بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.


دلت البراهين المتنوعة من الفطرة السليمة والعقل الصريح والعلم الكوني الثابت، على وجود الله الخالق ذي الكمال، سبحانه وتعالى(1).


ومن صفات كماله عز وجل: حكمته البالغة، ورحمته الواسعة. وكلتاهما تقتضي إرسال المرسلين إلى عموم الناس، ليقوموا بواجب البلاغ، ويضطلعوا بأمانة البيان والإرشاد.


قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} (الأنعام:91). قال ابن كثير: " يقول تعالى: وما عظموا الله حق تعظيمه، إذ كذبوا رسله إليهم .. "(2).


وقال تعالى: {أمرًا من عندنا إنَّا كنَّا مُرسِلين * رَحمةً من ربِّك إنه هُو السمِيعُ العليم} (الدخان:5-6).


قال العلامة ابن رجب: "ولهذا نسب تعالى منكري إرسال الرسل وإنزال الكتب إِلَى القدح في كماله وعظمته وحكمته، وإلى الجهل به وبأسمائه وصفاته، وأنهم ما قدروه حق قدره"(3).


فإرسال الرسل من رحمة الله بعباده، وهو برهان عظمة الله وتمام حكمته.


فكيف يمكن بالنظر العقلي أن نستدل على هذا التلازم بين إرسال الرسل وكمال الخالق سبحانه؟


ضرورة التكليف
ولنبدأ أولا بتقرير أمر لا بد منه، وهو أن تكليف البشر واجب من حيث هو، أي بقطع النظر عن طريقه: أبإرسال الرسل أم بغير ذلك؟


وبيان هذا الوجوب: أننا لو قلنا بأن الخالق سبحانه لم يكلف أحدا من الخلق أصلا، لزمنا القول بأن الله تعالى يبيح القبائح والمنكرات جميعها! وهذا محال، إذ يلزم منه أن الخالق يبيح ما ثبت قبحه في صريح العقل عند جميع طوائف البشر، كالظلم والكذب ونحوهما.


وهذا ينافي ما ثبت من كمال حكمة الخالق ورحمته بعباده.


وقد يسأل سائل هنا فيقول:


ألا يمكن أن يكون تحريم هذه الأمور مما يعرفه البشر دون حاجة إلى تكليف من الله تعالى، وذلك لأن البشر قادرون على تمييز الخير من الشر، ويمكنهم أن يوجدوا منظومة قيم متكاملة غير مرتبطة بالدين، كما يدّعي ذلك جماعة من الملاحدة؟


وجواب هذا السؤال من وجهين:


أولهما: أن العقل البشري لا يستطيع معرفة كل قبح، وإنما غايته تمييز بعض القبائح، لكنه قاصر عن تصور المفاسد المركبة لأكثر القبائح الأخرى.


والجواب الثاني: أن البحث هنا هو في سؤال: هل الله تعالى يبيح هذه الأمور أو لا يبيحها؟ فإذا لم يكلّف الله البشرَ بترك القبيح، فمعنى ذلك – بعبارة أخرى - أنه يبيحه لهم. وهو أمر ممتنع.


ثم لو فرضنا عدم وجود التكليف، فإن مزية الإيمان والطاعة والخير لم تظهر. وذلك أنه لا معنى للذة الحاصلة بأنواع الخير المختلفة دون احتمال وجود أنواع الشر المقابلة لها!


فأي معنى للتقوى والورع والزهد، وأي مزية للأتقياء والزهاد والعباد إذا لم يوجد التكليف، وكان البشر جميعهم – كحال الملائكة - على مرتبة واحدة من عبادة الله تعالى؟


وما متعة العيش دون تمييز – في العمل والجزاء - بين أولياء الله وأعدائه، وبين أهل الطاعة وأهل المعصية؟


ولا ظهور للأشياء إلا بأضدادها، وحياة البشر دون هذه المتقابلات مخالفة للحكمة من خلقهم.


التكليف يقتضي الرسالة
بعد أن قررنا أن الله سبحانه لا يترك الخلق هملا دون تكليف، فإن السؤال الذي لا بد منه: فما الوسيلة التي بها يكون تكليفهم؟


ليس هنا سوى صورتين:


الصورة الأولى: أن يحادث الخالق كل إنسان، أو يلهمه أو يوحي إليه، دون حاجة إلى واسطة. وحينئذ فإن ابتلاء التكليف يرتفع، ويستوي الناس في الإيمان، إذ لا يمكن لمن يسمع خطاب الله مباشرة أن يشك فيه أو يتردد في قبوله.


والصورة الثانية: أن يجعل لهم براهين وحججا تعين على الإيمان. والحق أن هذه الحجج موجودة فعلا، ولكنها قاصرة عن إدراك تفاصيل التكليف، لأن العقل لا يمكنه أن يستقل بإدراك ما فيه نفعه ولا بإدراك حقيقة ما يرضي الله، وإنما غايته أن يعرف بعض القيم الإجمالية.


والصورة الثالثة – وهي متوسطة بين الصورتين السابقتين -: أن يرسل إليهم رسلا منهم، يكونون هم الواسطة بين الخالق والمخلوق.


وفي إرسال الرسل يجتمع أمران لا يجتمعان في غيره: إقامة الحجة مع بقاء فائدة التكليف!


ففي بعث الرسل تقوم على الناس الحجة البالغة، التي لا يعذب الله أحدا قبل إقامتها. وفي هذه الحجة من الوضوح والبيان والتفصيل ورد الشبه، ما يعين طالب الحق على معرفته وحسن الالتزام به. ولا يوجد مثل هذا مكتملا في شيء من الحجج الأخرى التي أقامها الله على عباده، كالفطرة والميثاق والعقل وتدبر الآيات الكونية.


ومع ما في الحجة الرسالية من الجلاء والظهور، فإنها لا تبلغ الغاية منها إلا بقلب متلهف إلى معرفة الحق، بعيد عن تأثير الهوى، مستعد لطرح الوساوس والشبهات. ولما كان الناس بطبعهم متفاوتين في هذه الخصال، فإن الابتلاء باتباع هذه الحجة قائم، وتفاوت الناس في الالتزام بها يبقي فائدة التكليف التي قررنا آنفا.


وقد يعرض لبعض الناس هنا شبهة، وهي أن يقول: إن المخلوقين غير مستحقين لأن يرسل إليهم الله الخالق سبحانه رسلا منه، كما أن عامة الناس في بلد ما ليسوا أهلا لأن يرسل إليهم سلطان ذلك البلد رسولا!


والجواب: أن هذا غير صحيح في الصورة المقيس عليها. فإن الملوك والأكابر يُمدحون بأنهم يخاطبون رعيتهم بأنفسهم، أو يجعلون بينهم رسلا ينقلون إليهم خطاباتهم، ويكون ذلك دليلا على شفقتهم ورحمتهم بالرعية، ولا ينقص من سلطتهم وهيبتهم شيئا!


والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، وقادر لا يعجزه شيء. فمع كمال قدرته وكمال رحمته فما الذي يمنع أن يرسل إلى الناس رسلا للبيان والإرشاد.


وقد ذكر الله تعالى أن الرسالة من رحمته، كما في قوله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107)، وامتن الله على عباده بما في الرسالة من التزكية والتعليم والهداية إلى ما فيه صلاحهم، فقال: {لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} (آل عمران:164).


فمن ينكر بعث الله الرسل إلى الناس، إما أن يكون سبب إنكاره زعمه أن الله لا يقدر على ذلك، فهذا قدح في كمال قدرته سبحانه؛ وإما أن يكون السبب أنه ينكر إحسانه تعالى بذلك، فهذا قدح في كمال رحمته.


ولا يناسب كمال قدرته ورحمته عز وجل، إلا القول بإرساله الرسل إلى الخلق هداية وبيانا.


والحمد لله رب العالمين.



هوامش المقال
1- كما بينت ذلك اختصارا في سلسلة مقالات سابقة عنوانها: ''أدلة وجود الله''.
2- تفسير ابن كثير: 3/300.
3- مجموع رسائل ابن رجب: 2/557.