القـول المقتضب في حكم الغناء وآلات الطرب

الأدلة من الكتاب

1- قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 5] وفسر لهو الحديث بأنه الغناء، وقال ابن عباس هو الغناء وأشباهه، وقال ابن مسعود: هو والله الغناء.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه الغناء، وكذا قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفسره أيضًا بالغناء خلق من التابعين منهم مجاهد وعكرمة والحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومكحول وعمرو بن شعيب وميمون بن مهران([1]).
فهؤلاء كبار علماء الصحابة والتابعين فسروا لهو الحديث بأنه الغناء، وحسبك تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»([2]).قال إمام المفسرين ابن جرير رحمه الله بعد ذكره لأقوال المفسرين في معنى لهو الحديث: والصواب من القول في ذلك أن يقال: عُني به كل ما كان من الحديث ملهيًا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عم بقوله: {لَهْوَ الْحَدِيثِ}ولم يخصص بعضًا دون بعض، فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدل على خصوصية، والغناء والشرك من ذلك([3]).
وقال ابن كثير: لما ذكر الله تعالى حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه عطف بذكر حال الأشقياء الذي أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب([4]).
وقال الشوكاني: لهو الحديث كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر ...
وقيل: المراد شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير: من يشتري أهل لهو الحديث([5]).
وقال الألوسي: وفي الآية عن الأكثرين ذم الغناء بأعلى صوت، وقد تضافرت الآثار وكلمات كثيرة من العلماء الأخيار على ذمه مطلقًا لا في مقام دون مقام([6]).
2- قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] وقد فسر صوت الشيطان هنا بأنه الغناء، قال مجاهد: صوته هو الغناء والمزامير([7])، وقال الحسن البصري: هو الدف والمزمار([8])، وقال الضحاك: صوت المزمار([9]).
3- قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] وفسر الزور هنا بعدة تفسيرات منها أنه الغناء.قاله محمد ابن الحنفية ومكحول، وعن الحسن قال: الغناء والنياحة وعن مجاهد قال: لا يسمعون الغناء، وعن أبي الجحاف قال: الغناء([10]).
4- قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59-61] قال ابن عباس: السمود الغناء في لغة حمير، أسمد لنا أي غنّ لنا، وقال عكرمة: هو الغناء بالحميرية
الأدلة من السنة
1- عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ...»([1]).
وهذا الحديث وإن كان معلقًا فهو صحيح كما ذكر ذلك عدد من أئمة العلم، قال ابن الصلاح: «والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح»([2]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والآلات الملهية قد صح فيها ما رواه البخاري في صححيه تعليقًا مجزومًا به داخلاً في شرطه([3]).وقال ابن القيم: هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجًّا به([4]).
وقال ابن رجب: ذكره البخاري في صحيحه بصيغة التعليق المجزوم به والأقرب أنه مسند فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري ... وقال: فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار([5]).
وقال ابن حجر: «وهذا حديث صحيح لا علة ولا مطعن فيه»([6]).
وقال الألباني: صححه البخاري وابن حبان والإسماعيلي وابن كثير والنووي وابن الوزير الصنعاني وابن رجب والسخاوي والأمير الصنعاني([7]).
وهذا الحديث ضعفه ابن حزم وتبعه بعض المعاصرين وقد رد أهل العلم على ابن حزم وبينوا خطأه في تضعيفه.
قال ابن الصلاح: ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ...» الحديث، من جهة أن البخاري أورده قائلاً فيه: قال هشام بن عمار وساقه بإسناده فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح([8]).
وقال ابن القيم: ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئًا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه:

أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال: قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني:أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنده أنه حدث به، وهذا كثيرًا ما يكون لكثرة من رواه عن ذلك الشيخ وشهرته فالبخاري أبعد خلق الله عن التدليس.
الثالث:أنه أدخله في كتاب المسمى بالصحيح محتجًّا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض، فإذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول: ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر عنه ونحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو ضربنا عن هذا كله صفحًا فالحديث متصل عند غيره.
قلت: ثم ذكره عند أبي داود وابن ماجه ثم قال: وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة، ثم ذكر أحاديثهم([9]).
وقال ابن حجر: وهذا حديث صحيح لا علة له ولا مطعن له، وقد أعله أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد وبالاختلاف في اسم أبي مالك وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم مثل الحسن بن سفيان وعبدان وجعفر الفريابي وهؤلاء حفاظ أثبات، وأما الاختلاف في كنية الصحابي فالصحابة كلهم عدول، ثم قال: وله عندي شواهد أخر كرهت الإطالة بذكرها([10]).
وقال ابن حجر الهيثمي: رواه البخاري تعليقًا ووصله الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرج وأبو داود بأسانيد صحيحة وبهذا الذي تقرر من صحة الحديث من هذه الطرق اندفع قول ابن حزم: إن الحديث منقطع ولا حجة فيه، ولو فرض أن غير البخاري لم يذكره لأن ذكره له حجة لما قد تقرر عند الأئمة أن تعليقاته المجزوم بها صحيحة([11]).
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم علي -أو حرم- الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام»([12]).
والكوبة هي الطبل كذا فسرها بعض رواه الحديث قال سفيان: قلت لعلي بن بذيمة –أحد رواة الحديث– ما الكوبة؟ قال الطبل([13]).
وجزم الإمام أحمد بأن الكوبة هي الطبل حيث قال: أكره الطبل وهو الكوبة نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم([14]).
وقال الخطابي: الكوبة يفسر بالطبل ويقال: هو النرد ويدخل في معناه كل وتر ومزمار ونحو ذلك من الملاهي والغناء([15]).
3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة»([16]).
قال ابن القيم: هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء كما في اللفظ الآخر الصحيح: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين ...»([17]).
4- عن جابر بن عبد الله عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... إني لم أنْهَ عن البكاء ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة لطم وجوه وشق جيوب ورنة شيطان»([18]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء كما في اللفظ المشهور عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشيطان ...» فنهى عن الصوت الذي يُفعل عند النعمة كما نهى عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة، والصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء([19]).وقال ابن القيم: فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمقًا ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان ... فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهي أبدًا
أقوال السلف في ذم الغناء
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الدف حرام والمعازف حرام والكوبة حرام والمزمار حرام([1]).2- عن ابن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب([2]).3- عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: إني لأبغض الغناء وأحب الرجز([3]).4- قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب([4]).5- قال فضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا([5]).6- قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية، إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا([6]).7- كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى مؤدب ولده: ... وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بِدْؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب الماء([7]).8- وقال الشعبي: لعن الله المغني والمُغَنَّى له([8]).9- قال مكحول: من مات وعنده مغنية لم يصلَّ عليه
أقوال العلماء في حكم الغناء



حكاية الإجماع


المقصود بالغناء هنا هو المقترن بآلات الطرب، المشتمل على الغزل وأوصاف النساء والخمور والمجون، فهذا قد اتفق الجمهور على تحريمه، بل حكى ابن الجوزي عن الطبري إجماع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري([1]).
وقال: واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما. قال ابن القيم: يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن([2]).
وقد حكى ابن قدامة الإجماع على أن آلات اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة آلة للمعصية([3]).
وقال ابن القيم: وحكى أبو عمرو ابن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة فقال في فتاويه: وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد -ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف- أنه أباح هذا السماع([4]).
وقال القرطبي: الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن فهذا النوع إذا كان في شعر يُشَبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق([5]).
وقال ابن حجر العسقلاني: قد حكى قوم الإجماع على تحريمها (يعني المعازف)([6]).
وقال ابن حجر الهيثمي: الأوتار والمعازف كالطنبور والعود والصنج أي ذي الأوتار والرباب والجنك والكمنجة والسنطير والدريج وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق وهذه كلها محرمة بلا خلاف، ومن حكى فيها خلافًا فقد غلط أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه ومنعه هداه، وزل به عن سنن تقواه، وممن حكى الإجماع على تحريم ذلك كله الإمام أبو العباس القرطبي ... وممن نقل الإجماع على ذلك أيضًا إمام أصحابنا المتأخرين أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي([7]).
وبالغ القاضي عياض حيث حكى الإجماع على كفر مستحله
مذاهب الأئمة الأربعة
مذهب الإمام أبي حنيفة:
يعتبر الغناء من كبائر الذنوب في مذهب أبي حنيفة. قال في البداية وشرحه الهداية عند ذكر من لا تقبل شهادته: ولا تقبل شهادة من يغني للناس لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة([1]).
وقال في الدر المختار وشرحه: ... ومن يغني للناس؛ لأنه يجمعهم على كبيرة([2]) يعني لا تقبل شهادة من يغني للناس.
وقال السرخسي: ولا تجوز الإجارة على تعليم الغناء والنوح لأن ذلك معصية([3]).
وقال ابن الجوزي: وأما مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري عن أبي الطيب الطبري قال: كان أبو حنيفة يكره الغناء ... ويجعل سماع الغناء من الذنوب. قال: وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة: إبراهيم والشعبي وحماد وسفيان الثوري وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك([4]).
وكذلك قال أبو بكر الطرطوشي عن أبي حنيفة في حكم الغناء([5]).
وقال ابن القيم: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه من أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق والتلذذ به كفر([6]).
مذهب الإمام مالك رحمه الله
أن الغناء من فعل الفساق؛ فعن إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق([7]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بعد حكايته لقول مالك وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك وهم أعلم بمذهبه ومذهب أهل المدينة من طائفة في المشرق لا علم لهم بمذاهب الفقهاء([8]). اهـ.
وفي مذهب مالك: لا تقبل شهادة المغنَّي والمغنية إذا كانوا معروفين بذلك([9]).ولا تجوز الإجارة على تعليم الغناء([10]).وأن الغناء إن كان بقبيح القول أو بآلة فإنه يحرم ولو في الأعراس([11]).وقال أبو عبد الله الأبي: ولا خلاف في حرمة أجرة المغنية والنائحة([12]).
قلت: وهذا يدل على تحريم الغناء لأنه لو كان جائزًا لجاز تعليمه والأجرة على ذلك.
وقال الحطاب: قال في المدخل في فصل المولود: ومذهب مالك أن الطار الذي فيه الصراصر محرم وكذلك الشبابة ...
قال أصبغ: ما جاز للنساء مما جوز لهن من الدف والكبر في العرس فلا يجوز للرجال عمله، وما لا يجوز لهم عمله فلا يجوز لهم حضوره، ولا يجوز للنساء غير الكبر والدف ولا غناء معها ولا ضرب ولا برابط ولا مزمار وذلك حرام محرم في الفرح وغيره([13]).
وذكر الدسوقي أن سماع الغناء يحرم إذا كان يثير الشهوة أو كان بكلام قبيح أو كان بآلة([14]).
وقال أبو الطيب الطبري: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده
مذهب الإمام الشافعي:

قال الإمام الشافعي: خلفت في العراق شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يشغلون به الناس عن القرآن([1]).
قال ابن الجوزي: وقد ذكر أبو منصور الأزهري المغبرة قوم يغبرون بذكر الله – عز وجل – بدعاء وتضرع وقد سمعوا ما يطربون فيه من الشعر في ذكر الله عز وجل تغبيرًا كأنهم إذا شاهدوها بالألحان طربوا ورقصوا فسموا مغبرة لهذا المعنى([2]).
وقال ابن القيم: والتغبير هو عبارة عن التوقيع بقضيب أو نحوه على جلد يابس وإنشاد أشعار ربانية مرققة للقلوب ومحركة للسواكن ومع هذا سماهم بالزنادقة، فكيف لو رأى ما أحدثه هؤلاء الذين في زماننا من الاستماع والرقص على الدفوف والشبابات([3]).
وقال الشافعي في الرجل يتخذ الغلام والجارية المغنيين وكان يجمع عليهما ويغشى لذلك فهذا سفه ترد به شهادته وهو في الجارية أكثر من قبل أن فيه سفهًا ودياثة([4]).
قال ابن الجوزي: وإنما جعل صاحبها سفيهًا فاسقًا لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا([5]).
وقد صرح علماء الشافعية أن الغناء بالآلات المطربة حرام.
قال الشيرازي: ويكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة ... ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار، ويجوز ضرب الدف في العرس والختان ودون غيرهما([6]).
وقال البغوي: والغناء وسماعه من غير آلة مطربة مكروه ... وأما الآلات المطربة كالعود والطنبور والصنج والطبل والمزمار فيحرم استعمالها والاستماع إلى أصواتها، وفي اليراع وجهان؛ أصحهما حرام كالمزمار، وضرب الدف مباح في الإملاكات والختان وحرام في غيرهما ... وضرب القضيب على الوسائد حرام([7]).
وذكر النووي أقسام الغناء فقال:

القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار ويحرم استعماله واستماعه([8]).
وقال ابن الجوزي: وقد كان رؤساء أصحاب الشافعي ينكرون السماع وأما قدماؤهم فلا يعرف بينهم خلاف، وأما أكابر المتأخرين فعلى الإنكار منهم أبو الطيب الطبري وله في ذم الغناء والمنع منه كتاب مصنف ... ومنهم القاضي أبو بكر محمد بن مظفر الشامي ... قال: لا يجوز الغناء ولا سماعه ولا الضرب بالقضيب قال: ومن أضاف إلى الشافعي هذا فقد كذب عليه([9]).
وقال ابن القيم: وصرح أصحابه -أصحاب الشافعي- العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله
: مذهب الإمام أحمد بن حنبل:
قال ابن الجوزي: وروى المروزي عن أحمد بن حنبل أنه قال: كسب المخنث خبيث يكسبه بالغناء؛ وهذا لأن المخنث لا يغني بالقصائد الزهدية وإنما يغني بالغزل والنوح.
ثم قال ابن الجوزي: فبان من هذه الجملة أن الروايتين عن أحمد في الكراهة وعدمها تتعلق بالزهديات الملحنة، فأما الغناء المعروف اليوم فمحظور عنده كيف ولو علم ما أحدثه الناس من الزيادات([1]).
وقال ابن القيم: وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب؛ لا يعجبني، ثم ذكر قول الإمام مالك: إنما يفعله عندنا الفساق([2]).
وقال ابن قدامة: الملاهي على ثلاث أضرب (أنواع):
محرم: وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها([3]).
وقال المرداوي: قال في الرعاية: ويكره سماع الغناء والنوح بلا آلة لهو ويحرم معها...
وفي المستوعب والترغيب وغيرها يحرم مع آلة لهو بلا خلاف بيننا([4]).
قلت: وبهذا يتبين اتفاق مذاهب الأئمة الأربعة على تحريم الغناء والمعازف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام
أقوال بعض العلماء المعاصرين
حيث إن الغناء وسماعه من المسائل القديمة الحديثة فكان من الطبيعي أن يتحدث عنه العلماء قديمًا وحديثًا، وقد ذكرنا فيما سبق أقوال العلماء السابقين، وسوف نذكر هنا بعض أقوال العلماء المعاصرين ومنهم:
1- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم حيث قال: الغناء إذا كان بطبل أو طنبور أو عود فهو حرام، فإن كان بدون ذلك ففيه تفصيل: فغناء الغرام حرام الذي يذكر فيه أوصاف النساء ومثل حداء الأعراب لا بأس به ولا سيما عند الحاجة إليه([1]).
2- اللجنة الدائمة للإفتاء: فقد ذكر في إحدى الفتاوى الصادرة عن اللجنة: أما الغناء والموسيقى والاستماع لهما فهي من المنكرات([2]).
3- سماحة الشيخ ابن باز: حيث قال: الاستماع إلى الأغاني حرام ومنكر، ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد فسر أكثر أهل العلم قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 5] بالغناء وكان عبد الله بن مسعود يقسم على أن لهو الحديث هو الغناء، وإذا كان مع الغناء آلة لهو كالربابة والعود والكمان والطبل- صار التحريم أشد، وذكر بعض العلماء أن الغناء بآلة لهو محرم إجماعًا([3]).
4- سماحة الشيخ عبد الله بن حميد حيث قال: الأغاني التي تؤدي إلى الدعارة والخلاعة لا تجوز وكذلك الأغاني التي تؤديها المرأة بصوتها الرخيم فتثير النفوس لا تجوز سواء أمام الآلة أو الإذاعة أو غيرها([4]).
5- الشيخ محمد بن صالح العثيمين يقول: استماع الموسيقى والأغاني حرام ولا شك في تحريمه، وقد جاء عن السلف من الصحابة والتابعين أن الغناء ينبت النفاق في القلب واستماع الغناء من لهو الحديث والركون إليه، وقد قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}قال ابن مسعود في تفسير الآية: والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء، وتفسير الصحابي حجة ... ثم إن الاستماع إلى الأغاني والموسيقى وقوع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف».
وعلى هذا فإنني أوجه النصيحة إلى إخواني المسلمين بالحذر من استماع الأغاني والموسيقى وألا يغتروا بقول من قال من أهل العلم بإباحة المعازف؛ لأن الأدلة على تحريمه واضحة وصريحة([5]).
6- الشيخ صالح الفوزان: يقول في رده على القرضاوي: الإسلام لم يبح الغناء بل حرمه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة منه وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، ثم ذكر الأدلة من السنة وكلام الصحابة.
قلت: علمًا بأن الدكتور القرضاوي له رأي في الغناء المعروف اليوم حيث قال: وبهذا أعلن من أول الأمر أن الغناء بصورته التي يقدم بها اليوم في معظم التلفزيونات العربية والقنوات الفضائية بما يصحبه من رقص وخلاعة وصور مثيرة لفتيات مائلات مميلات كاسيات عاريات أو عاريات غير كاسيات أصبحت ملازمة للأغنية الحديثة. والغناء بهذه الصورة قد غدا في عداد المحرمات يبقين لا لذاته ولكن لما يصحبه من هذه المثيرات والمضلات
الإجابة عن حجج القائلين بالجواز

الإجابة عن الأحاديث التي احتجوا بها


يحتج القائلون بجواز الغناء واستماعه ببعض الأحاديث والآثار وهذه الحجج عند التأمل لا تدل على ما ذهبوا إليه، إما لعدم دلالتها أو لعدم ثبوتها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومدار الحجج في هذا الباب ونحوه: إما على قياس فاسد وتشبيه الشيء بما ليس مثله وإما على جعل الخاص عامًّا وهو أيضًا من القياس الفاسد وإما احتجاجهم بما ليس بحجة أصلاً([1]).
وقال ابن القيم عن هذه الآثار: صحيحها لا يدل، وما هو صريح في الدلالة فكذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم([2]).
وسوف نستعرض في هذا المبحث أهم هذه الأدلة، ثم نذكر أجوبة العلماء عليها:
أولاً: حديث الجارتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة رضي الله عنها بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فأنكر عليهما أبو بكر رضي الله عنه وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»([3]).
الجواب: قال ابن القيم رحمه الله: هذا الحديث من أكبر الحجج عليك، فإن الصديق سمى الغناء مزمور الشيطان ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه التسمية وأقر الجويريتين على فعله إذ هما جويريتان صغيرتان دون البلوغ غير مكلفتين قد أظهرتا الفرح والسرور يوم العيد بنوع ما من أنواع غناء العرب ولا سيما الصغار منهن في بيت جارية حديثة السن بشعر من شعر العرب في الشجاعة ومكارم الأخلاق ومدحها وذم الجبن ومساوئ الأخلاق ... ثم نحن نرخص في كثير من أنواع الغناء مثل هذا ومثل الغناء في النكاح للنساء والصبيان إذا خلا من الآلات المحرمة([4]).
وقال أبو الطيب الطبري: هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله، وإنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفعته لا سيما في يوم العيد وقد كانت عائشة رضي الله عنه صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء([5]).
وقال ابن الجوزي: إنهم ينشدون الشعر وسمى ذلك غناءً لنوع يثبت في الإنشاد، وترجيع مثل ذلك لا يخرج الطباع عن الاعتدال وكيف يحتج بذلك الواقع في الزمان السليم عند قلوب صافية على هذه الأصوات المطربة الواقعة في زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى ما هذا إلا مغالطة للفهم ... وأين الغناء بما تقولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلة مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيها الغزال والغزالة والخال والخد والقد ...([6]).
وقال ابن حجر ما معناه: إن أبا بكر ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم نائمًا فأنكر على الجاريتين مستصحبًا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو فأوضح له النبي صلى الله عليه وسلم الحال وعرفه الحكم مقرونًا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس([7]).
ثانيًا: قولهم إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع الحداء، وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه رخص في الحداء، والغناء والحداء كل منهما إنشاد بأصوات مطربة.
الجواب: أن هذا يدل على جواز الحداء فقط فلا يستدل به على جواز الغناء.
قال ابن القيم: قد اتفق الناس على جواز الحداء وثبت أن عامر بن الأكوع كان يحدو بالصحابة؛ ففي الصحيحين([8]) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك وكان عامر شاعرًا فنزل يحدو بالقوم يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع قال: يرحمه الله» وفي الصحيح حديث أنجشة الذي كان يحدو بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير»([9]).
فمن الذي حرم الحداء حتى يحتجوا عليه بفعله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأما قولكم: إن الغناء إن لم يكنه فهما رضيعا لبان. وهما في بابها أخوان- فمِن أبطل الباطل، وهو من جنس استدلالكم على حل الغناء والسماع بسماع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر واستنشاده له، وهل هذا إلا من أفسد القياس وأبطله، وإذا كان الأمر كما تقولون فلمَ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحداء والشعر، ولم ينقل -والعياذ بالله- عن أحد منهم قط استماع الغناء وحضوره وإقامته... فقياس الغناء على الحداء من جنس قياس الربا على البيع([10]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما الحداء فقد ذكر الاتفاق قياس الربا على البيع([11]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما الحداء فقد ذكر الاتفاق على جوازه فلا يحتج به في موارده([12]).
وقال ابن حجر الهيثمي: قال جمع من الشافعية والمالكية منهم الأذرعي في توسطه والقرطبي في شرح مسلم: الغناء إنشادًا واستماعًا على قسمين:

* ما اعتاد الناس استعماله لمحاولة عمل وحمل ثقيل وقطع مفاوز سفر؛ ترويحًا للنفوس وتنشيطًا لها كحداء الأعراب بإبلهم وغناء النساء لتسكين صغارهن ولعب الجواري بلعبهن، فهذا إذا سلم المغنى به من فحش وذكر محرم كوصف الخمور والقينات- لا شك في جوازه ولا يختلف فيه ... ومن ثم ارتجز النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء المسجد وحفر الخندق كما هو مشهور، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم نساء الأنصار أن يقلن في عرس لهن: أتيناكم أتيناكم ... ويؤيد ما نقله من نفي الخلاف في هذا القسم أن ابن عبد البر وغيره قالوا: لا خلاف في إباحة الحداء واستماعه وهو ما يقال خلف نحو الإبل من الشعر سوى الرجز وغيره لينشطها على السير
ثالثًا: في مسند الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «أهديتم الجارية إلى بيتها؟ قالت: نعم،
قال: فهلا بعثتم معها من يغنيهم يقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم، فإن الأنصار قوم فيهم غزل»([1]) فهذا ندب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغناء.


الجواب: قال ابن القيم: هذا الحديث أولاً ضعفه الإمام أحمد ولم يصححه، ثم لو صح فهو ترخيص في الغناء العارض وهو في الأعراس للنساء بغناء الأعراب وأين ذلك من هذا السماع أو الغناء المعتاد، فبينه وبين غناء الأعراب المرخص فيه كما بين المسكر والشراب الحلال وكما بين الميتة والمذكاة. وأيضًا فإن غاية ما فيه قول الشعر أتيناكم أتيناكم، ومَن حرم مثل هذا وإن سمي غناء؟ ثم لو ثبت أنه غناء لم يلزم منه الرخصة للرجال ولا في عموم الأحوال([2]).


وقال ابن رجب: وعلى ذلك أيضًا حمل العلماء قول من رخص في الغناء من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم وقالوا: إنما أرادوا الأشعار التي لا تتضمن ما يهيج الطباع إلى الهوى وقريب من ذلك الحداء وليس في شيء من ذلك ما يحرك النفوس إلى شهوتها المحرمة([3]).


قلت: هذا الحديث يدل على جواز الغناء في الأعراس بما لا يثير الغرائز ويهيج الشهوات كما يجوز ضرب الدف قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف»([4]).


وقال الإمام أحمد: أرجو أن لا يكون بالدف بأس في العرس ونحوه([5]).


قلت: لكن هذه الأحاديث تدل على أن جواز الغناء والضرب بالدف خاص في الأعراس ونحوها لا تصلح دليلاً على جواز الغناء مطلقًا.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الرخصة في الغناء في أوقات الأفراح للنساء والصبيان أمرٌ مضت به السنة كما يرخص لهم في غير ذلك من اللعب، ولكن لا يجعل الخاص عامًّا([6]).


وقال أيضًا: وهذه نفوس النساء والصبيان فهن اللواتي كن يغنين في ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ويضربن بالدف، وأما الرجال فلم يكن ذلك فيهم، بل كان السلف يسمون الرجل المغني مخنثًا؛ لتشبيهه بالنساء([7]).


وقال الألباني: إن الذين كانوا يضربون بالدف إنما هم النساء لا الرجال، وبمناسبة الزفاف ... أو بمناسبة العيد ... ولهذا قال الحليمي -وهو من كبار علماء الشافعية-: «وضرب الدف لا يحل إلا للنساء؛ لأنه الأصل من أعمالهن، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء([8])».


قلت: وبهذا يتبين أن هذا الحديث ليس حجة على جواز الغناء مطلقًا، وإنما يدل على جوازه في الأعراس وبمثل هذه الكلمات البريئة.


رابعًا: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن أمة سوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد رجع من بعض مغازيه- فقالت: إني كنت نذرت إن ردك الله صالحًا -وفي رواية: سالمًا- أن أضرب عندك بالدف (وأتغنى) قال: «إن كنتِ فعلتِ -وفي رواية نذرتِ- فافعلي، وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي»([9]).


الجواب: قال ابن القيم: احتمل صلى الله عليه وسلم ضرب المرأة التي نذرت إن نجاه الله أن تضرب على رأسه بالدف لما في إعطائها ذلك الحظ من فرحها به وسرورها بمقدمه وسلامته التي هو زيادة في إيمانها ومحبتها لله ورسوله وانبساط نفسها وانقيادها لما تؤمر به من الخير العظيم الذي ضرب الدف فيه كقطرة سقطت في بحر([10]).


وقال الخطابي: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب التي من نوافل الطاعات، ولهذا أبيح ضرب الدف([11]).


ويرى الألباني أن هذه حادثة عين لا عموم لها فقال: والذي يبدو لي في ذلك أن نذرها لما كان فرحًا منها بقدومه عليه السلام صالحًا سالمًا منتصرًا- اغتفر لها السبب الذي نذرته لإظهار فرحها خصوصية له صلى الله عليه وسلم دون الناس جميعًا، فلا يؤخذ منه جواز الدف في الأفراح كلها؛ لأنه ليس هناك من يفرح به كالفرح به صلى الله عليه وسلم ولمنافاة ذلك لعموم الأدلة المحرمة للمعازف والدفوف وغيرها إلا ما استثني([12]).


قلت: وما ورد في استعمال الدف سواء قيل: إنه في كل حادثة سرور أو قيل: إن هذه حالة عين لا عموم لها- لا يدل على جواز استعمال آلات اللهو والمعازف؛ لأن الأدلة الصحيحة الصريحة على تحريمها، فلا يعدل عن هذا الحكم إلا بدليل صحيح صريح.


خامسًا: عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع؟ فأقول: نعم فيمضي حتى قلت: لا فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا([13]).


قالوا: فلو كان حرامًا ما أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه، ولكنه عليه السلام كره لنفسه كل شيء ليس من التقرب إلى الله ... فلو كان ذلك حرامًا لما اقتصر النبي عليه السلام أن يسد أذنيه عنه دون أن يأمر بتركه وينهى عنه.


الجواب: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا الحديث إن كان ثابتًا فلا حجة فيه على إباحة الشبابة بل هو على النهي عنها أولى من وجوه:


أحدها: أن المحرم هو الاستماع لا السماع فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه بل كان مجتازًا بطريق فسمع ذلك- لم يأثم باتفاق المسلمين ... فلو كان الرجل مارًّا فسمع القرآن من غير أن يستمع إليه لم يؤجر على ذلك وإنما يؤجر على الاستماع الذي يقصد كما قال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فإذا عرف أن الأمر والنهي والوعد والوعيد يتعلق بالاستماع لا بالسماع فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مارًّا مجتازًا لم يكن مستمعًا، وكذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما مع النبي صلى الله عليه وسلم ونافع مع ابن عمر سامعًا لا مستمعًا فلم يكن عليه سد أذنيه.


الوجه الثاني: أنه إنما سد النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه مبالغة في التحفظ حتى لا يسمع أصلاً، فتبين بذلك أن الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع وإن لم يكن في السماع إثمًا ولو كان الصوت مباحًا لما كان يسد أذنيه عن سماع المباح بل سد أذنيه لئلا يسمعه وإن لم يكن السماع محرمًا دل على أن الامتناع من الاستماع أولى فيكون على المنع من الاستماع أدل منه على الأذن فيه([14]).


وقال ابن عبد الهادي: وهذا لا يدل على إباحة؛ لأن المحظور هو قصد الاستماع لا مجرد إدراك الصوت؛ لأنه لا يدخل تحت تكليف فهو كشم مُحرِم طِيبًا فإنما يحرم عليه قصده لا ما جاءت به ريح لشمه.


وكنظرة فجأة بخلاف تتبع نظرة فمحرم، وتقريره الراعي لا يدل على إباحة؛ لأنها قضية عين فلعله سمعه بلا رؤية أو بعيدًا منه على رأس جبل أو مكان لا يمكن الوصول إليه أو لعل الراعي لم يكن مكلفًا فلم يتعين الإنكار عليه([15]).


وقال الخطابي: المزمار الذي سمعه ابن عمر هو صفارة الرعاة وقد جاء ذلك مذكورًا في هذا الحديث من غير هذه الرواية وهذا وإن كان مكروهًا فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون ولو كان كذلك لأشبه أن لا يقتصر في ذلك على سد السامع فقط دون أن يبلغ فيه النكير مبلغ الردع والتنكيل([16]).


وقال ابن القيم: هذا الحديث هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب من أن يكون حجة لكم من سماع ما حرمه الله ورسوله فإن سد النبي صلى الله عليه وسلم لأذنيه من أبين الأدلة على أن هذا الصوت منكر وهو من الأصوات التي ينبغي سد الأذن عند سماعها لأنها مما يبغضه الله ورسوله وسد الأذنين عند هذا الصوت نظير غض بصره عند رؤيته المحرمات، وأما كونه لم يأمر نافعًا بسد أذنيه عنده فلأن المحرم إنما هو الاستماع والإصغاء لا السماع من غير إصغاء واستماع فلا يجب على الإنسان سد أذنيه عند سماع الأصوات المحرمة وإنما الذي يحرم قصد استماعها والإصغاء إليها ...


ثم ذكر رحمه الله أمثلة على الفرق بين قصد الفعل وحصوله بدون قصد فقال: فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع فاستحبوه للمستمع ومنهم من أوجبه عليه بخلاف السامع ... وكذلك شم الطيب بالنسبة للمحرم فإنه يحرم عليه قصد شمه واستنشاقه ولكن لو حملته الريح وألقته في خياشيمه فلا يجب عليه سد أنفه وكذلك اللمس إنما المحرم منه قصد مس بشرته بشرة المحرم فلو وقعت بشرته على بشرة المحرم من غير قصد لزحمة أو غيرها لم يكن ذلك حرامًا([17]).


وقال ابن رجب: وإنما لم يأمر ابن عمر بسد أذنه لأنه لم يكن مستمعًا بل سامعًا والسامع من غير استماع لا يوصف فعله بالتحريم؛ لأنه من غير قصد منه وإن كان الأولى له سد أذنيه حتى لا يسمع ومعلوم أن زمارة الراعي لا تهيج الطباع للهو فكيف حال ما يهيج الطباع ويغيرها ويدعوها إلى المعاصي([18]). اهـ.
وهناك أجوبة أخرى تركتها خشية الإطالة ...