المقدمة
الحمد لله المنان، كريم الفضل، واسع الإحسان، أما بعد: فكم هي عطايا الرحمن علينا، وكم هي هبات الملك الديَّان لدينا، كم نغدوا ونروح في فضله، وكم يغمرنا بنعمه، ويسبل علينا ستره.


إلهي لك الحمد الذي أنت أهله

على نعم ما كنت قط لها أهلاً

متى ازددت تقصيرا تزدني تفضلاً

كأنني على التقصير أستوجب الفضلا


يا الله أحقًّا إننا ننعم بفضل الله علينا ببلوغ شهر رمضان، أهكذا تسرع بنا سفينة الأيام تمخر في عباب أعمارنا حتى تسلمنا إلى الدار الآخرة، وصدق الله }وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ...{ [يونس:45].

إنها الحقيقة الغائبة عن الأذهان، وإن شئت قلت : إنه التغافل عنها ؛ لأننا كلنا على يقين منها.

اعلم أيها المؤمن، واعلمي أيتها المؤمنة .. أن الله يحب أهل طاعته، ويفرح بإقبالهم عليه، ويجعل أسماءهم عالية في الملكوت إذا كانوا من أهل خشيته وخواص عباده الصالحين.

جاء في صحيح مسلم أن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم فقام الناس ينظرون إليه فقلت لأبي : يا أبي إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز قال: وما ذاك. قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، فقال: بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه ، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض...».

فهل سمت نفسك لبلوغ هذا الفضل، وتحركت همتك لتفوز بهذا العطاء، إنها الجنة (دار المتقين) إنه الفضل المعجل في الدنيا (محبة المؤمنين) وكن على يقين أنه لا وصول لتلك الكرامة إلا بالعمل الصالح الدؤوب، وشهر رمضان فرصة عظيمة للازدياد من الأعمال الصالحة وبين يديك خطوات تبلغك بإذن الله تلك المنازل، وتوصلك تلكم الدرجات، ومن ذلك:
أولاً: تذكر فضل الزمان


من عرف رمضان بفضله، وأيقن بموسم الغفران وعلو منزلته، علت همته لاغتنامه، وسمت نفسه لمبادرة ساعاته، ولم يفرط بلحظة من لحظاته ليقينه بأنه إن فاتته هذه الأيام فلن تعوضها كنوز الدنيا بأسرها؛ وصدق الله: }قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا{ [النساء:77]، وإن انتهى ولم يغتنمه عاش الحسرات في آخره ، كم تحسر أكثرنا عند نهاية رمضان كل عام مضى، لعدم اغتنامه وفواته عليه، فهل سيكون الحال مثله هذا العام؟!

إن رمضان موسماً تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه الذنوب والخطيئات، أيامه سبيلك إلى الجنان، وصيامه يقربك من الرحمن، يسمو بنفسك، ويطهرها من درن الذنوب والمعاصي، ليلة خير ليل فيه تنزل أعظم كتاب، قامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث أمته على قيامه، وبشرهم أن قيامه وصيامه يكفر الذنوب والسيئات، فيه ليلة العبادة فيها تعدل عبادة أكثر من ألف شهر، الصدقة فيه ثوابها يضاعف، والعمرة فيه كحجة مع نبيك، والدعاء فيه مسموع، وعطاء الرب للعباد عليهم ممنوح، من مات بعد صيامه يرجى له حسن الختام.

فهل سمت همتك للعمل الصالح فيه؟
ثانياً: مجاهدة النفس


كن على يقين أن لا وصول إلى منازل الأبرار، والتنعم في الجنة دار الأطهار إلا بمجاهدة النفس وقسرها على الحق قسراً وذلك أن بين العامل وبين الوصول إليها مركب المكاره، جاء في الحديث: «حفت الجنة بالمكاره...» [رواه مسلم].

لقد وعد الله أهل المجاهدة بالهداية إلى سبيل الخير، والإعانة على مراضيه، فقال سبحانه – وهو أصدق القائلين، وأعظم الموفين :- }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ [العنكبوت:69].

واعلم أن النفس حصان شرود، تحب الراحة، وتؤثر الدعة، فلابد من مجاهدتها وإلا أضرت بصاحبها، وارجع بذاكرتك إلى الوراء إلى أناس خرجوا من الدنيا وهم على حال التفريط!

ألم يكونوا يعلموا بفضل الطاعة، وعلوا درجة العابدين؟ بلى وربي. ولكنهم لم يجاهدوا أنفسهم على طاعة الرحمن، وإلزامها سلوك سبيل الرشاد.

أما من فقهوا حقيقة الدنيا والآخرة فتأمل في حالهم، وانظر كيف كان جهادهم لأنفسهم وتربيتهم لها.

كان زياد بن أبي زياد - مولى ابن عياش - يخاصم نفسه في المسجد يقول: أين تريدين؟ أين تذهبين؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه، تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان؟ ثم يقسر نفسه على الجلوس في المسجد للعبادة:


يا خاطب الحور الحسان وطالباً

لوصالهن بجنة الحيوانِ

أسرع وحث السير جهدك إنما

مسراك هذا ساعة لزمان

هي جنة طابت وطاب نعيمها

فنعيمها باقٍ وليس بفانِ

ثالثا: البيئة الصالحة


وهي المحضن المعين، والعامل القوي الذي يأخذ بيد كل طالب للعمل الصالح، ويدفع كل مجتهد راغب، وكم من آية تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو المؤيد بالوحي من السماء – بلزوم صحبة أهل الخير، والجلوس معهم، قال سبحانه: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا{ [الكهف:28].

فإذا كان هذا الأمر لنبينا عليه الصلاة والسلام فما الظن فيمن هو دونه؟ وإذا كان في ذلك الزمان فما هو الحال في هذه الأزمنة؟ وتأمل في أثر الصحبة لحال المعتكفين الجادين، وكيف تساعدهم تلك البيئة على العمل الصالح، فلابد لك من صحبة طيبة تعينك على اغتنام هذه الأيام، وكن جادا في هذا ولا تغتر بحولك وقوتك، فالمرء كما قيل: ضعيف بنفسه قوي بإخوانه.

ابحث عنهم وستجدهم، وانظر في قصص من سبق من السلف الجادين في عبادة الله، وتأثر بعضهم ببعض.

عن علقمة بن قيس قال: (بت مع عبد الله بن مسعود t ليلة فنام أول الليل ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يراجع، يسمع من حوله ولا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر) فتأمل في حال ابن مسعود وتلذذه بالقراءة، وكيف أثرها في نفس طالبه – علقمة.

يقول أحد معاصري محمد بن واسع: كنت إذا رأيت من نفسي ضعفا عن العبادة ذهبت إلى محمد بن واسع فنظرت إلى وجهه فازددت نشاطاً على العبادة أسبوعاً.

فالزم غرز الصالحين، واشدد يديك على المتقين، فنعم المعينين هم على الطاعة، وأكرم بهم من أصحاب.
رابعاً: معرفة قدر الثواب


من لاحت له أوصاف الجنة العالية، وعاش مع أوصافها في آيات الكتاب المبين، وسنة خير المرسلين، وهي تصف دار الكرامة والحبور، وما فيها من خيرات متناهية الأوصاف، ما بين منازل أنيقة في وسط أنهار سارحة تجري من تحتها من غير أخاديد، وغرف قد زينت، وعرائس قد كملت، وأنواع من طيبات المآكل والمشارب، في جوار رب كريم، تاقت روحه وطمعت نفسه لنيل تلك المنازل.

تأمل في سورة الدهر والدخان، وخاتمة عم والرحمن، وانظر إلى تلك الكرامات التي أعدها الله لأوليائه.

إن حياة لحظة واحدة في جنات النعيم تعدل حياة المرء في الدنيا مئات السنين، فكيف بمن يعيش في تلك الدار أبد الآباد في خيرات متزايدة، وعطايا متناهية؟

فشمر عن ساعد الجد، وانفض عنك غبار الكسل، ودع عنك التواني، فإن العيش قدامي.
خامساً: قصر الأمل


قصر الأمر هو: توقع قرب الرحيل، وحلول الأجل في أي لحظة. ومتى ما استقر في النفس هذا الأمر كان له أعظم الأثر في حملها على الطاعة، وجعلها تبادر الساعات واللحظات في العمل الصالح فإنه لم يهلك الناس ويجعلهم يفرطون في الطاعات سواء في المواسم المباركة أو غيرها إلا طول الأمل، فلو قيل لأحدنا: هذا آخر رمضان لك في الحياة، فكيف سيكون حاله ونشاطه؟

مع أننا كلنا على يقين أنه سيكون هذا آخر رمضان لبعضنا (أطال الله في أعمارنا على طاعته).

كم نعرف ممن صام وقام معنا في العام الماضي، والأعوام الماضية، فأصبحوا تحت أطباق الثرى محبوسين، وبأعمالهم مجزيين.

ولذا جاء الأمر في المبادرة والمسابقة للعمل الصالح فقال الله سبحانه وتعالى: }سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{ [الحديد:21].

قال ابن المبارك: ركبت مع محمد بن النضر في سفينة، فقلت: بأي شيء أستخرج منه الكلام ؟ فقلت له: ما تقول في الصوم في السفر؟ فقال: إنما هي المبادرة يا بن أخي.

فجاءني والله بفُتْيا غير فُتْيا إبراهيم والشعبي.



بادر إلى التوبة الخلصاء مجتهدا

والموت ويحك لم يمدد إليك يداً

وارقبْ من الله وعدا ليس يخلفه

لابد لله من إنجاز ما وعدا





قال ذو النون: الكيس من بادر بعمله، وسوف بأمله، واستعد لأجله. فهكذا كلما قصر العبد أمله سارع إلى العمل الصالح خصوصاً في الزمان الفاضل كرمضان وغيره.
سادساً: صدق الدعاء


صدق الأول يوم قال:



إذا لم يكن من الله عوناً للفتى

فأول ما يجني عليه اجتهاده





فمهما بلغت من حفظ النصوص، ومعرفة الثواب، وعظيم الأجر، فلن تقدر على العمل، والتقرب إلى الله تعالى، واغتنام هذه المواسم وغيرها إلا بمعونة الرحيم الرحمن، فانطرح بين يديه، واصدق في الرغبة إليه، فهو خير معين، وأجود معطي.

وكن على يقين أنه إن فتح لك هذا الباب فقد أراد بك الخير.

جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة...» [هداية الرواة، وهو حسن كما قال ابن حجر في المقدمة].

ومن كان صادقاً تخير الأوقات الفاضلة التي هي أقرب للإجابة قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع قال: «جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات» [رواه الترمذي وهو حديث حسن].

فاللهم وفقنا في هذا الشهر لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم اجعلنا ووالدينا وأهلينا من عتقائك من النار اللهم آمين.