الحمد لله الذي حمد نفسه في السماوات والأرض، وحمد نفسه في الآخرة والأولى، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد آدم، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فليس مثل ملتقانا بهاءا، ونضرة، لأن حديثنا لا يزال يتردد ويتجدد في آي من القرآن، ورسمه واسمه: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تبعث الأمل في نفوس أهل الإيمان، وتملأ قلوبهم ثقةً ويقيناً، وراحة وطمأنينة، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].

وهذه الآية الكريمة جاءت مرةً على لسان موسى ج وهو يبشر قومه الذين آمنوا به، بحسن العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، والتمكين في الأرض إن هم لازموا التقوى.

وجاءت هذه القاعدة بلفظ مقارب، في خطاب الله تعالى لنبيه محمد في خواتيم سورة طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

وجاءت هذه القاعدة ـ أيضاً ـ بعد انتهاء قصة قارون، في خواتيم سورة القصص، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

ومن المعلوم أن العاقبة هنا لا تنحصر في الآخرة التي ضمن الله النجاة فيها للمتقين، كما في قوله ـ: {والآخرة عند ربك للمتقين}، بل هي عامة في الدنيا والآخرة، ولكن قبل أن نسأل: أين صدق هذه القاعدة، فلنسأل: أين تحقيق التقوى على الوجه الصحيح؟! وإلا فوعد الله لا يتخلف!

أيها القارئ المسدد:
إن أدنى تأمل لمجيء هذه الآيات ـ مع تنوع سياقاتها ـ ليوضح بجلاء اطراد هذه القاعدة، فقد أخبر بها ربنا جل وعلا في قوله: {والعاقبة للتقوى}، وبعد قصة قارون قوله:{والعاقبة للمتقين}، وبشر بها موسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام.

"وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمراً، ويقع في آخره من خير وشر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير، فالمعنى: أن التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير.
واللام ـ في قوله "للتقوى" و "للمتقين" للملك، تحقيقاً لإرادة الخير من العاقبة؛ لأن شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة، وقد تكون العاقبة في خير الدنيا ـ أيضاً ـ للتقوى.
وجاءت هذه الجملة بهذا الأسلوب لتؤكد معنى العموم، أي: لا تكون العاقبة إلا للتقوى، فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل"(1).

فما أحوجنا ونحن نشاهد ما نشاهد: إن على المستوى الفردي أو الجماعي أن نتأمل هذه القاعدة، ولنبدأ بالإشارة إلى المستوى الجماعي:
فإن أمة الإسلام تمر منذ قرون بحالة من الضعف والتفرق وتسلط الأعداء على كثير من أهله، وهذه حالٌ تجعل بعض الناس من المنتسبين للإسلام ـ وللأسف ـ يبحث عن موطئ قدم خارج دائرة بلاد الإسلام، فيذهب غرباً أو شرقاً، بحثاً عن مبادئ أخرى، ومذاهب مختلفة، لا تمت إلى الإسلام بصلة، بسبب شعوره البائس بهزيمة داخلية وما تعانيه الأمة الإسلامية من تفرق وتشرذم، وفي الوقت ذاته: انبهاره بالتقدم المادي، وما يوجد في تلك البلاد من محاسن تتعلق بحقوق الإنسان، وغيرها من المجالات.

والمؤلم في أمثال هؤلاء أنهم لم يروا من حضارة الشرق أو الغرب إلا الجانب الإيجابي والحسن، وعميت أبصارهم، أو تعاموا عن الجوانب المظلمة ـ وما أكثرها ـ! هذه الحضارة التي اعتنت بالجسد، وأهملت الروح، وعمرت الدنيا وخربت الآخرة، وسخّرت ما تملكه من أسباب مادية في التسلط على الشعوب المستضعفة، وفرض ثقافتها، وأجندتها على من تشاء!

وعلى سبيل المثال: فإن نظام الثورة الفرنسية الذي قرر مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين البشر ـ كما يزعم واضعوه ـ لم يمنعه من إبادة ثلث سكان جزيرة هاييتي؛ لأنهم تمردوا على العبودية! كما أن القائد الفرنسي المشهور نابليون ـ الذي أنجبته الثورة الفرنسية ـ جاء إلى بلاد مصر، ليحتلها ويقيم نظاماً استعمارياً فيها.








والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لسردها، فضلاً عن التفصيل فيها، ولكن لعل من المناسب أن نُذكّر بقضية الساعة هذه الأيام، وهي قضية انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي! الذي قام على مصادمة منهج الله العادل في شأن المال، فرأى أربابه صدق ما توعد الله به أكلة الربا من المحق، وفي كل يوم نسمع عن مليارات ضائعة، وشركات عالمية أفلست، حينها قال من قال: لا بد من العودة إلى المنهج الإسلامي في الاقتصاد! وصدق الله: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}، وصدق الله: {والعاقبة للتقوى}.

ألا ما أحوج الدول الإسلامية، والجماعات الإسلامية في بقاع الأرض إلى أن يتدبروا هذه القاعدة جيداً، وأن يتأملوا جيداً في العواقب التي جناها مخالفوا التقوى في الأنظمة والحكم والسلوك، ومن تدبر مجيء قوله تعالى ـ على لسان موسى وهو يخاطب قومة المضطهدين عدة قرون ـ: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [الأعراف: 128] من تدبرها عرف حاجة الدول والمجتمعات لتدبر هذه الآية جيداً، وأن وعد الله لا يتخلف لمن اتقاه دولاً كانوا أو شعوباً، تأمل معي قول مَنْ عواقب الأمور كلها إليه ـ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41]}.

ومن أراد أن يعرف الآثار السيئة التي لقيها العالم من بعد المسلمين عن دينهم، وخسارة العالم لعظيم مبادئ الإسلام فليقرأ كتاب الشيخ أبي الحسن الندوي:: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!.

أما على المستوى الفردي، فإن الحديث فيها يحتاج إلى بسط أكثر، ولكن حسبنا في مقامنا هذا أن نشير إشارة مُذِكّرة بأهمية هذه القاعدة في حياتنا اليومية:
فإن آية القصص: {والعاقبة للمتقين} جاءت بعد قصة قارون الذي لم يصبر على شهوة المال!

وفي هذا إشارة إلى حاجة العبد ـ رجلاً كان أو امرأة ـ لتدبر هذه القاعدة جيداً، خصوصاً وهو يعيش في جو من المغريات والفتن والصوارف عن دين الله ـ يتدبرها ويتأملها؛ لتهوّن عليه الصبرَ عن الشهوات والملذات المحرمة... فكلما دعته نفسه إلى ما يخالف التقوى فليذكرها بحسن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة..





وكذلك الداعية إلى الله، من أحوج ما يكون إليها وهو يسير في طريق الدعوة الطويل، والمليء بالابتلاء بالخير أو بالشر، وخصوصاً إذا كان لا يجد معيناً ولا ناصراً، بل قد يجد مناهضاً ومعادياً!

يقول شيخنا العلامة ابن باز: ـ بعد أن ذكر شيئاً مما تعرض له إمام الدعاة محمد من أذى وابتلاء، قال:
"فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم؟ أو يقول متى كنت متقياً أو مؤمناً فلا يصيبني شيء؟ ليس الأمر كذلك بل لابد من الامتحان , ومن صبر حَمِدَ العاقبة , كما قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}،{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} فالعاقبة الحميدة لأهل التقوى, متى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس , فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة , كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فأنت ـ يا عبد الله ـ في أشد الحاجة إلى تقوى ربك، ولزومها، والاستقامة عليها، ولو جرى ما جرى من الامتحان, ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله, أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ , واذكر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - , واذكر أتباعهم بإحسان , فقد أوذوا، واستهزئ بهم، وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر"(2).

ومفهوم هذه القاعدة القرآنية المحكمة: أن كل من لم يكن تقياً في أحواله، أو أفعاله، فلا عاقبة له حسنة، وإن أمهل زماناً، أو تُركَ دهراً، وهذه سنة الله في خلقه، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية: يستدل بهذه القاعدة القرآنية: (والعاقبة للمقتين) وبأمثالها ـ إبان هجوم التتار على بلاد الإسلام ـ وكان يقسم بالله أن التتار لن ينصروا، بل سيخذلون وينكسرون، وكان مما قاله حينها: "واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن عاقبته، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين" (3).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،،