بن عبد الله المبارك - 09/08/1428هـ
هذا السؤال يدور في أروقة المنتديات المهنية والجامعات والمعاهد الدولية وكذلك في الكثير من البحوث العلمية التي صدرت ولا تزال منذ سنوات، وحتى هذه الساعة لا توجد إجابة شافية وافية، لأنه لا أحد يريد أن ينهار النظام العالمي المالي المعاصر! ولكن المتفق عليه وهو ما اعتقده وسأحاول إثباته أن السيطرة على النظام المصرفي العالمي والمالي عموماً أصبحت شبه مفقودة، ونحن في اتجاه إلى بلورة نظام مالي عالمي جديد وهو ما ستثبته الأيام والسنوات القليلة المقبلة.
الأزمة التي تعيشها الأسواق العالمية والبورصات الدولية ليست وليدة اليوم كما يعتقد البعض وليست بسبب فقط أزمة الائتمان قليلة الملاءة الخاصة بالرهونات العقارية في أمريكا والذي لو خسرت بنوكها كل القروض ذات الملاءة الائتمانية المتدنية فقد تصل في مجملها إلى حدود 100 مليار ريال وهي نسبة لا تزيد على 10 في المائة من حجم القروض الأمريكية الموجهة للأفراد (بلد استهلاكي بامتياز حيث نسب الادخار صفر)، وعليه فهي جزء بسيط من المشكلة ولكنها ليست المشكلة كلها. ما نشاهده الآن هو فقط أعراض المشكلة الحقيقية في النظام المالي العالمي وليس المرض ذاته. المرض الحقيقي تكلم عنه العديد من المهنيين وتعقيدات هذا النظام الحالي بدأت منذ رفع الغطاء الذهبي عن الدولار في عام 1971م، حيث أصبحت العملات تقاس قوتها افتراضا بقوة الاقتصاد (عنصر الإنتاج) وبالذات الاقتصاد الأمريكي بالنسبة للدولار وليس بالذهب كنظام للصرف العالمي. وهو الزمن الذي دخل فيه العنصر السياسي بقوة لأول مرة في النظام النقدي وطريقة إصدار النقد وحتى تحديد قيمة العملات وأهلية الدول لذلك. وقد ربطت كثير من دول العالم عملتها بالدولار الأمريكي، حتى أن الكثيرين يعتقدون أن أحد أسباب الحرب الأمريكية ضد العراق في عام 2003م كان قرار العراق في عام 1999م بيع إنتاجه من النفط باليورو بدلا من الدولار كأول دولة نفطية في العالم تقوم بهذا الفعل، والمشكلة الحالية تحدثت عنها تقارير دولية منذ أكثر من عام وعن احتمالية حدوثها في أي وقت.
الحقيقة الواضحة الآن أن أحد أهم مكاسب أمريكا الحالية الباقية هو استمرار "أوبك" في بيع منتجاتها النفطية بالدولار الأمريكي وهو ما يجعل العديد من الدول (بما في ذلك أوروبا والصين) تتمسك بالدولار كعملة ذات أهمية استراتيجية لهم على الأقل في الزمن المنظور وهو النفوذ الكبير الذي تحققه أمريكا في الأسواق العالمية، ولولا ذلك فلربما أصبح الدولار أضعف مما هو عليه الآن بنحو 20 في المائة (خسر خلال الأعوام الثلاثة الماضية أكثر من 30 في المائة من قيمته الشرائية)، وهو ما يعني أن إجمالي الخسارة في قيمة الدولار منذ بدْء موجة التراجع أكثر من 50 في المائة لو استغنت "أوبك" عن التسعير بالدولار.
النظام العالمي المالي الحالي لا يعكس حقيقة الاقتصاديات (الإنتاج) وإنما يمثل تعاملات مالية ورقية بل إلكترونية إذا ما أردنا الدقة، والأرقام التي نقرأ عنها يومياً ما هي إلا تعاملات مضاربية في كل المجالات من أسعار النفط والعملات والأوراق المالية والائتمان وحتى اللحم الأبيض. ولماذا نذهب بعيدا، ألم تبلغ قيمة سوقنا المالية (الأسهم السعودية) أكثر من ثلاثة تريليونات ريال وطبل من طبل لهذا الإنجاز، إما عن جهل أو لأن ذلك يخدم مصالح وأهدافا شخصية للبعض! ونحن الآن ندفع الثمن بعد أن تبخرت تلك التريليونات خلال أسابيع قليلة! رغم أن الناتج المحلي لم يتجاوز في حينه عتبة التريليون ريال ورغم أن اقتصادنا يعيش أفضل حالاته، وهي أحد تناقضات النظام المالي الذي نعيشه! لقد وصلت الأمور إلى حد من التعقيد أن رُبطت أسواق العملات بأسواق الائتمان بتقييم الشركات (وما أدراك ما تقييم الشركات وكيف يتم) بالبورصات العابرة للقارات دون أن يكون لدى الجهات المشرفة عن تلك العمليات أدنى فكرة ما الذي يحدث، ولكنها تشعر به!! بل أن الشكوى بدأت تزداد من المراجعين القانونيين والمساهمين بسبب عدم قدرتهم على فهم كثير من الحلول التي تقدمها بعض الصناديق أو الأذرع الاستثمارية للمصارف والشركات العابرة للقارات وتأثيراتها المحاسبية، وشهدنا حالات الإفلاس التي ظهرت في أمريكا لأكبر شركة طاقة في العالم وكيف انهارت في يوم وليلة (إنرون) ومصارف أعلنت عدم قدرتها على تحمل المزيد من المخاطر بسبب عملية واحدة فقط من موظف واحد Special Market Position وسنشاهد المزيد عالمياً!
لقد تجاوزت الأرقام التي تديرها صناديق التحوط على سبيل المثال لا الحصر تريليونا ونصف التريليون دولار مع العلم أنها غير خاضعة لأي نظام إشرافي دولي أو عالمي أو حتى نظام محاسبي نستطيع من خلاله قراءة نتائج تلك الصناديق وما الذي تفعله وكيف تفعله. أيضا هل تعلمون أن عمليات الاقتراض تتم الآن بحيث يمكن تحويل القروض (وهي الالتزام) بخطوة مالية واحدة وكأنها استثمار (أصل) مما يقلل من متطلبات حسابات المخاطر التي تفرضها الأنظمة المحاسبية والجهات الإشرافية والرقابية! هل تعلمون أنه يمكن لشركة قامت بتحويل مخاطر منتج معين عن طريق آليات التحوط - سواء تعلم أو لا تعلم إدارة تلك الشركة - بشراء المخاطر مرة أخرى! هل تعلمون أنه لا يوجد مدير مالي واحد في العالم قادر على فهم كل المنتجات المالية التي تنتجها السوق المالية العالمية كل يوم مهما تعددت خبراته العلمية والعملية! هل تعلمون أنه لا يوجد صناديق تحوط تشترك بالمخاطر نفسها نتيجة أن كل صندوق يدار بطريقة خاصة ومن قبل أشخاص أكثر ما يبنون عليه هو قدرتهم الرياضية البارعة في علم الرياضيات! هل تعلمون أن كثيرا من أدوات السياسات المالية والنقدية الحالية فقدت قدرتها على إحداث التغير المطلوب، ومع ذلك لا تزال بعض البنوك المركزية غير مقتنعة، ولا تعلم ما هي الحلول!.. هل تريدون المزيد؟
سبب هذا الهذر هو ما تردد عن أكثر من مسؤول خليجي من نفي أن يكون هناك مخاطر على البنوك الخليجية أو النظام المصرفي الخليجي! نعم أنا أتفق معهم أنه لا يوجد خطر مباشر على البنوك الخليجية أو النظام المصرفي الخليجي فهو من الصغر والتحفظ بحيث لن يتأثر، نتيجة تأخر تلك المصارف والأنظمة عن تطوير منتجات مشابهة لما فعلته الدول والمصارف العالمية، ورب ضارة نافعة كما يقال. ولكن يوجد خطر غير مباشر لأن النظام المالي العالمي مهدد حقيقة في بنيته والفلسفة التي يقوم عليها وليس في جانب منه أو منتجات معنية قد تفشل فيه. وهذا ليس قولي ولا استنتاجات خاصة. هذا ما يتحدث عنه الكثيرون من المهتمين والمسؤولين العالميين، ودعونا لا نلتفت لما يقوله المسؤولون عن البنوك المركزية العالمية فهم في النهاية لا يملكون إلا أن يقولوا هذا الكلام الدبلوماسي حفاظا على ما تبقى أو ما يحاولون الإبقاء عليه، لذلك هم يضخون مئات المليارات من الدولارات لتدارك الأزمة (نصف تريليون دولار حتى الآن)، ولكنها في النهاية ربما لا تتعدى مسكنات فقط لمرض لا شفاء منه.
النظام العالمي وخلال الـ 50 سنة الماضية كان رهنا وتحت قيادة الولايات المتحدة، وقد مر الاقتصاد الأمريكي بمراحل حتى وصل إلى حد أن عطسة هذا النظام (الاقتصاد الأمريكي) تصيب العالم كله بالزكام، ولكن بقاء الحال من المحال، ومثلما كان لدينا المريض الإنجليزي والذي مات وشبع موتا، أصبح لدينا مريض جديد لا يعلم إلا الله موعد موته والدوام لله وحده. وفي كل الأحوال علينا دائما الاستعداد لإمكانية فقدانه وولادة مولود جديد لم يتحدد جنسه ولا لونه ولا دينه حتى الآن! ولكن الأكيد أنه لن يكون عربياً الأصل والفصل!!



صحيفة الاقتصادية الالكترونية - كُـتـّاب الاقتصادية