الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
نحاول أن نتحدث عن قاعدة لعلها تجعل المؤمن يزداد يقيناً بعظمة هذا القرآن، وأنه الكتاب الوحيد الذي يصلح لكل زمان ومكان، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

وهذه القاعدة جاءت ضمن آية كريمة في سورة الإسراء، والتي يقول الله فيها: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9، 10].

قال قتادة رحمه الله ـ في بيان معنى هذه القاعدة ـ: "إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما دائكم فالذنوب والخطايا وأما دواؤكم فالاستغفار"(1).
وهذا التفسير من هذا الإمام الجليل إشارة واضحة إلى شموله إلى علاج جميع الأدواء، وأن فيه جميع الأدوية، لكن يبقى الشأن في الباحثين عن تلك الأدوية في هذا القرآن العظيم.

ومن أراد أن يقف ـ من الإخوة الكرام ـ على شيء من محاولات العلماء ـ رحمهم الله ـ في الوقوف على شيء من ذلك، فليقرأ ما كتبه العلامة الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية الكريمة، والقاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها، فإنه قد كتب - رحمه الله - نحواً من ستين صفحة وهو يتحدث عن نماذج عالجها القرآن، وهدى لأقوم الطرق في حلها.

يقول رحمه الله: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا ـ يهدي للتي هي أقوم. أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب،... وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق، وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة، ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدي القرآن للطريق التي هي أقوم بياناً لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة،... ثم سرد جملة من المسائل العقدية والاجتماعية"(2).








أيها القارئ المحب لكتاب ربه:
دعنا نستعرض ـ بإجمال شديد ـ شيئاً من أنواع هذه الهدايات التي دل هدى القرآن للطريق الأقوم فيها:
"إنه يهدي للتي هي في ضبط التوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله..
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض..

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.." (3)

أيها الإخوة الأكارم:
إذا تأملنا هذا الإطلاق في هذه القاعدة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أدركت أنها آية تتجاوز في هدايتها حدود الزمان والمكان.. وتتجاوز كل الأنظمة والقوانين التي كانت قائمة أو التي ستقوم بعد ذلك!

إنها قاعدة تقطع الطريق على جميع المنهزمين والمتخاذلين من أهل الإسلام أو المنتسبين له، أو من الزنادقة، الذين يظنون ـ لجهلهم ـ أن هذا القرآن إنما هو كتاب رقائق ومواعظ، ويعالج قضايا محدودة من الأحكام! أما القضايا الكبرى، كقضايا السياسة، والعلاقات الدولية، ونحوها، فإن القرآن ليس فيه ما يشفي في علاج هذه القضايا!!

وهذا الكلام فضلاً عن كونه خطيراً وقد يؤدي إلى الكفر، فإنه سوء أدب مع الله، ذلك أن ربنا ـ وهو العليم الخبير ـ يعلم حين أنزل القرآن أن العباد سيقبلون على متغيرات كثيرة، وانفتاح، وعلاقات، ومستجدات، فلم يتركهم هملاً، بل حفظ لهم هذا القرآن ليرجعوا إلى هداياته، وحفظ لهم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لتكون شارحةً لما أجمل من قواعد القرآن، بل وجعل في السنة أحكاماً مستقلة، فمن أراد الهداية وجدها فيهما، ومن كان في عينيه عشى، أو في قلبه عمى، فليتهم نفسه، ولا يرمين نصوص الوحي بالنقص والقصور:

قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ *** ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماء منْ سَقَم



أيها الإخوة الفضلاء:
وأختم ما أردتُ الإشارة إليه في الحديث عن هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} بهذه القصة التي وقفتُ عليها، وهي أنني أذكر أن أحد العلماء لما طُلِبَ منه أن يلقي محاضرة حول هداية هذه القاعدة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} قال في نفسه: وماذا سأقول عن هذه الآية في ساعة أو أكثر؟! فقررت أن أراجع كلام بعض المفسرين حولها، فبدأت بتفسير السعدي، فوجدته يقول: "يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: أعدل وأعلى من العقائد، والأعمال، والأخلاق"(4).

فقررت أن أبدأ بالحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم في أبواب العقائد، فانتهى وقت المحاضرة ولم أنته من الحديث عن هذه الجزئية فقط! فكيف بمن أراد الحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم في أبواب العبادات؟ والمعاملات؟ والأحوال الشخصية؟ والحدود؟ والأخلاق والسلوك؟ فعلمت أن من يريد الحديث عن هذه القاعدة، فسيحتاج إلى عشرات المحاضرات.



أيها الموقنون بهذا الكتاب العظيم:
هذا كتاب ربنا، يخبرنا فيه أنه يهدي للتي هي أقوم، فأين الباحثون عن هداياته؟ وأين الواردون حياضه؟ وأين الناهلون من معينه؟ وأين المهتدون بتوجيهاته؟.