الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلم يعد خافيًا على أحدٍ من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلةٍ ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة، تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم، وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعْدٍ عن تعاليم الإسلام، وإقصاء لشريعة الله - سبحانه -، ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.
إنَّ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم لا يستغرب من قبل العالمين بسنن الله - عز وجل - في التغيير، حيث إنَّ هذا الواقع هو النتيجة الطبيعية للبعد عن دين الله - عز وجل -، وعدم الاستسلام لشرعه. ولا ننتظر في ضوء السنن الربانية غير هذا، والله - عز وجل - يقول: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد: 11) ويقول - سبحانه -: ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم)) (محمد: 7).
أما الذين يجهلون سنن الله - عز وجل - أو يغفلون عنها، وينسونها، فهم الذين يستغربون ما يحل بالمسلمين اليوم من محنٍ وويلات، وهم الذين يتساءلون أنى هذا؟ وكيف يحصل هذا ونحن أصحاب الدين الحق؟ فيجيبهم الله - عز وجل - بما أجـاب به من سأل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا السؤال، فقال - سبحانه وتعالى -: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) (آل عمران: 165).
ونتيجة لنسيان هذه السنة الربانية أو الغفلة عنها، يقع الانحراف في المواقف المختلفة إزاء هذه الأحوال المريرة، التي يمر بها المسلمون ما بين يائسٍ من التغيير قد أصابه الإحباط، وألقى بيده ينتظرُ المهدي أو المسيح - عليه السلام - لإنقاذ الأمة والتمكين لها في الأرض، أو مستعجلاً قد نفد صبره مما يرى من الكفر والنفاق، فقرر الجهاد والمواجهة مع أعداء الدين غير ملتفت للقواعد الشرعية وأصول التمكين، وأسباب النصر، فنجم عن ذلك من المفاسد ما الله به عليم، وآخر رأى مهادنة الأعداء والرضى منهم بأنصاف الحلول، والدخول معهم في مفاوضات ومقايضات، لم تثمر إلاَّ مزيدًا من التمكين للمفسدين، والإقرار لهم بالشرعية والوجود.
أما الذين فقهوا سنن الله - عز وجل - في النصر والتمكين والتغيير، وأخلصوا دينهم لله - تعالى -، فقد هداهم ربهم - سبحانه - لما اختلف فيه من الحق، ورأوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها، وذلك بما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام عليهم رضوان الله - تعالى -.
وباستقراء المنهج النبوي في الإصلاح والتغيير يظهر لنا أنه قائم على الأصول التالية:

الأصل الأول: البصيرة في الدين وصحة الفهم والعمل.
قال الله - عز وجل -: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)) (يوسف: 108).
ويعنى بهذا الأصل: أن تقوم الدعوة وينطلق التغيير من فهمٍ صحيح، وعقيدة صافية، وبصيرة واضحة في الدين، كما جاء في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفهم الصحابة- رضي الله عنهم-، لأنَّ أي دعوة تعارض هذا الفهم أو تزيد عليه أو تنقص، فإنها قد فرطت في هذا الأصل العظيم من أصول التمكين والنصر.
ويلحق بالفهم الصحيح ما يجب أن يكون عليه أصحاب الدعوة من عمل صحيح، موافق لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم.
وهذا هو ما أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما وصف الفرقة الناجية المنصورة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنا عليه وأصحابي)) [1].

وإنَّ الجهد في إخضاع أفراد الدعوة وعامة الناس للفهم الصحيح والعمل الموافق يحتاج إلى صبر وعناء، وتضافر في الجهود، واتخاذ الأسباب المباحة المتاحة في تبليغ هذا الفهم الصحيح للأمة، ببرامج علمية وعملية، حتى تستقيم الأفهام في العقيدة والأحـكام والتصورات على هذا المنهج النبوي الكريم، ومما يلحق بالفهم فهم الواقع الذي يتحرك فيه الدعاة، وطبيعته والبصيرة بأحوال الناس، واستبانة سبيل المجرمين، والوعي بكيدهم ومخططاتهم وإمكاناتهم.

الأصل الثاني: حسن القصد:
ويعنى بهذا الأصل إخلاص المقاصد لله - عز وجل -، وصدق النية في الدعوة والتغيير، بأن يكون القصد من ذلك التعبد لله - عز وجل - وابتغاء وجهه ورضاه وجنته، وإنقاذ الناس بإذن ربهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.
وهذا بدوره ينفي كل مقصد دنيوي سواءً كان رياءً أو إرادة جاهٍ أو مالٍ أو منصبٍ أو شهرة..الخ، لأنَّ وجود مثل هذه المقاصد في الدعوة يفسدها ولا يكون القصد فيها حسنًا، وبالتالي لا يبارك الله فيها ولا ينصر أهلها، ولا يمكِّن لهم في الأرض ولو كانوا على فهمٍ صحيح؛ لأنَّهم فرطوا في أصلٍ عظيم من أصول التمكين، ألا وهـو إرادة الله - عز وجل - والآخرة ليس إلا.ولا شك أنَّ تحقيق هذا الأصل العظيم في نفوس الدعاة يحتاج إلى جهدٍ ومجاهدة، ومناصحة وتربية علمية وعملية، يعتني فيها بالقلوب وأعمالها، وتُقوَّى فيها الصلة بالله - عز وجل - والتحلي بالأخلاق المحمودة الباطنة والظاهرة، والتي على رأسها الإخلاص لله - عز وجل -.

الأصل الثالث: وحدة الصف:
وهذا الأصل ثمرة للأصل السابق، حيثُ إنَّ تجرد المقاصد لله - عز وجل - ينفي الهوى وحظوظ النفس، والتي هي من أكبر أسباب الفرقة والبغضاء، لأنَّه لا يمكن لأصحاب الفهم الصحيح الواحد أن يتفرقوا إلاَّ إذا كان القصد غير حسن. وأصحاب القصد الحسن لا يفارقون غيرهم، إلاَّ إذا كانوا على فهمٍ منحرفٍ غير صحيح كأصحاب الفرق وأهل البدع.
وكون الاجتماع ووحدة الصف أصلٌ من أصول التمكين، لا يجادل في هذا أحد، كيف والله - عز وجل - يقول: ((وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (الأنفال: 46).
ولا شك أنَّ نبذ الفرقة، واجتماع القلوب، ووحدة الصف بين أهل السنة، أصحاب الفهم الصحيح يحتاج إلى القدوات وإلى الصبر والجهد الجهيد، والتجرد لله - عز وجل -، وترك حظوظ النفوس.
وتقع المسئولية في ذلك على العلماء والموجهين والمربين كل في مجاله، ويكون ذلك بالتواصي والمناصحة، وإظهار الود وحقوق الأخوة بين الدعاة، وإن لم يجد بعضنا مجالاً لهُ في جمع الكلمة، فليتق الله ولا يفرق، فإنها صدقة منه على نفسه وكف شر عن إخوانه، وهو بذلك يسـاهم في جمع الكلمة وتوحيـد الصـف، وإن مما يحفز الهمم على تحقيق هذا الأصل العظيم، اليقين بأنَّ نصر الله - عز وجل - لا ينزل على أمةٍ متفرقةٍ متباغضة.
وقد يجد أصحاب الدعوة الحريصون على جمع الكلمة أنفسهم أمام أناسٍ غير حريصين على وحدة الصف، فحينئذ حسبهم أن يعلم الله - عز وجل - صدقهم وإخلاصهم، فيوفقهم ويعينهم وينصرهم.

الأصل الرابع: التمحيص والتميز:
قـال الله - عز وجل -: ((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)). (آل عمران: 141).
وقال - سبحانه -: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) (آل عمران: 179).

وإنَّ المتأمل في منهج الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وبخاصة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنين، ليرى هذه السنة الربانية واضحة وضوح الشمس، وذلك بما تعرض له المسلمون من الابتلاء والتمحيص في مكة والهجرة، والجهاد في سبيل الله - عز وجل -، وأنهم لم يمكنوا إلاَّ بعد أن ابتلوا ومحصوا.
والابتلاء الذي يتعرض له أصحاب الدعوة نوعان:

أ ـ ابتلاء عقوبة وتكفير وتنبيه:
وذلك عندما يحصلُ الخلل في واحـدٍ من الأصـول الثلاثة السابقة أو أكثر. فعندما يحصل الخلل في الفهم والمعتقد، أو في النية والمقصد، أو في وحدة الصف وتآلف القلوب، فإنَّ الله - عز وجل - قد يبتلي عباده هؤلاء ببعض العقوبات والابتلاءات لعلهم يرجعون ويراجعون أنفسهم، ويكفِّر الله - عز وجل - عنهم بهذه العقوبات سيئاتهم.
ب ـ ابتلاء تمحيص وتمييز للصفوف:
وهذا النوع من الابتلاء هو الذي نقصده في هذا الأصل، وهو الذي يتعرض له أصحاب الفهم الصحيح، والقصد الحسن والصف الموحد، والحكمة منه تمحيص القلوب، وتمييز الصفوف مما قد يكون فيها من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة، والذين يكون ضررهم شديدًا على الدعوة فيما لو بقوا مندسين في الصفوف ولم يعرف شأنهم، فيقدر الله - عز وجل - مثل هذا النوع من الابتلاءات ليتميز المؤمن الصادق من غيره، ويزيد الله - عز وجل - به المؤمنين إيمانًا وثباتًا وصلابة في إيمانهم، قال الله - عز وجل - عن المؤمنين في غزوة الأحزاب عندما رأوا الشدائد والأهوال: ((وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) (الأحزاب: 22).
وقال عن المنافقين الذين نجم نفاقهم عند الابتلاء: ((وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)) (الأحزاب: 12)
فما زادت الشدائد المؤمنين إلاَّ إيمانًا وتسليمًا، وما زادت المنافقين إلاَّ مرضًا، وأخرج الله بها ما في قلوبهم من النفاق والكذب والذي ما كان ليعرف في حال السلم والأمان.
وإنَّ فترات التمحيص والابتلاءات لمن أشدِّ فترات الدعوة على أهلها، فهي تحتاج إلى جهدٍ عظيم من التعليم والتربية والعبادة، والتواصي على الحق والتواصي بالصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومن علم الله - عز وجل - صحة فهمه وحسن قصده، وعمله الصالح وحرصه على الوحدة والاجتماع، فإنَّهُ - سبحانه - يثبته ويخرج من الابتلاءات وقد قوي إيمانه، وصلب عوده. وعلى مثل هؤلاء ينزل نصر الله - تعالى -ويقوم عز الإسلام.
وبقيت مسألةٌ مهمةٌ تتعلقُ بالتميز، ألا وهي ضرورة تميز أصحابِ الدعوات الذين يريدون التمكين لدين الله - تعالى -عمن حولهم، ممن ابتعدوا عن الدين وتعاليمه، وظهور ذلك في تصوراتهم وأفهامهم، وفي عبادتهم وسلوكهم، وفي دعوتهم وصبرهم وتضحيتهم.
وعليهم أن يوصلوا ما يحملونه من علمٍ ودعوةٍ إلى طبقات الناس قدر استطاعتهم، حتى يتم البلاغ وتقوم الحجة، ويُعرف أصحاب الدعوة بين الناس بمنهجهم الواضح وأهدافهم العالية، ومن أهم ما يقومُ به أصحاب الدعوة حتى يحصل التميز القيام فضحهم للباطل وأهله، وتبيين سبيل المجرمين للناس حتى لا تختلط عليهم الأمور ويلتبس الحق بالبـاطل، ومالم يتم هذا البيان فإنَّ الناس المضللون قد يُستخدمون في مواجهة أصحاب الدعوة لعدم وضوحهم ووضوح دعوتهم في مجتمعات الناس، وذلك بما يستخدمه أعداء الدعوة من تضليل وتلبيس للناس، سواء في تشويه أهل الدعوة وإظهارهم للناس بمظهر المفسدين والمهيجين للفتن، أو بما يضفونه على أنفسهم من أنهم أصحاب الحق وحماته.
فمالم يحصل البلاغ الكافي، والذي يتميز فيه الحق من الباطل، ويزول التلبيس والتضليل، فإنَّ هذا الأصل أعني أصل التميز لم يتحقق بعد، وعلى الدعاة الصبر والتأني، وبذل الأسباب في تحقيقه قدر الاستطاعة، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وحتى يعطي الواحد من الناس ولاءه لمن يختاره من أهل الحق أو الباطل عن علم وبينة وطواعية.

الأصل الخامس: اتخاذ الأسباب المادية المتاحة والمباحة في تبليغ الدعوة ومواجهة أعدائها:
والمقصود بهذا الأصل هنا أن لا يتكل أصحاب الدعوة على أنهم مسلمون والله ناصرهم؛ فيفرطون في الأخذ بالأسباب. نعم إنَّ الله - عز وجل - لو شاء لانتصر من أعدائه بكلمة واحدة، ولكن حكمته - سبحانه - اقتضت أن ينتصر دينهُ بجهد البشر، كما قال - تعالى -: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض)) (محمد: 4).
وإذا علم الله - سبحانه - أنَّ عباده المؤمنين المصلحين قد بذلوا ما في طاقتهم من الأخذ بأسباب النصر وأصوله من الفهم والمعتقد الصحيح والمقاصد الحسنة المتجردة لله - تعالى -واجتماع القلوب وتميز الصف والصبر على ابتلاءات الطريق، وبذلت الجهود الكبيرة، وأخذ بالأسباب والوسائل المتاحة، والتي توصل إلى تحقيق هذه الأصول. ومن ذلك الجوانب الاقتصادية التي توفر المال للدعوة، لأنها من أهم الأسباب التي يحصل بها قوة الدعوة وانتشارها، واعتماد الدعوة بعد الله - تعالى - على نفسها. إذا علم الله - سبحانه - أنَّ أصحاب الدعوة قد بذلوا كل ما في وسعهم ولم يفرطوا في الأخذ بأسباب النصر السابقة، واستعدوا للجهاد في سبيل الله - تعالى -، وقال قائلهم بعد ذلك: ((أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)) (القمر: 10).
فإنَّ نصر الله - عز وجل - ينزل حين ذاك كما نزل على أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام-، وكما نزل على عباده المصلحين المجاهدين في مراحل التاريخ الإسلامي. ولم يكلف أصحاب الدعوة بمعرفة الطريقة التي سينزل بها نصر الله - تبارك وتعالى -، ولكن حسبهم أن يوقنوا بنصرِ الله - عز وجل -، وأنَّ لهُ - سبحانه - جنود السموات والأرض، وهو على كل شيءٍ قدير، وأنَّه - سبحانه - لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهذا يقودنا إلى الأصل السادس.

الأصل السادس: التوكل على الله - عز وجل - والاستعانة به وحده:
وهذا أصل مهم من أصول النصر والتمكين، وهو في حقيقته داخلٌ في الأصل الأول والثاني، لأنَّ صحةَ الفهم والمعتقد يجعل أصحاب الدعوة فاهمين لحقيقة التوكل، وأنَّهُ يعني تمام الثقة بالله - عز وجل - والاعتماد عليه مع فعل الأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها، لأنَّ خالق الأسباب ومسبباتها هو الله - عز وجل -، كما أنَّ حسن القصد والإخلاص يجعلهم لا يتعلقون بالأسباب ولا يعجبون بأنفسهم وإيمانهم وكثرة أتباعهم، وإنما يوقنون بأنَّهم ضعفة عاجزون لا حول لهم ولا قوة إذا لم يعنهم الله - عز وجل - ويقويهم.
وإفراد هذا الأصل هنا في أصلٍ مستقل مع دخوله فيما سبق للتأكيد على أهميته ولوجود من يغفله في كثير من الأحيان، وفي زحمة الأخذ بالأسباب.
وإنَّ الأخذ بهذا الأصل يعني تقوية اللجوءِ إلى الله - عز وجل -، ودعائه والتضرع بين يديه في استجلاب النصر ودفع الشر، مما يكون لهُ الأثر في إضفاءِ الطمأنينة واليقين والثبات، ومن اليقين والثقة بوعد الله - عز وجل - اليقين الذي لا يتزعزع بأنَّ لله - عز وجل - جنود السموات والأرض، وأنَّهُ - سبحانه - ينصر عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر بجندٍ من جنوده، ويظهر ذلك للعيان ولو كان عباده في قلة من العدد والعتاد، ولو كان أعداؤهم في قوة عظيمة من العدد والسلاح وأدوات الدمار.
إنَّهُ لا يجوز لأصحاب الدعوة أن ينسوا نصر الله - عز وجل - لأنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- بجنوده الذين سخرهم لنصرة عباده الذين بذلوا ما في وسعهم من العبودية له - سبحانه -، والدعوة إلى دينه، وإبلاغه للناس والصبر على ابتلاءات الطـريق، فلقد نُصِرَ نـوح - صلى الله عليه وسلم - بالطوفان، ونصر هـود - صلى الله عليه وسلم - بالريح، وصالح - صلى الله عليه وسلم - بالصيحة، ومحمد- عليه الصلاة والسلام - بالرعب والملائكة التي قاتلت معه في بدر وأحد وحنين وغيرها من الغزوات، بل إنَّ الناظرَ في انتصارات المسلمين بعد ذلك وفتوحاتهم ليلحظ أنهم كانوا دائمًا في قلةٍ من العدد والعتاد مقابل أعدائهم من الفرس والروم وغيرهم، ومع ذلك انتصروا بنصر الله - عز وجل - لهم.
إذن من لوازم التوكل على الله - عز وجل - اليقين بتدخل قوة الله - عز وجل - لنصر عباده المؤمنين بآياتٍ ومعجزات، وتثبيت للمؤمنين، وبث للرعب في قلوب أعدائهم وغير ذلك مما يقدره - سبحانه - في وقته المناسب وفق علمه - سبحانه - وحكمته.
والناس في نصر الله - عز وجل - لعباده المؤمنين بالآيات والمعجزات طرفان ووسط.
الطرف الأول:
الذين يرون أنَّ الله - عز وجل - سينصرُ المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاءِ على أعداء الدين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر، أولم يكملوها، فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإنَّ نصر الله - عز وجل - سينزل عليهم، لأنَّهم مسلمون وكفى وهذا الفريق من الناس يفرطُ في العادة في الأخذ بأسباب النصر، أو يطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقةً وآية من الله - عز وجل -.
ولا يخفى ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله - عز وجل - في النصر والتمكين.
الطرف الثاني:
وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردةَ فعلٍ له، وذلك بقولهم بأنَّه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض، فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد، والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبِّون الأسباب المادية، ويفرطون في الأسباب الشرعية، ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله - سبحانه - بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء - سبحانه -، وعلم أنَّ عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه. ومعلومٌ أنَّ المسلمين في كل وقتٍ وبخاصة في هذا الوقت لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله - سبحانه - بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح، لأنَّهُ ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرفٍ وغفلةٍ عن أسباب النصر الشرعية، ونسيان لقوة الله - تعالى -، والذي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصرُ بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض.
الوسط:
وهو الحق إن شاء الله - تعالى -، وهُم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربُّوا أنفسهم على ذلك وبلغوهُ للأمة قدر استطاعتهم، حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفرٍ وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم، ومع أخذهم بهذه الأسباب، فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب، ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين، الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله - سبحانه -: ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد: 7).
ولم ينسوا قوله - تعالى -: ((وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)) (الفتح: 7).
وقوله - تعالى -: ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)) (المدثر: 31).
بل هم موقنون بتدخل قوة الله - عز وجل - وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت في القوة والدمار، لأنَّ قوة الله - عز وجل - فوق قوتهم ونواصيهم بيده - سبحانه -، ولو يشاء الله - تعالى - دمرها عليهم وأبطل مفعولها. ولكن هذا لا يكون إلاَّ لمن حقق أسباب النصر والتمكين.

أسأل الله - عز وجل - أن يشرفنا بنصرة دينه، وإعلاءِ كلمته وأن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا.