التركات هي موضوع علم الفرائض، كما تقدم. وموت المرء لا يجعل تركته تنتقل إلى ورثته دون نظر في حقوق غيرهم المتعلقة بها. ولذا عني الفقهاء بموضوع التركة من جميع الجوانب، والحديث عنها في أربع مسائل:

المسألة الأولى: التعريف بالتركة.


التركة لغة: الشيء المتروك، وتركة الميت تراثه ([1]). واصطلاحا: عرفت بعدة تعريفات ([2]) منها: ما يخلفه الميت من مال، أو حق، أو اختصاص([3]).

فالمال يشمل: العينيّات من النقود والعقارات ونحوها، ويشمل المنافع، كمن استأجر بيتا ومات قبل إنهاء مدة الإجارة، فإن المدة المتبقية منفعة، وتعتبر من تركة هذا الميت.

وأما الحق، فمنه ما يورث، فيعتبر تركة، كحق الشفعة والخيار، ومنه ما لا يورث إجماعاً، فلا يعتبر تركة، كحق الحضانة وحق الوظيفة والولاية، ومنه ما اختلف في إرثه، كحق بقاء الدين المؤجل، إذا مات المدين ولم يحل زمن السداد.

وأما الاختصاص، فهو ما يخص الشخص من غير الأموال والحقوق، كالسرجين النجس ([4]) والميتة. فإنهما لا يعتبران مالاً، لكنهما يخصان صاحبهما، فهو في حياته أحق بالانتفاع بهما من غيره، فيورثان منه بعد موته ([5]).

المسألة الثانية: الحقوق المتعلقة بالتركة.


تتعلق بتركة الميت أربعة حقوق ([6])، وهي:

الحق الأول: مؤن تجهيز الميت.

الميت يحتاج إلى كفن وحنوط وتغسيل وقبر، وهذه المؤن قد لا تتوافر إلا بالمال، فتخرج من تركة الميت، إلا أن الفقهاء اختلفوا فيمن تجب عليه مؤن تجهيز الزوجة، لأنه إن كانت في مالها، فحق من حقوق تركتها، وإن كانت على زوجها، فليس بحق من حقوق تركتها. وللفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال:

القول الأول:تجب على الزوج، وإليه ذهب الحنفية ([7]). القول الثاني:تجب على الزوجة، وإليه ذهب المالكية ([8]) والحنابلة ([9]). القول الثالث: تجب على الزوج إن كان غنيا، و إلا فمن مال الزوجة نفسها، وإليه ذهب الشافعية([10]).

الحق الثاني: الديون. الديون: جمع دين، وهو ما استقر في ذمة المرء ([11]). والديون نوعان:

الدين الأول: ديون لله تعالى:هي: ما وجب على الميت من كفارات وزكوات ونذور وحج إذا لم يقم بها في حياته؛ ولذا ينبغي على العبد المسلم ما دام حياً المبادرة بأداء ما عليه من حقوق لله سبحانه، حتى تبرأ ذمته قبل موته، فإن وارثه قد لا يقوم بها، وإن قام بها قد يتباطأ في أدائها.

النوع الثاني: ديون للبشر:هي ما يستقر في ذمة المرء من دين لغيره، كالقرض والشراء بالمؤجل. وقد رهب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستدانة لغير حاجة، فعن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً حيث توضع الجنائز فرفع رأسه قبل السماء ثم خفض بصره فوضع يده على جبهته فقال: سبحان الله سبحان الله ما أنزل من التشديد قال: حتى إذا كان الغد سألت الرسول صلى الله عليه وسلم فقلنا: ما التشديد الذي نزل؟ قال: في الدين، والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي دينه ([12]).

وتجوز الاستدانة مع قصد أدائها في النفقات الواجبة ونحوها ([13])، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعه)([14]).

وتنقسم الديون التي لله تعالى أو للبشر إلى قسمين:

القسم الأول: ديون مرسلة.

هي ما تعلقت بذمة الميت. كمن اقترض مبلغاً من الريالات فأنفقها، ومن نذر لله تعالى أن يذبح كبشاً ولم يعينه، فإنهما دينان مستقران في ذمة المدين.

القسم الثاني: ديون متعلقة بعين من تركة الميت.

هي الديون المرتبطة بشيء من التركة. كمن اشترى سيارة بالمؤجل، ومات وهو مفلس قبل سداد قيمتها، فإن السيارة عين من تركة هذا الميت، لأنه مالك لها لكن قيمتها متعلقة بنفس السيارة ([15])، وكذا من نذر لله تعالى ذبح كبش معين من كباشه، ومات الناذر قبل وفاء نذره، فإن الكبش المعين، دين متعلق بعين من تركة هذا الميت.

الحق الثالث: الوصية.
من رحمة الله تعالى بهذه الأمة، أن فتح لها أبواب الأعمال الصالحة التي يستمر ثوابها باستمرار نفعها بعد موت صاحبها، وذلك كوقف معجل في حياة الموقف، أو الوصية بعد الموت لغير الوارث منه، صلة للرحم أو مكافأة على إحسان ومعروف، أو صدقة على فقير، أو بنحو بناء المدارس والمستشفيات والمساجد، ونشر الكتب النافعة.

فإن كانت الوصية لوارث وأذن بها الورثة قبل موت الموصي، لم تنفذ إلا بإذن بقيتهم بعد موت الموصي، وعند مالك، تصح بإذنهم الذي قبل موته. وإن كانت الوصية لغير وارث: فإما أن تكون بالثلث فما دونه مما بقي من التركة بعد مؤن التجهيز والديون إن وجدت، فتجوز بغير إذن الورثة، وإما أن تكون بأكثر من الثلث، فلا بد من إذنهم بالزائد، وذلك بعد موت الموصي، كما تقدم([16]).

الحق الرابع: الإرث.
هذا هو حق الورثة من تركة مورثهم. وسيأتي تفصيل الحديث عنه في الباب الثاني.

المسألة الثالثة: اجتماع الحقوق الأربعة في التركة.

إذا اجتمعت تلك الحقوق الأربعة، فللتركة حالتان:

الحالة الأولى: أن تكفي التركة لجميع تلك الحقوق. وحينئذ توزع التركة على تلك الحقوق، بحسب كل منها. كمن توفي وعنده تركة قدرها: مائة ألف ريال. ومؤن تجهيزه بألف ريال، وعليه ديون لله تعالى أو للبشر أو لله تعالى وللبشر بعشرين ألف ريال، وقد أوصى بعشرة آلاف ريال لشراء كتب شرعية، توزع على طلبة العلم، وله ورثة، فحينئذ يجهز، وتقضي ديونه، وتنفذ وصيته؛ لأنها أقل من ثلث ما بقي من التركة بعد المؤن والديون، وتقسم بقية التركة وهي تسعة وستون ألف ريال على ورثته، وبأي هذه الحقوق الأربعة بدئ، صح وأجزأ.

الحالة الثانية: أن لا تكفي التركة لجميع تلك الحقوق الأربعة، وحينئذ التركة في هذه الحالة، ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن تكفي لمؤن التجهيز والديون فقط. فيجهز الميت وتقضي ديونه، أما وصاياه وحق الورثة ن فيسقطان.

القسم الثاني: أن تكفي التركة لواحد من الديون أو مؤن التجهيز، وحينئذ تسقط الوصية والإرث. لكن هل تُقدم الديون أم مؤن التجهيز؟

إن كانت الديون مرسلة، فتقدم عليها مؤن تجهيز الميت، باتفاق الفقهاء ([17]).

وإن كانت الديون متعلقة بعين من التركة، ففي تقديمها على مؤن التجهيز، قولان للفقهاء:

القول الأول: تقدم هذه الديون، وإليه ذهب الحنفية ([18])، والمالكية ([19])، والشافعية([20]).

القول الثاني: تقدم مؤن التجهيز، وإليه ذهب الحنابلة ([21]).

القسم الثالث: أن تكفي التركة لمؤن التجهيز والديون والوصايا فقط، وحينئذ تقدم مؤن التجهيز والديون، أما الوصايا، فلا تنفذ بكاملها، وإنما يقسم الباقي بعد المؤن والديون على ثلاثة: ثلث للوصية، وثلثان للورثة.

المسألة الرابعة: إرث التركة المحرمة.

التركة المحرمة: ما كسبت من حرام، ولإرثها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون جميعها محرماً. وهذه يحرم إرثها. ولكن إن علم أصحابها: فإن لم يعتاضوا عنها، كالحاصل من الزيادة الربوية والسرقة والغصب ونحوها، ردت لأصحابها، لأنها أخذت منهم بغير حق، ولم يعتاضوا عنها بشيء.

وإن اعتاض أصحابها عنها بمحرم، كمهر البغي وحلوان الكاهن، لم ترد إليهم، لأنهم اعتاضوا عنها بمنافع لهم. وحينئذ تصرف هذه الأموال مع ما لم يعلم أصحابها مطلقاً، في وجوه البر، تخلصا منها، لا بنية الصدقة، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.

الحالة الثانية: أن يكون بعض التركة محرما. وهذا ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يعلم عين المحرم، فيخرج من التركة على ما تقدم في التركة المحرم جميعها.

القسم الثاني: أن لا يعلم المحرم بعينه، فيخرج قدره من التركة إن علم، و إلا تحري في قدره وأخرج في وجوه البر.

الحالة الثالثة: أن يشتبه في وجود المحرم في التركة، فإن كان مجرد شك ووسوسة، فلا عبرة بهما، وتورث التركة. وإن كان الشك لوجود قرائن جاز إرث التركة، لأن الأصل الحل، ويجوز عدم إرثها، تورعاً