كانتِ الإنْسَانية حتى العصر الحديث لا ترى أنَّ للحيوان نصيبًا منَ الرِّفق، أو حظًّا منَ الرحمة، ولا تزال بعض الأمم المعاصِرة تَتَلَهَّى بقتْل الحيوان في أعيادها ومجال أفراحها ورياضتها، وهنا تبرُز حضارتنا في مبادئها وواقعها بِثَوْبٍ منَ الرَّحمة والشعور الإنْسَاني المرهَف لم تلبسه حَضَارَة مِن قبلها، ولا أمة مِن بعدها حتى اليوم، ذلك هو الرِّفْق بالحيوان والرَّحمة به، رحمة تلفتُ النظر، وتدعو إلى العَجَب والدَّهشة، وإليكم بعضَ الأحاديث عَنْ هذا.


أول ما تعلنه مبادئ حَضَارتنا في مجال الرِّفق بالحيوان، أن تقرِّرَ أن عالَم الحيوان كعالَم الإنْسَان، له خصائصه وطبائعُه وشعوره؛ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، فله حقُّ الرِّفق والرَّحمة كحقِّ الإنْسَان: "الراحمون يرحمهم الرَّحمن"، و "من أُعطِي الرِّفق فقد أعطي حظه من خير الدُّنيا والآخرة"؛ بل إن الرحمة بالحيوان قد تُدخِل صاحبها الجنة؛ "بينما رجل يمشي بطريق إذِ اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى منَ العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب منَ العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئرَ فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفِيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله تعالى له، فغَفَرَ له"، قالوا: يا رسول الله: وإنَّ لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: "في كل ذات كبدٍ رطبة".


كما أن القسوة على الحيوان تُدخِل النار: "دخلتِ امرأةٌ النارَ في هرَّة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل مِن خشاش الأرض".


وتمضي الشريعة في تشريع الرحمة بالحيوان:
- فتُحَرِّم المكْث طويلاً على ظهره وهو واقف؛ فقد قال عليه الصَّلاة والسلام: "لا تَتَّخِذوا ظهور دوابكم كراسي".


- وتحرم إجاعته وتعريضه للضَّعف والهُزَال؛ فقد مرَّ عليه السلام بِبَعِيرٍ قد لصق ظهره ببطنه، فقال: "اتَّقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة".


- كما تحرم إرهاقه بالعمل فوق ما يَتَحَمَّل؛ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بستانًا لرجلٍ منَ الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح دموعه، ثم قال: "مَن صاحِب هذا الجمل؟"، فقال صاحبه: أنا يا رسول الله، فقال له عليه الصَّلاة والسلام: "أفلا تَتَّقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها، فإنَّه شكا إليَّ أنك تجيعه وتُدْئِبُه"، أي: تُتْعِبُه بكثـرة استعماله.


- كما يحرم التَّلَهِّي به في الصيد؛ "مَن قتل عصفـورًا عبثًا، عَجَّ إلى الله يوم القيامة، يقول: يا ربِّ، إنَّ فلانًا قَتَلَني عبثًا، ولم يقتلني منفعة".


- واتخاذه هدفًا لتعليم الإصابة؛ فقد لَعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنِ اتَّخَذ شيئًا فيه الرُّوح غرضًا أي: هدفًا.


- وتنهى عنِ التَّحريش بين الحيوانات ووسمها في وجوهها بالكَي والنار، أي: كيِّها لتعلم من بين الحيوانات الأخرى؛ فقد مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على حمار قد وُسِم في وجهه، فقال: "لَعَنَ الله الذي وسمه".


أمَّا إذا كان الحيوان مما يُؤْكل، فإنَّ الرحمة به أن تُحدَّ الشَّفرة، ويُسقَى الماء، ويُراحَ بعد الذبح قبل السلخ "إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شَفْرته، وليُرِح ذبيحته".


بل إنَّ إضجاع الحيوان للذبح قبل إحداد الشفرة قسوةٌ لا تجوز؛ أضجع رجل شاة للذبح، وهو يحد شفرته، فقال له عليه السلام: "أتريد أن تميتها موتتان؟! هلاَّ أحددت شفرتك قبل أن تضجعها".


واسمعوا ما أروَع هذه الرَّحمةَ بالحيوان وأبلغ دلالتها على روح حَضَارتنا؛ قال عبدالله بن مسعود: "كنا مع رسول الله في سَفَر، فرأينا حمرةً، أي: طير يشبه العصفور، معها فرخان لها، فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرِّش، أي: ترفرف بجناحيها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال: "مَن أحرق هذه؟"، قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بالنار إلاَّ ربُّ النار".


وعلى ضوء هذه التعاليم يُقَرِّر الفقهاء المسلمون من أحكام الرحمة بالحيوان ما لا يخطر على البال؛ فهم يُقَرِّرون أن النفقة على الحيوان واجبةٌ على مالكه، فإنِ امتنع أُجبِر على بيعه أو الإنفاق عليه، أو تسيِيبه إلى مكانٍ يجِد فيه رزقه ومأمَنه، أو ذبحه إذا كان مما يُؤكَل.


هذه هي مبادئ الرِّفق بالحيوان في حَضَارتنا وتشريعنا، فكيف كان الواقع التطبيقي لها؟
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض سفره، إذْ سَمِع امرأة منَ الأنصار تلعَن ناقةً لها، وهي تركبها، فأنكر ذلك عليها وقال: "خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة"، وأخذت الناقة وتركت تمشي في الناس لا يعرض لها أحدٌ.


مرَّ عمرُ برجل يسحَب شاةً برجلها ليذبحها، فقال له: "ويلك، قُدْها إلى الموت قودًا جميلاً".
وهكذا كان طابَع حَضَارتنا: رفقًا بالحيوان، وعناية به من قبل الدولة والمؤسسات الاجتماعية.


أما عناية الدولة، فليس أدلُّ على ذلك من أن خلفاءها كانوا يُذيعون البلاغات العامة على الشَّعب يُوصونهم فيها بالرِّفق بالحيوان، ومنع الأذى عنه، والإضرار به؛ فقد أذاع عمَر بن عبدالعزيز في إحدى رسائله إلى الولاة أن ينهوا الناس عن ركض الفرس في غير حقٍّ، وكتب إلى صاحب السكك وهي وظيفة تشبه مصلحة السير ألاَّ يسمحوا لأحدٍ بإلجام دابَّته بلجام ثقيل، أو أن ينخسَها بمقرعة في أسفلها حديدة.


وكان مِن وظيفة المحتسِب -وهي وظيفة تشبه في بعض صلاحياتها وظيفةَ الشرطي في عصرنا الحاضر-: أن يمنعَ الناس من تحميل الدوابِّ فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضَرْبها أثناء السَّيْر، فمَن رآه يفعل ذلك أدَّبه وعاقَبه.


وأمَّا المؤسسات الاجتماعية، فقد كان للحيوان منها نصيبٌ كبيرٌ، وحسبنا أن نجدَ في ثبت الأوقاف القديمة أوقافًا خاصَّة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافًا لرَعْي الحيوانات المُسِنَّة العاجِزة.


وهذا كلُّه يدلُّكَ على رُوح الشَّعب الذي بلغ منَ الرِّفق بالحيوان إلى هذا الحدِّ، وهو ما لا تجد له مثيلاً، ولعل أصدق مثالٍ عن رُوح الشَّعب في ظل حَضَارتنا، أن ترى صحابيًّا جليلاً كأبي الدَّرداء يكون له بعيرٌ، فيقول له عند الموت: "يا أيها البعير، لا تخاصمني إلى ربِّك؛ فإنِّي لم أكن أحملك فوق طاقتكَ"، وأن صحابيًّا كعدي بن حاتم كان يفتُّ الخبز للنمل، ويقول: "إنهن جارات لنا، ولهنَّ علينا حقٌّ"، وأن إمامًا كبيرًا كأبي إسحاق الشِّيرازي كان يمشي في طريق ومعه بعض أصحابه، فعرض له كلب فزجره صاحبه، فنَهاه الشيخ، وقال له: "أما علمت أنَّ الطريق مشترك بيننا وبينه؟!".


ولا نستطيع أن نُقَدِّرَ هذه الظاهرة البارزة في حَضَارتنا وموقفها الإنْسَاني الكريم مع الحيوان، إلا إذا عَلِمنا: كيف كان يعامَل الحيوان في العصور القديمة والوُسْطى؟ وكيف كان موقف الأمم منه، من جناياته وتعذيبه؟


وأول ما يلفتُ النظر في ذلك أنك لا تجد في تعاليم تلك الشعوب ما يحمل على الرِّفق بالحيوان، ووجوب الرحمة به، ومِن ثَمَّ فلا تجد له حقوقًا على صاحبه من نفقة ورعاية.


ويلفت النظر بعد ذلك أخذ الحيوان بجنايته إذا جنى أو جنى صاحبه، ومعاملته في المسؤولية كمُعامَلة الإنْسَان العاقل المُفَكِّر، وهذا أغرب ما تضمَّنه تاريخ العصور القديمة والوُسطى حتى القرن التاسع عشر؛ فقد كان الحيوان يحاكَم فيها كما يحاكم الإنْسَان، ويُحْكَم عليه بالسجن والتشريد والموت، كما يحكم على الإنْسَان الجاني تمامًا.


وبعدُ، فهذا هو موقف حَضَارتنا منَ الحيوان، وموقف غيرنا منَ الأمم منه، ومنها يتضح أن حَضَارتنا امتازتْ بأمرين لا مثيل لهما عند الأمم القديمة وبعض الأمم الحديثة اليوم:


أولهما: إقامة مؤسسات اجتماعية للعناية بالحيوان وتطبيبه، وتأمين معيشته عند العجز والمرض والشيخوخة.


ثانيهما: أنَّ حَضَارتنا خلتْ من محاكمة الحيوان؛ لأنها نادتْ برفع المسؤولية الجنائيَّة عنه قبل ثلاثة عشر قرنًا من مناداة الحَضَارة الحديثة بذلك، كما أن حَضَارتنا خلتْ من مظاهر القسوة والتحريش بين الحيوانات، وهي التي كان معترفًا بها رسميًّا لدى اليونان والرومان، ولا تزال معترفًا بها في إسبانيا؛ حيث تُقام الحفلات الكبرى لمصارَعة الثيران، وهي بلا شك وحشيةٌ من بقايا وحشية الغَربيين القدماء وفي العصور الوسطى، وقد تَنَزَّهَتْ عنها حَضَارتنا.


المُؤَسَّسات الخيريَّة:
ليس أدل على رُقيِّ الأمة وجدارتها بالحَيَاة واستحقاقها لقيادة العالَم، مِن سُمُو النَّزعة الإنْسَانية في أفرادها سموًّا يفيض بالخير والبر والرحمة على طبقات المجتمع كافَّة، بل على كلِّ مَن يعيش على الأرض من إنسان وحيوان، وبهذا المقياس تخلد حضارات الأمم، وبآثارها في هذا السبيل يفاضل بين حضارتها ومدنياتها.


وأمتنا بلغتْ في ذلك الذروة التي لم يصلْ إليها شعب مِن قبلها على الإطلاق، ولم تلحقها من بعدها أمة حتى الآن، أما في العصور الماضية، فلم تعرفِ الأمم والحضَارَات ميَّالِينَ للبر إلاَّ في نطاق ضيق، لا يَتَعَدَّى المعابد والمدارس، وأما في العصور الحاضرة فإنَّ أُمَم الغَرب -وإن بلغتِ الذروة في استيفاء الحاجات الاجتماعيَّة عن طريق المؤسَّسات الاجتماعية وعن طريق المؤسَّسات العامَّة- لكنَّها لم تبلغْ ذروة السُّمُو الإنْسَاني الخالص لله - عز وجل - كما بلغتْه أمتنا في عصور قوتها ومجدها، أو عصور ضعفها وانحطاطها.


إنَّ لِطَلَبِ الجاه أوِ الشُّهرة أوِ انتشار الصيت أو خلود الذِّكر - الأثرَ الأكبر في اندفاع الغَربيِّين نحو المبرَّات الإنْسَانية العامة، بينما كان الدافع الأول لأمَّتنا على أعمال الخير ابتغاءَ وجه الله سواء علم الناس بذلك أم لم يعلموا، وشيءٌ آخر: أن الغَربيين في مؤسساتهم الاجتماعية كثيرًا ما يقتصر الانتفاع بها على أبناء بلادهم، أو مقاطعاتهم، بينما كانت مؤسَّساتنا الاجتماعية تفتح أبوابها لكلِّ إنسان على الإطلاق، بِقَطْع النَّظَر عن جنسه أو لغته أو بلده أو مذهبه، وفارق ثالث: أننا أقمنا مؤسسات اجتماعية لِوُجُوه منَ الخير والتكافُل الاجتماعي، لم يعرفها الغَربيون حتى اليوم، وهي وجوه تبعث على العجب والدَّهشة، وتدل على أن النَّزعة الإنْسَانية في أمتنا كانت أشمل وأصفى وأوسع أفقًا من كلِّ نزعة إنسانية لدى الأمم الأخرى، وقبل أن نفيضَ في الحديث عن تَعَدُّد وجوه البرِّ في المؤسسات الاجتماعية في عصور حَضَارتنا يجب أن نلمَّ بمبادئ حَضَارتنا في هذا الميدان، وهي المبادِئُ التي عملتْ عملها في نفوس أمتنا فدفعتها إلى إنشاء هذه المؤسَسات دفعًا، لا نعرف له مثيلاً في أمم أخرى.


ينادِي الإسلامُ بالدَّعوة إلى الخير نداءً تهزم معه النفس الإنْسَانية بواعث الشُّحِّ ووسْوسة الشيطان في التخويف من الفقر؛ فيقول القرآن بعد الحثِّ على الإنفاق: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، ويعمِّم الدعوة إلى الخير على كلِّ مقتدر، بل كل إنسان، فقيرًا كان أو غنيًا.


ولقد كان مما شكاه الفقراء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الأغنياء يسبقونهم في فِعل الخيرات؛ إذ يَتَصَدَّقون بأموالهم، ولا يجد هؤلاءِ الفقراء ما يَتَصَدَّقون به، فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ فِعل الخير ليستْ وسيلته المال فحَسْب؛ بل كل نَفْع للناس فهو مِن عمل الخير: "إنَّ لكم بكل تسبيحةٍ صدقةً، وأمـرٌ بمعـروفٍ صدقـةٌ، ونهيٌ عـن المنكر صدقةٌ، وفي إماطة الأذى عنِ الطريق صدقةٌ، وأن تصلحَ بين اثنين صدقةٌ، وأن تعينَ الرَّجُل على دابته فتحمله عليها صدقة"، وهكذا يفتح الإسلام أبواب الخير للناس جميعًا.


ويسمو الإسلام بالنفوس إلى أعلى أُفُق منَ النزعة الإنْسَانية الكاملة، حين يجعل البر لجميع عباد الله مهما كانت أديانهم ولغاتهم وأوطانهم وأجناسهم؛ فيقول: "الخَلْق كلهم عِيال الله، فأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله".


لما نزل قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، قال صحابيٌّ يُسمَّى أبا الدَّحْداح: أَوَيَسْتقرض الله من عبده، يا رسول الله؟! قال: "نعم"، فقال: امْدُد يا رسول الله يدك، فأشهده أنَّه تَصَدَّقَ ببستانه الذي لا يملك غيره، وكان فيه سبعمائة نخلة مثمرة، ثم عاد إلى زوجه، وكانت تقيم هي وأولادها في هذا البستان، فأخبرها بما صَنَع، وغادَرَت هي وأولادها البستان، وهي تقول له: ربح بيعُك، يا أبا الدحداح، ولمـا نزل قـول الله تبارك وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، قال أبو طلحة الأنصاري: يا رسول الله، إنَّ أحب أموالي إليَّ بيرحاء -وهي بئر طيبة الماء- وإنها صدقة لله، أرجو بِرَّها وذخرها عند الله تبارك وتعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "بخٍ بخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، حبِّسِ الأصل، وسبِّلِ الثمرة ، وكانتْ هذه الصدقة أوَّل وقفٍ في الإسلام، ومِن هنا نشأ (الوقف)، وهو الذي كان يمد كل المؤسسات الاجتماعية بالموارد الماليَّة التي تعينها على أداء رسالتها الإنْسَانية النَّبيلة.


كانتْ هذه المؤسَّسات نوعين: نوعًا تُنْشِئه الدولة وتوقف عليه الأوقاف الواسعة، ونوعًا ينشئه الأفراد من أمراء وقواد وأغنياء ونساء، ولا نستطيع في مثل هذا الحديث أن نعدِّد أنواع المؤسسات الخيرية كلها، ولكن حسبنا أن نلمَّ بأهمها:


فمـن أول المـؤسسـات الخيرية:
- المساجد: وكان الناس يَتَسابقون إلى إقامتها ابتغاء وجه الله، بل كان الملوك يتنافسون في عظمة المساجد التي يؤسِّسونها، وحسبنا أن نذكرَ هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبدالملك من أموال بالِغة على بناء الجامع الأموي، مما لا يكاد يصدقه الإنْسَان لِكَثْرَة ما أنفِق من مال، وما استخدم في إقامته من رجال.


ومن أهم المؤسسات الخيرية: المدارس والمستشفيات.


ومنَ المؤسسات الخيرية: بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذَوِي الفقر.


ومنها: التكايا والزوايا التي ينقطع فيها من شاء لعبَادة الله عز وجل.


ومنها: بناء بيُوت خاصَّة للفقراء يسكنها مَن لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارًا.


ومنها: السِّقايات؛ أي: تسبيل الماء في الطرقات العامَّة للناس جميعًا.


ومنها: المطاعم الشَّعبية التي كان يفرق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شوربة) وحلوى، ولا يزال عهدنا قريبًا بهذا النوع في كل من تكيّة السلطان سليم، وتكية الشيخ محيي الدين بدِمَشق، ومنها بيوت للحجاج في مكة ينزلونها حين يفدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمَّت أرض مكة كلها، وأفتى بعضُ الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج؛ لأنها كلها موقوفة على الحجاج.


ومنها: حفر الآبار في الفلوات لسقْي الماشية والزُّروع والمسافرين، فقد كانت كثيرةً جدًّا بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم المدن الإسلاميَّة ومدنها وقراها، حتى قلَّ أنْ يَتَعَرَّضَ المسافرون - في تلك الأيام - لخطر العطش.


ومنها: أمكنة المرابطة على الثُّغور لِمُوَاجهة خطر الغزو الأجنبي على البلاد، فقد كانتْ هنالك مؤسسات خاصَّة بالمرابطين في سبيل الله، يجد فيها المجاهدون كل ما يحتاجون إليه من سلاح وذخيرة وطعام وشراب، وكان لها أثرٌ كبيرٌ في صَدِّ غزوات الرُّوم أيام العباسيين، وصد غزوات الغَربيين في الحروب الصليبية عن بلاد الشام ومصر.


ويتبع ذلك وَقف الخيول والسيوف والنِّبال وأدوات الجهاد على المقاتلينَ في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ وقد كان لذلك أثرٌ كبيرٌ في رواج الصناعة الحربية، وقيام مصانع كبيرة لها في بلادنا، حتى كان الغَربيون في الحروب الصليبيَّة، يفدون إلى بلادنا -أيام الهدنة- ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء، فانظر كيف انقلب الأمر الآن، فأصبحنا عالةً على الغَربيين في السلاح لا يسمحون لنا به إلاَّ بشروط تقضي على كرامتنا واستقلالنا.


ومنَ المؤسَّسات الاجتماعيَّة: ما كانتْ وَقْفًا لإصلاح الطُّرُقات والقناطر والجسور، ومنها: ما كانت للمقابر، يتبرَّع الرجل بالأرض الواسعة لتكونَ مقبرةً عامةً، ومنها: ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنِهم.


أمَّا المؤسَّسات الخيرية لإقامة التكافل الاجتماعي، فقد كانت عجبًا منَ العجب، فهناك مؤسَّسات للُّقطاء واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعدين والعُمْيان والعجز، يعيشون فيها موفوري الكرامة، لهم كل ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضًا.


وهناك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين، ورفْع مستوى تغذيتهم بالغذاء الواجب لصيانة صِحَّتهم، ومؤسسات لإمداد العُميان والمقعدين بِمَن يقودهم ويخدمهم، ومؤسَّسات لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور، فما أروعَ هذه العاطفةَ، وما أحوجنا إليها اليوم!


ومنها: مؤسَّسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وهي أسبق في الوجود من جمعية "نقطة الحليب" عندنا، مع تمحُّضها للخير الخالص لله عز وجل.


وقد كان من مَبَرَّات صلاح الدين أنه جعل في أحد أبواب القلعة -الباقية حتى الآن في دمشق- ميزابًا يسيل منه الحليب، وميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمَّهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.


وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات، التي أقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها حين عجزها، كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق، الذي يُقام عليه الملعب البلدي الآن، فقد كان وقفًا للخيول والحيوانات العاجزة المسِنَّة ترعى منه حتى تلاقي حتْفها.



أما بعدُ، فهذه ثلاثون نوعًا من أنواع المؤسسات الخيرية التي قامتْ في ظل حَضَارتنا، فهل تجد لها مثيلاً في أمة منَ الأمم السَّابقة؟ بل هل تجد لكثير منها مثيلاً في ظل الحَضَارة الراهنة؟


اللهم، إنه سبيل الخلود تفردنا به وحدنا، يومَ كانت الدنيا كلها في غفلة وجهل وتأخُّر وتظالم.


اللهم، إنه سبيل الخُلُود كشفنا به عنِ الإنْسَانية المعذبةِ أوصابُها وآلامُها، فما هو سبيلنا اليوم؟ أين هي تلك الأيدي التي تمسح عبرة اليتيم، وتأسو جراح الكليم، وتجعل من مجتمعنا مجتمعًا متراصًّا، ينعم فيه الناس جميعًا بالأمن والخير والكرامة والسلام.