النتائج 1 إلى 1 من 1
- 06-12-2015, 03:57 PM #1
«بيرنج».. الرجل الذي ابتكر سلاحًا ضد الموت
في صباح يوم غائم من نوفمبر 1878، استيقظ القصر الملكي البريطاني على كارثة صحية، فقد شَخّص الأطباء إصابة أعضاء من العائلة المالكة بمرضِ خطير، باءت كل محاولات معالجته بالفشل، أخذ الداء في الانتشار؛ ومن الابنة الكبرى للملكة فيكتوريا انتقل المرض إلى البقية، بعد أيام؛ كتبت الملكة إلى الشعب خطاباً جاء فيه أن الأميرة «أليس مود ماري» رحلت إلى العالم الآخر جراء «الاختناق» بفعل مرض غامض لا يُعرف سببه على وجه الدقة وذيلت الخطاب بعبارة «الألم أكبر من أن يُعبر عنه بالكلمات».
في العام ذاته، أنهى «إيميل فون بيرنج » تعليمه في الأكاديمية العسكرية الألمانية للطب، ليحصل على وظيفته في السنة ذاتها كطبيب مقيم في الجيش الألماني. ولد «إيميل» في مقاطعة «بروسيا» الألمانية، لأب فقير يعمل مديرًا لمدرسة، ووسط الأسرة مُكونة من 13 فردًا، رغب الوالد أن يُعلم الطفل اللاهوت إلا أنه رفض الالتحاق بالسلك الديني وفضّل اللجوء إلى الأكاديمية العسكرية، التي كانت تقبل آنذاك الراغبين في الدراسة شريطة أن يقضوا عددًا معينًا من السنوات في وظيفة ضابط بعد إتمامها، وداخل الأكاديمية، تعلم «إيميل» فنون الطب المختلفة، وعمد إلى دراسة الأمراض المُعدية، وعلوم الأحياء الدقيقة، لم يُظهر «إيميل» نبوغًا يذكر خلال فترة دراسته، ولم يكن أحد يتوقع أن يحصل ذلك الشاب المنحدر من جذور فقيرة على جائزة رفيعة في العلوم الطبية.
وصف الطبيب اليوناني «أبقراط» في القرن الخامس قبل الميلاد أعراض مرض «الدفتيريا» المُشتق اسمها من لفظ لاتيني يعني الغشاء، ذلك المرض الذي أنهى حياة الأميرة «أليس»، وبعد 22 قرناً من وصف أبوالطب، وصف الطبيب الألماني السويسري «أدوين كلبس» نوعًا من الجراثيم يُسمى «الوتدية الخناقية» تُسبب مرض الخناق/الدفتيريا، الذي يقتل نحو 20% من المصابين به. وفي عام 1884، تمكن الطبيب الألماني «فريديريك لوفلر» من اكتشاف الجرثومة المسببة لمرض الدفتيريا، وتمكن من عمل مزرعة لها، وقتها؛ وفي مكان غير بعيد عن معامل «كلبس»، كان «إيميل فون بيرنج» يعمل بشكل روتيني ويدون ملاحظاته في دفتر مخصص لتجارب الجمرة الخبيثة، والتى كان يتعاون فيها مع أستاذه «روبرت كوخ»، ليكتشف أن الأمصال المستخرجة من دماء الفئران قادرة على قتل بكتيريا المرض. وضع «إيميل» القلم جانباً، وبدأ في التساؤل، لماذا لا نستخرج مصلاً من دماء الناجين من «الدفتيريا» لعلاج المُصابين بها؟
تغزو الجرثومة المُسببة للدفتيريا الجهاز التنفسي، وينتج عنها التهاب يعقبه اضمحلال، فموت للخلايا في نهاية المطاف، وينتقل المرض من شخص إلى آخر عبر اللعاب والرذاذ المتطاير، تكمن الجرثومة المسببة للمرض داخل جسد الضحية، وتبدأ في إفراز سمومها داخل الجسم وعمل نسيج يتحول رويدًا رويدًا إلى ورم يسد المجاري التنفسية، ويتسبب في موت المريض اختناقاً، وفي القرن الثامن عشر تسبب المرض في موت عائلات بأكملها داخل المستعمرات الأمريكية، وكان أول تسجيل لبيانات تتعلق بالدفتيريا عام 1920، أظهر ذلك الإحصاء إصابة 150 ألف شخص بالمرض، تُوفي منهم نحو 13 ألف شخص.
خمس سنوات، سخرها الطبيب «إيميل فون بيرنج» لمحاربة مرض الخناق، استخدم خلالها مجموعة من التقنيات التي تعلمها خلال دراسته في الأكاديمية العسكرية، مئات التجارب التي أجراها على الخنازير، استخدم فيها محاليل كيميائية على رأسها ثلاثى كلوريد اليود، ليستنتج بعد سلسلة طويلة من الاختبارات نتيجة مهمة، فالخنازير الناجية من المرض تُصبح مُحصنة ضده، الأمر الذي قاده لصناعة علاج للدفتيريا يُحقن مباشرة في الدم، ويعتمد على تحييد السموم التي تنتجها الجراثيم المُسببة للمرض، بطريقة عبقرية، لا تقتل الجرثومة ذاتها ولكن تُبطل أثرها.
في عام 1901، حصل «إيميل» على أول جائزة نوبل في مجال الفسيولوجيا، وجاء في بيان اللجنة التي قامت باختياره مجموعة من الأسباب، على رأسها عمله على ابتكار مصل يحقن في الدم ويعالج الآثار الناجمة عن الجرثومة المسببة للدفتيريا، ووصفته اللجنة بالرجل الذي اخترع سلاحًا في يد الأطباء يُمكّنهم من الانتصار على المرض.. والموت.
علاوة على «نوبل»، حصل «إيميل» على عدة جوائز رفيعة، من ضمنها وسام جوقة الشرف الفرنسي، وكرمته ألمانيا بإطلاق اسمه على شارع رئيسي في مدينة ملبورج، وطابع للبريد يحمل صورته، وأطلقت اسمه على أرفع جائزة طبية هناك، وخلدت ذكراه بضريح لا يزال قائمًا في المدينة التي أسس فيها مختبره الطبي.
في كثير من الأحيان، تُسخر الطبيعة قواها وترسل أمراضاً مستعصية على العلاج، وفي بعض الأوقات؛ يأتى رجال متفانون، يرفعون مستويات التحدي، ويقبلون خوض المعارك في سبيل الأمل، الآن، وبفضل الجهود غير العادية التي بذلها الطبيب الألماني «إيميل فون بيرنج» تقلصت نسب الإصابة بالدفتيريا إلى حدها الأدنى، فمنذ طرح المصل الواقي عام 1940، انخفضت نسبة الإصابات لتصل الآن إلى أقل من 5 حالات فقط في العام، دون وفيات.