بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة

إن الحمد لله ونحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن حاجة الناس إلى معرفة حقيقة الصلاة, ومعرفة فوائدها وأسرارها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الصلاة هدية الله للمؤمنين, ولذة نفوس الخاشعين, وبستان العابدين, يجنون من ثمارها السعادة الأبدية ويتحصنون بها من الشرور والآفات الدنيوية.لهذا أحببت أن أبين جملة من فوائد الصلاة وثمراتها, وحكمها, وأسرارها ومقاصدها, ومن خلال ما ورد في بعض الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية, وما فهمه واستنبطه العلماء الراسخون الذين جمعوا بين العلم, والفهم, والعمل, واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقاموا بأداء الصلاة بصدق وإيمان, كما تدارسوا علومها بدقة وإمعان.


الصلاة صلة حقيقية , ومدرسة خلقية


إن الصلاة الخاشعة الخاضعة عبارة عن صلة فريدة وعلاقة حقيقية تقوم بين العبد وربه, يقف العبد فيها بين يدي ربه مكبرا معظما له, يتلو كتابه ويسبحه ويمجده, ويسأله ما شاء من حوائجه الدينية والدنيوية, فهي صلة ومظهر علاقة حقيقية بين الخالق والمخلوق, فالصلاة استجابة لغريزة الافتقار والضعف والدعاء, وغريزة الالتجاء والاعتصام والمناجاة, والاطراح على عتبة القوي الغني الكريم الرحيم السميع المجيب([1]).
وقد شرع افتتاح الصلاة بالتكبير, وهو لفظ «الله أكبر» تلك الكلمة البليغة الواضحة, المجلجلة المدوية, القاطعة الفاصلة, التي يخشع أمامها الجبابرة, ويهوي لها كل صنم, فهي شهادة بعظمة الله وكبريائه, وتحطيم للطواغيت والمتجبرين والأدعياء الذين يعتدون على ألوهية الله سبحانه وتعالى, ويريدون أن يغتصبوا سلطانه, فالعبد إذا قال: «الله أكبر» كان الله أكبر عنده من كل شيء([2]).
ثم يقرأ المصلي سورة الفاتحة, وفي شأنها قال رسول الله صل الله عليه وسلم , قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين, ولعبدي ما سأل, فإذا قال العبد:
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي, وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي, وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}قال: مجدني عبدي, وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي, ولعبدي ما سأل, فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل([3])».فهذا الحديث دليل على أن الله تعالى يستمع لقراءة المصلي حيث كان مناجيا له, ويرد عليه جواب ما يناجيه به كلمة كلمة([4]) والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه, والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار.([5]).
وفي أول آية يقرؤها المصلي وهي:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}يقرر فيها المصلي أن الرب الذي يعبده ويصلي له ليس هو رب أسرة أو قبيلة أو شعب أو بلد, وإنما هو رب العالمين, وبهذا يعلن المصلي وحدتين, وهما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام, وعليهما قام الإسلام في كل زمان ومكان وهما: وحدة الربوبية, والوحدة البشرية, فالرب سبحانه واحد, والناس سواسية, من غير فرق بين بلد وبلد, أو لون ولون([6]).
ثم يقرأ المصلي بعد الفاتحة ما تيسر له من القرآن الكريم.
ثم يتدرج المصلي في الخضوع والانحناء, فيفتتح أفعال الصلاة بالقيام, ويثني بالركوع ويثلث بالسجود, فلا يخر من ركوع, بل يقف وقفة خفيفة, ثم ينحني للسجود, ليكون ذلك أبلغ في الخشوع وأوقع في النفس, ويتدرج كذلك في التعظيم والتمجيد, فيقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم», ويقول في سجوده: «سبحان ربي الأعلى», ثم يضع أشرف أعضائه على أذل شيء في الوجود: الأرض التي هي موطئ الأقدام, فيجتمع للمصلي خضوع القلب, والجوارح, فيسجد بقلبه لله كما يسجد له بوجهه([7]) .
قيل لسهل بن عبد الله التستري: أيسجد القلب؟ قال : إي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عز وجل([8]). وهذه إشارة إلى إخبات القلب وذله وتواضعه وخضوعه وحضوره مع الله أينما كان العبد وكيف ما كان([9]).
فالصلاة هي العبادة الوحيدة التي يشترك في تأديتها جميع أعضاء الإنسان؛ لأن الصلاة الخاشعة الخاضعة التي أمر الله تعالى بها ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان, أو حركات رياضية تؤديها الجوارح بلا تدبر, وليست نظاما عسكريا, لا إرادة فيه, ولا خيار, وإنما هي عمل يشترك فيه الجسم والعقل والقلب, ولكل منها نصيب غير منقوص, وكل فيها ممثل تمثيلًا حكيمًا عادلًا, فللجسم: قيام وركوع وسجود وانتصاب وانحتاء, وللسان: تلاوة وتكبير وتسبيح, وللعقل: تفكير وتدبر وتفهم وتفقه, وللقلب: خشوع وخضوع ورقة وتلذذ([10]).
والصلاة مركبة من خمسة أفعال: القراءة, والذكر, والقيام, والركوع, والسجود, ولكل فعا من هذه الأفعال سر وتأثير وعبودية ولا تحصل في غيره, فإذا ذاق المصلي طعم الصلاة علم أنه لايقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما, كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها([11]).
وكما أن المصلي يبدأ صلاته بداية عظيمة يدخل بها في حرمة الصلاة, فإنه يختمها خاتمة جميلة يخرج بها من الصلاة, فلا يقوم المصلي من صلاته مسرعا كأنه خرج من سجن, أو فرغ من غم, وإنما يختمها بخاتمة جميلة , مباركة طيبة, فيقول: « السلام عليكم ورحمة الله», يلتفت بها عن يمينه وعن شماله, يسلم على المصلين من المسلمين, وعلى الملائكة الشاهدين, شأنه شأن العائد من سفر, أو الحاضر من غيبة؛ لأنه لما أحرم بالصلاة أقبل على الله تعالى بكليته: بقلبه, وجوارحه, فانقطعت صلته بكل ما يحيط به([12]).


الصلاة مدرسة خلقية:
إن الصلاة مع كونها صلة بين العبد, وربه يجني منها العبد كل خير, فهي مدرسة خلقية لها أعظم التأثير في حث الإنسان على الالتزام بالأخلاق الحميدة, وصرفه عن الأخلاق الرذيلة؛ لأنها تصرف صاحبها من حال إلى حال, ومن ذوق إلى ذوق, ومن سفساف الأمور إلى معاليها, وقد تكلفت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان هذه الحقيقة وإبرازها في أجلى صورها واظهر معانيها.
1- قال الله جل وعلا: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّالصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِأَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}([1]).
فالصلاة تنهى المصلي وتحول بينه وبين إتيان الفواحش والمنكرات, وتحثه على فعل الخيرات.

قال ابن عطية – رحمه الله تعالى -: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعالى والتحقق من الوقوف بين يديه, وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب, صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى, فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر, ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله... فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر([2]).
وقال فخر الدين الرازي – رحمه الله تعالى-: من معاني الآية الكريمة: أن من يكون بعيدًا عن الملك كالسوقي ونحوه لا يبالي بما فعل من الأفعال, يأكل في دكان الهراس والرواس, ويجلس مع أحباش الناس, فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صارا واحدًا من القواد لم تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله, فإذا زادت قربته ارتفعت منزلته حتى صار أميرًا حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان, والجلوس مع أولئك الخلان, كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما, لقول الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}([3]), فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي, فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته, حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلًا عن الكبائر([4]).
2- قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلَّا الْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}([5]).
الهلع جزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع, فهو أشد الحرص واسوأ الجزع وأفحشه, وهلوع للتكثير, فالهلوع البخيل, الحريص, الضجور, الشحيح, الضيق القلب, الشديد الجزع([6]).
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى-: يقول تعالى مخبرا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}, ثم فسره بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}, أي: إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب, وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير, {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}, أي: إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره, ومنع حق الله تعالى فيها([7]).
ثم استثنى الله سبحانه وتعالى المصلين من هذه الأخلاق الذميمة, مما يدل على الأثر البليغ الذي تحدثه الصلاة في نفوس المصلين؛ لأن الصلاة غذاء روحي يعين المصلي على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر, والعطاء عند حصول الخير, والتغلب على جوانب الضعف الإنساني, فقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}, وقد وصف الله المصلين في السورة الكريمة بصفات بدأها بالمداومة على الصلاة,وختمها بالمحافظة على الصلاة, فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات, أي: يواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل, والمحافظة ترجع إلى أحوالها أي: يحافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها([8]).
قال ابن جرير – رحمه الله تعالى -: قوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} أي: إلا الذين يطيعون الله بأداء ما افترض عليهم من الصلاة, وهم على أداء ذلك مقيمون لا يضيعون منها شيئا, فإن أولئك غير داخلين في عداد من خلق هلوعا([9]).
3- قال الله عز وجل: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُآبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَلَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}([10]).
أمر شعيب عليه الصلاة والسلام قومه بالتوحيد, ونهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل, ثم أمرهم كذلك بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف, بل يلزمهم السعي في الإيفاء, ثم نهاهم عن الفساد في الأرض([11]).
وكان شعيب عليه الصلاة والسلام كثير الصلوات, مواظبًا عليها, فلما أمر قومه ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة, وقالوا له على سبيل الإنكار والتهكم: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُآبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}, أي: أصلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان, وأن نترك فعل ما نشاء في أموالنا, فدل ذلك على أنهم أدركوا أن الصلاة تأمر بالجميل والمعروف, وتبعث عليه, وتنهى عن ضده([12]).
قال ابن جرير – رحمه الله تعالى – معناه: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام, أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء من كسر الدراهم وقطعها, وبخس الناس في الكيل والوزن([13]).
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:« إنَّ فلانًا يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق, قال: (إنه سينهاه ما تقول), وفي رواية: (ستمنعه صلاته)»([14]). معناه: أنه ما دام محافظًا على الصلاة, فإن صلاته لا محالة ستنهاه فيتوب عن السرقة قريبًا؛ لأن الصلاة تذكر بالله وتورث النفس خشيته, فبمزوالتها والاستمرار على أدائها سيجد منها حالة في قلبه تمنعه عن ارتكاب الإثم([15]).
قال الطحاوي – رحمه الله تعالى -: فتأملنا هذا الحديث فوجدنا أن الله سبحانه قد قال في كتابه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}, أي: أنها تنهى عن أضدادها إذا كان أهلها يأتونها على الأحوال التي أمروا أن يأتوا بها عليها, من الطهارة لها, ومن ستر العورة عندها, ومن الخشوع لها, وتوفيتها ما يجب أن توفاه,... وفي ذلك ما يدل على أنه عز وجل بمنه ولطفه وسعة رحمته يبرئ ذلك السارق مما كان سرق, ويرده إلى أهله حتى يلقاه يوم يلقاه, لا تبعة عليه تمنعه من دخول جنته([16]).
فهذه النصوص صحيحة وصريحة في أن الصلاة مدرسة خلقية, تأمر المصلين بالمعروف, وتحثهم على الطاعات والتخلق بمكارم الأخلاق, وتنهاهم عن المنكر, وتصرفهم عن المعاصي, والأخلاق الدنيئة, فهي آمرة ناهية لمن يؤديها على الصفة التي أمر الله تعالى بها.
الصلاة قرة عيون المحبين, وسعادة الخاشعين


إنَّ الصلاة هي قرة عيون المحبيبن كم أخبر بذلك إمام المصلين وخاتم المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حُبِّب إليَّ الطِّيب, والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة»([1]). وقرة العين كناية عن الفرح والسرور, فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه شيئان: الطيب, والنساء, ثم قال وجعلت قرة عيني في الصلاة, وقرة العين فوق المحبة, فإنه ليس كل محبوب تقر به العين, وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته, فخض الصلاة بهذا الوصف لكونها محل المناجاة له والإقبال عليه, فإذا كانت ثمرة الصوم تطهير النفس, وثمرة الزكاة تطهير المال, وثمرة الحج حصول المغفرة, فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله, وإقبال الله سبحانه وتعالى على العبد؛ لذا كانت محبوبة لذاتها, ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه, وبه تطيب حياته([2]).
ولا شك أن هذا الحديث مما يحرك نشاط الراغبين في الخير إلى الاستكثار من الصلاة, وأن تكون قرة أعينهم في الصلاة, كما كانت قرة عينه صلى الله عليه وسلم في الصلاة, وهذه الصلاة التي كانت فيها قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم تتناول الفرائض والنوافل([3]).
فالسعادة والراحة بالطاعة هي حال المحبين الصادقين, فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضا, فيها قرة عيونهم, وسرور قلوبهم, ولذة أرواحهم([4]).
فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم, ولذة قلوبهم, وبهجة نفوسهم, يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة, فلهم فيها شان, وللنقارين شأن آخر, فسبحان من فاضل بين النفوس, وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم([5]).
الصلاة سعادة الخاشعين:
إن الصلاة هي بستان العابدين, وسعادة الخاشعين, وراحة نفوس العارفين, ولا ينبئك مثل خبير.
فعن سالم بن أبي الجعد, عن رجل من أسلم, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يا بلال, أقم الصلاة, أرحنا بها»([6]).
معناه: أرحنا بالدخول فيها, فكان اشتغالة صلى الله عليه وسلم بالصلاة راحة له؛ لأنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبا, وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله سبحانه وتعالى([7]).
فالمسلم الخاشع يؤدي الصلاة وقلبه منشرح مطمئن وعيناه قريرتان, يفرح إذا كان متلبسا بها, وينتظرها إذا أقبل وقتها, فإذا صلى الفجر كان في شوق إلى صلاة الظهر, وإذا صلى الظهر كان في شوق إلى صلاة العصر, وإذا صلى العصر كان في شوق إلى صلاة المغرب, وإذا صلى المغرب كان في شوق إلى صلاة العشاء, وإذا صلى العشاء كان في شوق إلى صلاة الفجر, وهكذا قلبه معلق بالصلاة؛ لأنه يجد فيها الراحة والطمأنينة والسكينة.
وقد ورد عن كثير من السلف الصالح أخبار وحكايات تدل على أن الصلاة بالنسبة لهم هي مصدر السعادة والراحة:
1- فقد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير رضي الله عنه أصابه داء الأكلة في رجله, واتفق رأي الأطباء على أنها إذا لم تقطع انتقل الداء إلى جسده كله, فلما أرادوا قطعها, عرضوا عليه أن يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يحس بالألم,ويتمكنوا من قطعها, فقال: ما ظننت أن أحدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل, ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة, فإني لا أحس بذلك, ولا أشعر به, فقطوعها وهو في الصلاة فلم يشعر لشغله بالصلاة([8]).
2- كان أبو يزيد الربيع بن خيثم بن عائذ يقول: ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقول لي([1]).
3- قال ميمون بن جابان: «ما رأيت مسلم بن يسار, ملتفتا في صلاة قط خفيفة, ولا طويلة, قال: ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها, وإنه لفي المسجد في الصلاة فما التفت([2]).
قيل لحاتم بن عنوان بن يوسف الأصم كيف تصلي؟ فقال: إذا حان وقت الصلاة أسبغت الوضوء, ثم آتي موضع الصلاة بسكينة ووقار, أتمثل الكعبة بين حاجبي, والصراط تحت قدمي, والجنة عن يميني,والنار عن شمالي, وملك الموت فوق رأسي, وعين الله ناظرة إلي, وأكون بين الرجاء والخوف, أكبر تكبيرًا بتحقيق, وأقرأ قراءة بترتيل, وأركع ركوعا بخضوع, وأسجد سجودا بتذلل, وأتبعها الإخلاص ما استطعت, وأسلم, ثم لا أدري أيقبلها الله مني أم يردها علي([3]).

ولك أن تتخيل معي أخر الكريم هذه المشاهد الرائعة من حياة سلفنا الصالح وكيف كانت عنايتهم بالصلاة, وكيف كان اهتمامهم بها, فهذا البحر الذي لا تكدره الدلاء, ابن حواري رسول الله صل الله عليه وسلم , وأحد فقهاء المدينة السبعة: عروة بن الزبير- رحمه الله تعالى – تنشر ساقه بالمنشار وهو قائم يصلي, فما تضور وجه, ولا اختلج له عضو, وهذا تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي كان إذا نظر إليه يقول: وبشر المخبتين, أما والله يا ربيع بن خيثم لو رآك محمد صل الله عليه وسلم لفرح بك, كان إذا دخل في الصلاة لا يهتم بغير ما يخاطب به ربه, وهذا الزاهد الورع مسلم بن يسار – رحمه الله تعالى – يسقط جانب من مسجد البصرة فيصاب الناس بالفزع وهو في ناحية من المسجد يصلي لم يشعر بشيء حتى فرغ من صلاته, وهذا الزاهد, القدوة, الرباني حاتم الأصم – رحمه الله تعالى – يصف حاله مع الصلاة بعبارات قي منتهى الروعة والجمال, وكأنه بذلك يرسم لوحة فنية في قلوب الخاشعين, ويستنهضض همم العابدين, ويثير حماسة المصلين, فأقوال هؤلاء وأفعالهم تعبر عن شيء واحد هو أن الصلاة هي راحة أبدانهم, وسعادتهم التي لا تدانيها سعادة في الدنيا.
فهؤلاء في جنة معجلة قبل جنة الآخرة, كما قال بعض العارفين: إنه ليمر بالقلب أوقات, أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا, إنهم لفي عيش طيب, وقال آخر: مساكبن أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها, قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله, والأنس به, والشوق إلى لقائه, والإقبال عليه, والإعراض عما سواه, وقال بعض من ذاق هذه السعادة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف([4]).
الصلاة ملجأ المؤمنين, وأمان الخائفين


إن الصلاة هي حصن المسلم وملجؤه الذي يأوي إليه, والعروة الوثقى التي يعتصم بها, والحبل الممدود بينه وبين ربه الذي يتعلق به, وهي غذاء الروح, وبلسم الجروح, ودواء النفوس, وإغاثة الملهوف, وأمان الخائف, وقوة الضعي, وسلاح الأعزال([1]).


لهذا كان رسول الله صل الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.


فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان النبي صل الله عليه وسلم «إذا حزبه أمر صلى»([2]).
(حزبه) بالباء, أي: نزل به أمر مهم, أو أصابه هم أو غم , وروي بالنون من الحزن, أي: نزل به أمر أوقعه في الحزن, (صلى), أي: بادر إلى الصلاة تسهيلا للأمر الذي نزل به, وامتثالا لقول الله تعالى: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}([3]) , أي: بالصبر على أنواع البلايا, وبالالتجاء إلى الصلاة, فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر([4]).
قال الله سبحانه وتعالى : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْرَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}([5]) .
يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون}, أي: بما تسمعه من تكذبيهم إياك ورد قولك, وما تناله, ويناله أصحابك من أعدائك؛ لأن الجبلة البشرية تقتضي ضيق الصدر عند سماع الأذية, ثم بين سبحانه وتعالى العلاج الناجع لذلك الضيق, فقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}, أي: فافزع فيما نابك من أمر تكرهه منهم إلى شكر الله والثناء عليه والصلاة, يكفك الله من ذلك ما أهمك, وقوله: {وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}, أي: من المصلين, فذكر من الصلاة حالة القرب من الله تعالى وهي السجود, وهي أكرم حالات الصلاة, وأقمنها بنيل الرحمة([6]).
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفزع من الشدائد والهموم إلى الصلاة كان السلف الصالح من الصحابة, ومن تبعهم بإحسان يسلكون هذا المنهج, ويسيرون عليه, كلما حزبهم أمر أو نزلت بهم مصيبة بادروا إلى الصلاة, من ذلك الأمثلة التالية:
1- روي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر, فاسترجع ثم تنحى عن الطريق, فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس, ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}([7]) .
2- عن أنس بن مالكرضي الله عنه قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار, يكنى أبا معلق, وكان يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق, وكان ناسكا ورعا, فخرج مرة فلقيه لص مقنع بالسلاح فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك, قال: ما تريد إلا دمي؟ شأنك بالمال, أي: خذ مالي ودعني, قال: أما المال فلي, ولست أريد إلا دمك, قال: أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات, قال: صل ما بدا لك, فتوضأ ثم صلى أربع ركعات وكان من دعائه في آخر سجدة أنه قال: يا ودود يا ذا العرش المجيد, يا فعال لما تريد, أسألك بعزك الذي لا يرام, وملكك الذي لا يضام, وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص, يا مغيث أغثني, قال: دعا بها ثلاث مرات, فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة واضعها بين أذني فرسه, لما أبصر به اللص أقبل نحوع فطعنه فقتله, ثم أقبل إليه فقال: قم, قال: من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله تعالى بك اليوم؟ قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة, دعوت الله بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة, ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجيجا, ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل: دعاء مكربو, فسألت الله عز وجل أن يوليني قاله, قال أنس: فاعلم أنه من توضأ وصلى أربعة ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبًا كان ام غير مكروب([8]).
3- قال أحمد بن مروان الدينوري: كان الفقيه العابد شيخ المالكية في زمانه أحمد بن المعذل – رحمه الله تعالى – إذا حزبه أمر قام في الليل يصلي ويأمر أهله بالصلاة, ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}([9]). ثم ينشد:
أشكو إليك حوادثًا أنزلتها


فتركنني متواصل الأحزان

من لي سواك يكون عند شدائدي


إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني

لولا رجاؤك والذي عودتني


من حسن صنعك لاستطير جناني([10])
الصلاة مفتاح هداية لغير المسلمين

إن مشهد الصلاة وما يتضمنه من خضوع وتذلل وقراءة لكتاب الله المعجز يشكل مصدر هداية لغير المسلمين, فمنهم من يسلم لأول وهلة عند رؤيته لذلك المشهد, وقد ورد في ذلك الكثير من القصص والحكايات, أذكر أمثلة منها:
1- قصة إسلام جبير بن مطعم:
كان جبير بن مطعم بن عدي رضي الله عنه من سادة قريش, فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر في فداء الأسارى من قومه, وكان إذ ذاك مشركا, فوافقه صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة المغرب, قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور, فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ }([1]) , كاد قلبي أن يطير»([2]).
فتأمل معي أخي الكريم هذا المشهد الرائع الذي كان من جملة ما حمل جبير بن مطعم على الدخول في الإسلام, فهو حين دخل المسجد النبوي الشريف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بسروة الطور, وكان جبير موصوفًا بالحلم, ونبل الرأي, والفصاحة, فأثرت تلك الآيات فيه تأثيرا بليغا, لهذا قال : كاد قلبي أن يطير, وفي رواية: فكأنما تصدع قلبي حين سمعته, وقال أيضًا: وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي([3]). وقيل: إنه أسلم في الحال([4]).