ما الصلاة؟ ولماذا هي من الفرائض والواجبات الأولية والملحة؟




درج على ألسنة البعض من الناس تساؤل وجيه ألا وهو:


ما الصلاة؟ ولماذا هي من الفرائض والواجبات الأولية والملحة؟


تلك الصلاة بما فيها من قيام وقعود وأقوال وحركات وفرائض وسنن، وما سرِّها وما حقيقتها وفائدتها؟


ويقول البعض: أفلا يكفي المرء أن يكون طيب القلب ذو أعمال حسنة، فلا يكذب ولا يغش ولا يمكر ولا يعتدي على أحد... فيحبه الناس كما هو يحبهم؟! أليس هذا هو الأساس؟!


فما الرأي جزيتم خيراً؟


جواب القضية:


لا يمكن لذي لبٍّ أن يعتبر دعوة الدول الراقية لأبنائها أنْ تعالوا صبيحة كل يوم إلى هذا البناء، بناء أية مدرسة أنشأتها، عودوا بالواجبات، تقيدوا بما يكلِّفكم به أساتذتكم ومعلموكم من أوامر ونواهي، مجرد أمر قسري لا معنى له ولا مردود يُرتجى منه، ولا مفهوم.. ولا.. ولا..


ذلك مثل من لا يفهمون الحكمة العليّة من أوامر الله القدسية فيظنونها مجرَّد أمر تعبدي (روتيني) لا معنى ولا مردود.


إن المدارس في الدول الراقية ما قامت بذلك إلاَّ لتمحو الجهل وتغذِّي طلابها بالعلم محلَّه، إذ تعلمهم من السلوكيات العامة أصولها ومن الآداب والأخلاق ركائزها.


إنها تخلِّقهم لتسمو بهم لقمم ما يصبو إليه كل مجتمع راقٍ يترفع عن مستويات الجهل والانحاط الخلقي والسلوكي، وما من أب عاقل بصير إلاَّ ويفرض على أبنائه الالتزام بتلك المدرسة والتقيد بأوامرها والامتثال بالطاعة لمعلميها ليرقى ابنه لأرفع المستويات وليعلو قدره مستقبلاً، وذلك خير من مجرد الهناء في البيت، بيت الحرية والدلال والرفاهية.


وإنْ أبقاه في هذه الحرية فقد رضي له بذلك الجهل والعمى..


وذلك مثل الصلاة: ثاني المدارس العليا للتقوى في حقيقتها. فهي هدى وعلم وطهارة، كنهر بباب أحدكم يغتسل منه خمساً، فهي سعادة ونور، بها السمو كله وبها الإنسانية الحقيقية بأجمعها.


فالصلاة في حقيقتها وسرها العجيب هي للمؤمن صلة نفسه بربِّها وارتباطها الوثيق بنور خالقها المتوارد عليها بواسطة الشفيع صلى الله عليه وسلم، بارتباطها النفسي به رابطة التقدير والحب والتعظيم، حيث تسري لنفس المؤمن المصلِّي الحياة القلبية من الحي جلَّ كرمه وتعاظم عطاؤه.


فحياة الجسد بالغذاء والشرب والهواء، بينما حياة النفس بالصلاة التي ترفدها بالحياة القلبية من الله، ففيها الغذاء والنماء لقلب المؤمن.


فنحن نتمتع بصِلَتِنا بالفاخر من الطعام اللذيذ، ونغذي أعيننا بروائع مناظر الطبيعة والورود والأزهار الفاتنة البهيجة مع استنشاق عبير روائحها الشذية والمترعة بالألوان الجذَّابة التي تأخذ بمجامع القلوب، والمياه الدفاقة الرقراقة والنسيم العليل في المنتزهات الاصطيافية.


كما نشعر بالحياة اللذيذة الطيبة بضمِّ أطفالنا، أو من نحب إلى صدورنا بقبلات المحبة الودية الصافية. وكل ذلك بأجمعه أثر من آثار خالق الجمال ومبدع كل روعة وجلال..


فكيف إذا اتصلت نفس المؤمن الحق بمبدع الجمال وممدِّ الأكوان، فكم يغمرنا بمشاعر ونعيم وأذواق وافتتان وبوارق نورانية تذهب ببصيرتنا إلى ربِّ كل كمال وخير، كم سنقطف من بدائع الحب الصافي العالي الشريف حيث تستغرق نفوسنا ببحور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.


كم من المشاهدات السامية العلية المتفوقة فوق ما تناله العوالم بأسرها من رب الجمال والفضيلة والكمال، وكم ستتشرب نفوسنا من فضائلٍ وكمالات.. وينمسح عنها بالنور الإلهي كل بؤس وتعب وشقاء.


وكم تزول من نفوسنا من أدران ومن صفات الجبن والضعف والشح والخسّة وغيرها مما كانت ستخفِّض من شأننا عند الله وعند الناس، بل كم يسير إلى نفوسنا من علوم ومعارف دونها معارف العالمين.


ذلك غيض من فيوضات الصلاة الحقيقية على كل نفس آمنت من ذاتها واختيارها بربها من ثنايا بدائع آياته الكونية، نتيجة حساب المرء حساب الموت وخشية سوء المنقلب بعده.


نعم بهذه الصلاة الحقيقية تفوَّق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخلائق بأسرها وفتحوا البلاد وقادوا العباد للإنسانية والمحبة والسلام، بل قلبوا الحضارات الكبرى من يونانية وزرادشتية وغيرها إلى الإسلام، فهُجرت الأوثان ورفرفت راياتهم على بلاد الهند والصين بالرحمة التي أفاضوا بها على العباد، والسلوكية الإنسانية السامية التي أدهشوا وأشدهوا بها قلوب الأمم.


فلكلِّ شيء صورة وحقيقة، وصورة الصلاة التي نصلِّيها هي نفسها التي كان يصلِّيها سيد الخلْق صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ومن تابعه من المؤمنين بإحسان.


أما حقيقتها وسرها العظيم كما تقدَّم سابقاً ذكره: فهي غذاء النفوس، بها الصفاء والنقاء والتزوُّد بالكمالات والمكرمات من ربِّ الأرض والسموات الذي فضله المديد أكبر من مكاسب الدنيا وما فيها و (الله أكبر).


الصلاة بعددها الخمس وَجَبَاتٍ ذات الأُكُل الدائم والتجلِّي العلوي الظليل.


الصلاة: هي الكيمياء الحقيقية التي تصنع من الفحم ألماساً ومن النحاس ذهباً، تبدِّل الصفات النفسية المنحطة والدنيئة إلى كمالات وخيرات.


الصلاة معراج المؤمن بها يسمو وبها يعلو.


الصلاة غسل القلوب وشفاؤها ونعيم المؤمن ومكاسبه، وسر الحياة بها.. فبها تسري الحياة للنفوس فتنعشها.


وفي الصلاة عافية الأبدان ووقايتها من كافة الأمراض.





فالصلاة كمال الإنسانية وبهاؤها ولا حياة بلا صلاة، بها تنظف القلوب من خبثها وأدرانها، وبها النعيم كله والشفاء النفسي والجسدي التامَّان الأكملان والقوة والبطولة والشجاعة التي لا تبارى، وبها تتم التضحيات النبيلة السامية وخوارق الأعمال الإنسانية الكبرى، منها النور والحياة والبهجة والسرور والبصيرة الكشَّافة لكل نبل وسمو متسامق متعال متشاهق.


الرقي الإنساني لا يُنال إلا بالصلاة، فيها الحياة كلها والنجاح والفلاح وتارك الصلاة لا خير فيه. يترعرع بقبيح الآفات والصفات فلا خير إلاَّ من معدن الجود والإحسان (الله).. فمن ترك الصلة بالله أين يجد خيراً؟!


فالمحروم كل المحروم من حُرِمَ الصلة بالله، والخاسر من ترك الصلاة وما تشرَّفت نفسه في يوم من الأيام بالوقوف بين يدي الله والإقبال عليه تعالى بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


إنه المسكين يلهو بالدنيا وأكدارها، وينغمس في رذائلها ودنيء شهواتها، ويحرم نفسه من نفائس الإقبال والتمتُّع بشهود أسماء ذي الجلال والإكرام، فهو ينصرف إلى المخلوق ويدع الخالق، إنه يتمسك بالأكدار ويدع الجواهر واللآلئ، إنه الأعمى، أعمى القلب، {..فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج (46).


إنه ميت {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ..} سورة فاطر (19-22).


فيا خسارة إنسان لَحِقَ الدنيا وترك منابع السعادة وموارد الإيمان.


وطوبى للمصلِّين المتصلين بذي الجلال والبهاء والإكرام بواسطة قدسية روحانية نفس المصطفى وكفى.