غادر ثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثًا عن خلاص عقله وروحه، بيّع في سوق الرقيق وهو في طريق بحثه عن الحقيقة، ثم التقى بالرسول، وآمن به.


هذه رحلة سلمان الفارسي ، الذي نعته المفكر الإسلامي خالد محمد خالد في كتابه «رجال حول الرسول » بـ«الباحث عن الحقيقة»، فهو من فضّل العقل، وتمرّد على أبيه، وقرر البحث عن حقيقة الدين الذي يدعو إليه «محمد».
يحكي «سلمان» رحلة البحث عن الحقيقة، كما جاءت في كتاب «رجال حول الرسول »، قائلًا: «كنت رجلًا من أهل أصبهان، من قرية يقال لها (جي)، وكان أبي دهقان أرضه، وكنت من أحب عباد الله إليه، واجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار التي نوقدها، ولا نتركها نخبو، وكان لأبي ضيعة، أرسلني إليها يومًا، فخرجت، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمهتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري، وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا في الشام».
ويضيف: «قلت لأبي حين عدت إليه: إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديدًا وحبسني، وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمت الحديد وخرجت، وانطلقت معهم».
انتقل «سلمان» بعد ذلك إلى وادي القرى، وتم بيعه لرجل من اليهود، وأقام لديه حتى قدم عليه يومًا رجل من يهود بني قريظة، فاشتراه، ثم خرج به إلى المدينة.
يقول «سلمان»: «أقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله، وحتى قدم المدينة، ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف».
وعن بداية لقائه بالرسول محمد، يقول «سلمان»: «عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، دخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به، ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدًا، فقلت في نفسي: هذه والله واحدة.. إنه لا يأكل الصدقة».
ويضيف: «ثم رجعت وعُدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعامًا، وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. إنه يأكل الهدية».
ويُتابع: «ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان مؤتزرًا بواحدة، مرتديًا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه، خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي، ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن، ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد».
كما كان «سلمان» صاحب فكرة «حفر الخندق»، الذي أنقذ المسلمين من المُشركين، ووقف الأنصار في ذلك اليوم يقولون: «سلمان منا»، ووقف المهاجرون يقولون «بل سلمان منا»، فناداهم الرسول قائلًا: «سلمان منّا آل البيت».
يحكي خالد محمد خالد في كتابه عن دور «سلمان» في يوم الخندق قائلًا: «في السنة الخامسة للهجرة، خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل هذا الدين الجديد، ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان المدينة من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى، وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم، وسقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة».
ويضيف: «أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه، وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها، بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في السلام خطرًا عليها، فجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر، وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟».
ويوضح: «هنا تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول يحمل له حبًا عظيمًا، واحترامًا كبيرًا، تقدّم سلمان الفارسي وألأقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فوجدها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها، وأن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها، وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة».
ويتابع: «والله يعلم، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرًا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها».
وكان على بن أبي طالب، يلقبه بـ«لقمان الحكيم»، إذ سئل عنه بعد موته فقال: «ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم.؟.. أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرًا لا ينزف».
عاش «سلمان» مع الرسول منذ التقى به، وآمن معه مسلما حرًا، ومجاهدًا وعابدًا، وعاش مع خليفته أبي بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته.