الحمد لله، وصلّ الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة من حلقات هذه السلسلة القرآنية المباركة ـ إن شاء الله ـ: قواعد قرآنية؛ لنتذاكر شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، وثيقة الصلة بموضوع الأخلاق، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] (1).

وهذه القاعدة القرآنية المحكمة ـ في باب الأخلاق ـ لها صلة قوية بتربية القلب وتزكيته، كما أن لها صلةً بعلاقة الإنسان بغيره من الناس.
وهذه القاعدة وردت في كتاب الله في موضعين:
الأول: في سياق الثناء على الأنصار رضي الله عنهم في سورة الحشر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

الثاني: في سورة التغابن في سياق الحديث عن فتنة الأموال والأولاد والأزواج، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 14 - 17].

ومعنى هذه القاعدة باختصار لا يتضح إلا ببيان معنى الشح:
فالشح ـ في أصل مادته اللغوية ـ "الأصل فيه المنع، ثم يكون منعاً مَعَ حِرص، ومن ذلك الشُّحُّ، وهو البُخل مع حِرص، ويقال: تَشَاحَّ الرّجلانِ على الأمر، إذا أراد كلُّ واحدٍ منهما الفوزَ به ومنْعَه من صاحبه"(2).

ولما كان الشحُّ غريزةً في النفس أضافه الله إلى النفس {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وهذا لا يعني أنه لا يمكن الخلاص منه، بل الخلاص منه يسير على مَن يسَّره الله عليه، ولكن الخلاص التام منه بأنواعه كلها الحسية والمعنوية، لا يوفق له إلا المفلحون، ولهذا رؤي عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ـ وهو يطوف بالبيت ـ ويقول: رب قني شح نفسي! رب قني شح نفسي! لا يزيد على ذلك، فقيل له في هذا؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزنِ، ولم أفعل(3).
وهذا من عمق فهم السلف، والصحابة منهم خصوصاً لمعاني كلام الله تعالى.

وقد قال جمع من المفسرين في قوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} هو ألا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمر الله ورسوله، فإن الله ينهى عن الظلم ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم وينهى عن الإحسان(4).

ويقول ابن تيمية رحمه الله: "فالشح ـ الذي هو شدة حرص النفس ـ يوجب البخل بمنع ما هو عليه؛ والظلمَ بأخذ مال الغير، ويوجب قطيعةَ الرحم، ويوجب الحسد"(5).
وقال في موضع آخر رحمه الله: "والشح يكون في الرجل مع الحرص وقوة الرغبة في المال، وبغضٍ للغير وظلمٍ له، كما قال تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ... إلى قوله: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 18، 19] فشحهم على المؤمنين وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه وقطيعته كالحسد؛ فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته كابني آدم وإخوة يوسف"(6) اهـ.

ولعلك لاحظتَ ـ أيها القارئ الكريم ـ ارتباط هذه القاعدة ـ في سورة الحشر والتغابن ـ بموضوع المال! لأنه ـ والله أعلم ـ هو أظهر ما يتضح فيه خلق الشح، وإن كان الشح لا ينحصر بالمال.







ومن الأمثلة التطبيقية التي توضح معنى هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}:
1 ـ ما وضحته آية الحشر، من المنقبة العظيمة التي مدح الله بها الأنصار الذين فتحوا بيوتهم وصدورهم لإخوانهم من المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، رغم قلة ذات يد كثير منهم، وحسبك بهذه المدحة الإلهية، من العليم الخبير ـ الذي يعلم ما تكنه النفوس ـ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9].

فتأمل هذه الأعمال القلبية التي كشفها ربنا عنهم، وهي كلها تدل على سلامتهم من شح نفوسهم:
أ ـ أما العمل الأول (يحبون) إذ من شأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.
ب ـ وأما العمل الثاني: ففي قوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم.
ج ـ أما العمل الثالث: فهو الإيثار، وهو: ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة، والمعنى: يُؤثرونَ على أنفسهم في ذلك اختياراً منهم، والخصاصة: شدة الاحتياج (7).
فهل تريد ـ أيها القارئ نموذجاً ـ لم تسمع الدنيا بمثله؟!

استمع إلى هذا الموقف الذي رواه لنا الإمام البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد عَلِمَت الأنصارُ أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها، حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك، دلني على السوق(8)!
فتأمل هذا السخاء النادر، والإيثار العظيم!
والله لو كان الموقف يحكي تنازله عن جزء يسير من ماله لكان شهامةً ونُبلاً، فكيف وهو يتنازل عن شطر ماله! بل ويعرض عليه فراق إحدى زوجتيه!! أي نفوس هذه؟!
أين المطلعون على أخبار الأمم؛ ليأتونا بأمثال هؤلاء الرجال تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم!

أيها الإخوة الكرام:
2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ما ذكره الله تعالى في حال خوف المرأة من نشوز زوجها وترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها، فالأحسن ـ والحال هذه ـ أن يصلحا بينهما صلحاً بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، فهي خير من الفرقة، ولهذا قال: {والصلح خير}، ثم ذكر المانع بقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك بطبيعتها، والمعنى: أنه ينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به بالسماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك، فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن= سَهُلَ حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومُعَامِله، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة؛ لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر(9).

3 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ما أثنى الله به على أهل الإيثار، من الأنصار ومن وافقهم في هذا الخلق العظيم، الذي اعتبره ابن القيم: أحد مدارج السالكين إلى عبودية رب العالمين، فجعل منزلة الإيثار من جملة هذه المنازل.
فما الإيثار؟! الإيثار ضد الشح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح: حريص على ما ليس بيده فإذا حصل بيده شيء شح عليه، وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل.



ولنختم حديثنا بهذا الموقف الذي يدل على عظم نفوس أصحابه:
فهو لقيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، وقد كان من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرةً فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم؟ فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين! فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حِلٍّ، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده!(10).