كان جيلنا يعرف أن الذرة تتكون من ثلاثة أنواع فقط من الجسيمات، الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. مضى ذلك الزمان. الآن يحفظ أبناؤنا أسماء عشرات الجسيمات المكونة للذرة. أحدها يسمى «النيوترينو»، ليست له شحنة، ولا كتلة ملموسة. إنه تقريبا لا شىء، مجرد صفر. ولهذا يستطيع النفاذ بسهولة خلال المواد. مليارات النيوترينوهات تخترق أجسامنا كل ثانية دون حادث تصادم واحد مع أنسجتنا. دروع الرصاص السميكة التى توقف أخطر الإشعاعات، لا توقف النيوترينو، لفرط ضآلته. كيف يتعامل العلماء مع هذا اللا شىء الذى يفتقر حتى إلى أثر مغناطيسى يشى بوجوده؟ سؤال ساذج تخطاه الزمن عندما بدأ الفيزيائيون يتحدثون عن أنواع مختلفة من هذا «اللا شىء». قالوا لنا إن النيوترينو الذى يتولد لحظة تكون الإلكترون مثلا، ويسمونه «نيوترينو الإلكترون»- يختلف عن ذاك الذى يتولد على هامش تكون جسيم آخر يدعى «ميون»، ويسمونه «نيوترينو الميون». تختلف «النيوترينوهات» إذن تبعا لنشأتها، أما بعد تكونها فيصعب التمييز بينها. فكيف عرف العلماء أنها مختلفة؟ هل يمكن أن يكون هناك فرق بين «لا شىء» و«لا شىء» آخر؟ ثلاثة علماء ندبوا أنفسهم للإجابة عن هذا السؤال، أمريكيان هما ليون ليدرمان وملفنشفارتس، وألمانى هو ياكشتاينبيرجر. كانت مهمتهم درامية، لكن فكرتهم بسيطة: لو أنك أضفت «نيوترينوهات الميون» مثلا إلى مادة فامتصتها، ونتج عن ذلك تكون خليط من «الميونات» و«الإلكترونات»، فهذا معناه أنه لا فرق بين «نيوترينو الميون» و«نيوترينو الإلكترون». أما إذا نتج عن الامتصاص «ميونات» فقط، فهذا معناه أن «نيوترينو الميون» هو نوع قائم بذاته، لأن امتصاصه لا ينتج سوى «الميونات». لم يكن الحصول على النيوترينوهات سهلا، لكن العلماء الثلاثة نجحوا فى ذلك بإطلاق حزم من الجسيمات دون الذرية على حاجز من الصلب يزيد سمكه على عشرة أمتار، صنعوه من حطام سفينة حربية. عطل الصلب كافة الجسيمات، إلا النيوترينوهات، فقد نفذت خلال الصلب كما تنفذ أشعة الشمس خلال الهواء. وعندئذ وضع العلماء فى طريقها حاجزا ماديا آخر. ثمانية أشهر كاملة، والعلماء الثلاثة يمطرون الحاجز بملايين المليارات من هذه النيوترينوهات. مرقت جميعها تقريبا، ولم يقتنص الحاجز المادى منها سوى خمسين نيوترينو فقط، امتصتها المادة. وعندما فحص العلماء الجسيمات الخمسين التى امتصت نيوترينوهات الميون، وجدوا أنها جميعا «ميونات». هكذا عرف العلماء أن «نيوترينو الميون» ليس هو «نيوترينو الإلكترون». لعلك الآن تتساءل: هل يستحق موضوع كهذا عناء البحث العلمى؟ يكفى أن تعرف أن العلماء الثلاثة فازوا بجائزة نوبل فى الفيزياء لعام 1988 تكريما لهم عن ذلك الاكتشاف، لأن هذا النوع من التجارب هو الطريق الأمثل لمعرفة تركيب المادة وكيفية نشأة الكون، أما التطبيقات العملية لهذا الاكتشاف فقد ظلت مستبعدة. لكن المفاجأة حدثت فى عام 2012، عندما أجريت أول بروفة ناجحة للاتصال باستخدام النيوترينو. أرسل العلماء رسالة تحت الأرض اخترقت فى طريقها رمالا وصخورا سمكها مئات الأمتار، ووصلت إلى وجهتها بسرعة الضوء تقريبا. منذ ذلك الحين تشهد الساحة العلمية سباقا محموما لتطوير أجهزة رصد النيوترينو. حلم التطبيق، الذى استُبعِد لعقود طويلة، عاد يتخلق جنينا. ربما يجهضه المستقبل، لكن العلماء المتفائلين ينتظرون ولادته، نظاما متكاملا للاتصال السريع بين الأرض والفضاء، أو بين أبعد نقطتين على سطح الأرض، بدون الحاجة إلى أقمار صناعية أو ألياف ضوئية.