كان واصلُ بن عطاء المعتزلي بارعًا في اللّغة، حافظًا لها، مجيدًا لأساليبها، مشهورًا بالبلاغة، ومعروفًا بسُرعة الجواب، وحضور البديهة.

وكان مع ذلك كلّه قبيحَ اللَّثغة شنيعَها لا يستطيع النّطق بالرّاء، يتجنّبها في كلامه، ويأتي بما يرادفها في الخُطب الطويلة، حتّى قال فيه بعضهم:

عليم بإبدال الحُروف وقامع *** لكلّ خطيب يبلغُ الحقَّ باطلُه[1]

وكان يُضرب به المثل في إسقاطه حرف الرّاء من كلامه، واستعملَ الشّعراء ذلك في شعرهم كثيرًا، فمنه قول أبي محمد الخازن من جملة قصيدة طنّانة طويلة يمدح بها الصّاحب أبا القاسم إسماعيل بن عبّاد وهو:

نعم تجنّبَ "لا" يومَ العطاء كما *** تجنّبَ ابنُ عطاء لفظة الرّاء

وقال آخرُ في محبوب له ألثغ:

أعد لثغة لو أن واصل حاضر *** ليسمعها ما أسقط الرّاء واصلُ

وقال آخر:

أجعلتَ وصلي الرّاء لم تنطق به *** وقطعتني حتّى كأنّكَ واصلُ

قال ابن خلّكان: "لله درّه ما أحسنَ قوله: وقطعتني حتّى كأنّكَ واصلُ".

وقالَ آخرُ:

فلا تجعَلْني مثلَ همزة واصل *** فيلحقني حذف ولا راء واصل [2]

قال الجاحظ: "كانَ إذا أرادَ أن يذكرَ البُرّ قال: القمح أو الحِنْطة. والحنطة لغة كوفية والقمح لغة شامية. هذا وهو يعلمُ أنّ لغةَ من قال بُرّ، أفصح من لغة من قال قمح أو حِنطة" [3].

قال عنه المبرّد في الكامل: "كان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كانَ ألثغَ قبيح اللّثغة في الرّاء، فكان يخلص كلامه من الرّاء ولا يُفْطِنُ لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه" [4].

"وإنه لما علم أنه ألْثَغ فاحشُ اللَّثغ، وأنّ مخرج ذلك منه شنيع، وأنّه كان داعية مقالة ورئيس نحلة، وأنّه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن؛ وأن حاجة المنطق إلى الطلاوة والحلاوة كحاجته إلى الجلالة والفخامة، وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتنثني إليه الأعناق وتزين به المعاني، وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة، رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لسَتره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما آمل، حتى صار لغرابته مثلا، ولظرافته معلما. قال: ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال، لما استجزنا الإقرار به والتأكيد له إلى آخر ما يتعلق بخبر واصل مما ليس هذا موضعه" [5].

فلبلاغته هجرَ الرّاء، وتجنّبَها في خطابِه، وقد قال الشّاعر:

ويجعلُ البُرَّ قَمحًا في تصرّفه *** وخالفَ الرّاء حتّى احتالَ للشِّعْرِ
ولمْ يُطِقْ مطَرًا في القول يُعْجِلُهُ *** فعادَ بالغيثِ إشفَاقًا من المطَرِ [6]

قلتُ: وله أخبار مشهورة في كتب الجاحظ وغيره من جهابذة الأدب والتّاريخ، سأكتفي بنقل خبرين عنه في هذه العُجالة.

القصة الأولى: ذكرها صاحب كتاب (البلاغة الميسرة) [7] قال:

مرّ يومًا بأناس فأرادوا أن يتضاحكُوا من لَثغته، فقالوا له: كيفَ تقولُ: جرَّ رمحَه، وركبَ فرَسَه، وأمرَ الأميرُ بحفر بئر على قارعة الطّريق؟

فقال من فوره: "سحبَ ذَابلَه، وامتطى جوادَه، وأوجبَ الخليفةُ نقْبَ قليب على الجادّة". اهـ.

قلتُ: فانظر -يرعاك الله- كيف استطاع أن يجيبَهم بعفوية وكأنّ اللّغة العربية كلّها نصبَ عينيه، يأخذ منها ما يشاء ويترك ما يشاء. بل كأنّه أعدّ هذا الجوابَ من شهر، وسبحان من وهبه هذه الملكة، والقدرة على استحضار مترادفات اللغة، والغوص في معانيها. ومن بركة العلم الجواب الكافي عند الحاجة.

سألَ قُطرُب عُثمانَ البُرّي: كيف كانَ واصلٌ يصنعُ في العَدَد، وكيف كان يصنع بعشرة وعشرين وأربعين، وكيف كان يَصنعُ بالقَمر والبدر ويوم الأربعاء وشهر رمضان، وكيف كانَ يصنع بالمُحرّم وصَفَر وربيع الأول وربيع الآخر وجُمادى الآخرة ورَجَب؟ فقال: مالي فيه قولٌ إلاّ ما قال صفوان:

ملَقّنٌ مُلْهَمٌ فيما يُحاولُه *** جَمّ خواطِرُه جوّابُ آفاقِ [8]

القصّة الثّانية: ذكرها الجاحظ وابنُ خلّكان، مفادها: أنّ بشار بن برد الشاعر الأعمى أطلق العنان للسانه فهجا واصلاً، وصوّب رأي إبليس في تقديم النّار على الطين، وزعم أنّ جميع المسلمين كفروا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. فلمّا ضاقَ به واصل بن عطاء ذرعًا، قال: أما لهذا الأعمى الملحد المشنّف المُكنّى بأبي مُعاذ من يقتله، أما والله لولا أنّ الغيلة سجيّة من سجايا الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله، ثم كان لا يتولّى ذلك إلاّ عُقَيْليّ أو سَدُوسي.

قال إسماعيل بن محمد الأنصاري، وعبدُ الكريم بن روح الغفاري: قال أبو حفص عمر بن أبي عُثمان الشّمَري: ألا تريان كيف تجنّب الرّاء في كلامه هذا وأنتما للذي تريان من سلامته وقلّة ظهور التّكلّف فيه لا تظنّان به التّكلّف، مع امتناعه من حرف كثير الدّوران في الكلام. ألا تريان أنّه حين لم يستطع أن يقول بشّار، وابن برد، والمرعث، جعلَ المشنّف بدلاً من المُرعّث، والملحد بدلا من الكافر، وقال: لولا أنّ الغيلة سجية من سجايا الغالية، ولم يذكر المنصورية ولا المُغيرية، لمكان الرّاء، وقال لبعثت من يبعج بطنه، ولم يقل: لأرسلتُ إليه، وقال على: على مضجعه، ولم يقل على فراشه. اهـ [9].

قلتُ : فأينَ نحن من هذه الفصاحة، وهذه البلاغة، الواحد منّا اليوم يقرأ بضعة كتب ثمّ يعتقد في قرارة نفسه أنّه قد بلغَ مبلغًا قلّ أن ينازعه فيه أحد. ومن ثَم نُصَاب بمرض نون الجماعة فننزلُ نا ونحن في كلامنا وأقلامنا تعظيمًا لشأننا وتقديرًا لأنفسنا الأمّارة بحب الذّات.

ومن جهلت نفسه قدره *** رأى غيره منه ما لا يرى [10]

من هو واصل بن عطاء ؟
وواصل بن عطاء هذا هو الذي برزت على يده المعتزلة كفرقة فكرية، وقد كان تلميذًا للإمام الحسن البصري، ثم اعتزل حلقته بعد قوله بأنّ مرتكبَ الكبيرة في منزلة بين المنزلتين أي ليس مؤمنا ولا كافرًا، وأنّه مخلّد في النّار إذا لم يَتُبْ قبلَ موته، وقد عاشَ في أيّام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، كان ابتداؤها في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي [11]. وقد ألّفَ كُتبًا كثيرةً ولم يصلنا منها شيء [12].



كُنيتُه أبو حُذَيْفَة وكان يُلقّب بالغزّال؛ لأنّه كان يُلازم الغزّالين بسوق البصرة ليعرفَ المُتعفّفات من النّساء فيجعل صدقته لهنّ [13]. وكان طويلَ العُنق جدّا، وقد هجاه بشّار بن بُرد المذكور آنفًا بقوله:

ماذا مُنيت بغزّال له عنق *** كَنقنقِ الدّوّ إن ولّى وإن مَثُلا
عُنْقَ الزّرافة ما بالي وبالكم *** تكفّرون رجالاً كفّروا رجلاً؟

ذكرها ابن خلّكان في وفياته. وفي رواية عند الجاحظ: مالي أشايعُ غزّالاً له عنق .. الأبيات. ووصفه الذهبي بقوله: وكانَ صموتًا [14]. ماتَ سنة 131هـ.