءات التي اتخذها براون ـ لإعادة رسملة البنوك، وضمان القروض التي تقدمها البنوك إلى بعضها بعضا ولتوسعة تأمين السيولة ـ نظامية وشاملة. ويدل حجم الرد على عمق هذه الأزمة المالية التي يعتبرها البعض أسوأ أزمة في القرن الماضي، لكن إذا أوفت الحكومات الأخرى بالتزاماتها، فقد تنجح الخطة.

فبالإصرار على معدلات رأسمالية عالية، توجِد الخطة البريطانية بنوكاً محصنة تستطيع الصمود في وجه الصدمات الأخرى وتحوز ثقة أكبر. وبسبب عدم اطمئنانها لسلامة أوضاع البنوك الأخرى، لم تعد البنوك في الوقت الراهن تقرض بعضها بعضا. ومن خلال حافز ضمان القروض التي تقدمها البنوك إلى بعضها بعضا، يجب أن تعكس الإشارات الأولى أن الخطة تصيب نجاحاً في أسواق المال عندما تبدأ البنوك استئناف إقراضها البيني.

والمؤشر الثاني الذي ينبغي ملاحظته هو توافر الائتمان للاقتصاد الأوسع. ويجدر بنا أن نتذكر أنه يجري إنقاذ البنوك، لكن عمليات الإنقاذ لم تشمل مصانع الشركات المتعثرة، لأن الأزمات المالية جميعها تصبح بسهولة أزمات للاقتصاد الحقيقي. إن فشل البنوك الذي أعقب الانهيار المالي العظيم عام 1929 هو الذي حول الركود الكبير إلى كساد عظيم.

إن قطاعاً مالياً لا يتفاعل مع الاقتصاد الحقيقي هو قطاع لا يستحق الإنقاذ. ولذلك، اتخاذ إجراءات تضمن استمرار البنوك في تقديم القروض إلى الشركات الصغيرة وإلى الذين يرغبون في شراء المساكن، يعتبر أمراً حصيفاً. وينبغي حث البنوك على عدم تقليص تعرضها للشركات الصغيرة ولأصحاب البيوت إلى أقل من مستويات عام 2007 ـ رغم أن الحاجة ربما تستدعي تعديل ذلك إذا ما حدث انكماش اقتصادي خطير. وفي كلتا الحالتين، لا ينبغي تقديم القروض بالشروط المتساهلة السابقة نفسها. ذلك أن المقياس النهائي لنجاح حزمة الإنقاذ هو ما إذا كان الركود المقبل سيكون قصيراً وضحلاً، أو طويلاً وعميقاً.

عليه، هل تعني عملية الإنقاذ هذه نهاية الرأسمالية الخاصة؟ بالطبع لا. ورغم أن حجم الأزمة يتطلب رداً استثنائياً، فلا تعدو هذه الأزمة كونها الأخيرة في سلسلة الأزمات المصرفية الطويلة وعمليات الإنقاذ التي تقوم بها الدولة. ويبدو مرجحا جدا أن تكون البنوك المملوكة للدول حقيقة واقعة في العديد من البلدان لنحو عشر سنوات مقبلة. وفي الأزمة المالية الكبيرة التالية ـ اطمئنوا ستكون هناك أزمات أخرى ـ ربما تكون عمليات إنقاذ البنوك بشراء حصص فيها خطوة أولى وليست إجراء أخيراً. لكن سيتم في النهاية بيع هذه الحصص إلى مستثمرين من القطاع الخاص. وستقوم الحكومات، وهي على حق في ذلك، بإصدار ضوابط لتجنب وقوع أزمات أخرى. ستمنى بالفشل، وبعدئذ ستضطر للتصرف من أجل لملمة الأمور. ولا يوجد أي بديل آخر.

إن الرأسمالية الحديثة بحاجة إلى بنوك تعمل بشكل جيد. وتحتاج الشركات والأفراد إلى سيولة وإلى وسائل فاعلة لتحويل مدخراتهم إلى استثمارات منتجة. لكن البنوك تفعل ذلك عبر المراهنة على المستقبل. هذا هو الغرض الذي وجدت من أجله ـ لكنه يجعلها غير مستقرة. وهي تميل إلى مد نفسها أكثر من اللازم في الأوقات الجيدة، وتبالغ في الحذر في الأوقات السيئة، الأمر الذي يزيد من حدوث الطفرات والانفجارات.

إن السبب في إصرارنا على الاستمرار في بناء أنظمتنا الاقتصادية على خطوط الخطأ المهزوزة هو فاعليتها المعلومة في عمل الوساطة هذا ـ إلا حينما يسمح المصرفيون للجشع وعدم المبالاة بالتغلب عليهم. إن البنوك تدفع النمو وترفع المستويات المعيشية. أما النماذج الأخرى كالنظام المصرفي الأحادي على الأسلوب السوفياتي والرقابة العامة التي تمارسها الدولة على البنوك، فتضحي بالنمو في سبيل الاستقرار.

من الواضح أن الأنظمة والضوابط يجب تحسينها. ينبغي تشديد المتطلبات الرأسمالية خلال دورات الصعود لمنع البنوك من تخزين الطفرات. وهياكل مكافآت المصرفيين يجب ألا ترتبط بالمخاطر، بل بالأرباح التي تحققها الصفقات في نهاية المطاف، حتى لو استغرق تجسيدها سنوات. ولا ينبغي تمكين أحد من بيع قرض رهن عقاري، إذا لم يكن مهتما بما إذا كان صاحب البيت الجديد قادر عليه فعلياً.

لكن في المقابل، ينبغي إلغاء الضوابط المشوِّهة، كالحوافز غير السوية التي تؤدي إلى منح القروض السكنية إلى من لا يستطيعون سدادها، وإلى تفضيل الموجودات المورقة دون لزوم، وإخراجها من الميزانية العمومية.

لقد تصرف براون وفقاً لتعهداته. وهناك عدد متنام ممن يقلدونه حول العالم، لكن على هؤلاء أيضاً أن يتصرفوا بالسرعة الممكنة، وبشكل منسق لدعم قطاعاتهم المالية المتعثرة. إن هؤلاء الزعماء لا يُعملون سيوفهم بالرأسمالية لصالح حكم الدولة الأكثر رقة. إنهم يستخدمون الدولة لايقاع الهزيمة بأخطر أعداء السوق: الكساد واسع النطاق. وهم مصيبون في ذلك.