التربية الصامتة (التربية بالقدوة)


{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

تعريف القدوة:

لغة: القدوة: الأسوة، يقال: فان قدوة: يقتدى به ([1]).

اصطلاحًا:1- عام: تعنى نماذج بشرية متكاملة تقدم الأسلوب الواقعي للحياة في مجالاتها المختلفة السلوكية والانفعالية والعلمية والاجتماعية ([2]).

2- القدوة في الدعوة: الداعية الذي جمع إلى سلامة معتقده وقو إيمانه حسن خلقه، وعلو همته، وجمع إلى سعة علمه حسن وفقه العمل به والدعوة إليه، وحيد على ذلك كله ([3]).

3- القدوة في التربية:هو الشخص المربي الذي يدعو إلى أنواع الفضائل والكمالات السلوكية، والأفكار السليمة الصحيحة، وقد عمل بها واتصف بها من قبل ([4]).

والقدوة هي الأسوة كما قال ابن منظور – رحمه الله – وقد جاء ذكر الأسوة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4] وقال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله-: والأسوة كالقدوة، وهي إتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة.

والقدوة الحسنة في الإسلام تنقسم إلى قسمين:


1- قدوة حسنة مطلقة:أي معصومة من الخطأ والزلل، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، القدوة العظمى، والأسوة الكبرى، صاحب الخلق الأكمل، والمنهج الأعظم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

2- قدوة حسنة مقيدة: أي: بما شرعه الله – عز وجل – لأنها غير معصومة، كما هي في الصالحين والأتقياء
التربية بالقدوة

والقدوة في التربية:هي أفعل الوسائل التربوية جميعًا، وأقربها للنجاح. لا بد من قدوة: لذلك بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ليكون قدوة الناس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

ووضع في شخصيته صلى الله عليه وسلم الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي، والصورة الحية الخالدة على مدار التاريخ.

وقد علمنا رسول الله رائد التربية الإسلامية أن يقصد المربي تعليم طلابه بأفعاله، وأن يلفت نظرهم إلى الاقتداء به؛ لأنه يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحسن صلاته وعبادته وسلوكه بهذا القصد، فيكسب ثواب من سن سنة حسنة إلى يوم القيامة ([1]).

وهكذا يظهر بجلاء أن التربية بالقدوة من أنجح وأنفع وسائل التربية، فليس أقوى في دفع الولد أو التلميذ إلى الحرص على صلاة الجماعة؛ من رؤية والده، أو شيخه وهو يعظم صلاة الجماعة، وبدون هذه القدوة لا ينفع في المتربين تأديب، ولا تؤثر فيهم موعظة، فاتقوا الله أيها المربون في هذه القدوة.

وقد تنبه السلف الصالح – رضوان الله عليهم – إلى هذا الأمر وأهميته فهذا عمرو بن عنيسة ينبه معلم ولده لهذا الأمر فيقول: لتكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، ولهذا يظهر أنه لا مجال للتربية الإسلامية الصحيحة عندما يرى المربون القدوة الصالحة التي تمتثل لأوامر وتستجيب لها، وتنزجر عن النواهي وتمنع عنها ([2]).

ومن هذه القدوة الصالحة التي تجسدت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان انتشر الإسلام في كثير من البلدان في شرق الدنيا وغربها.

وأن التميز الخلقي المتمثل بالقدوة الصالحة هو من أكبر العوامل في التأثير على القلوب والنفوس، ومن أعظم الأسباب في نشر الإسلام، وفي هداية البشر إلى سبيل الإيمان ([3]).

فإلى كل المربين الصادقين نقول لهم: اتقوا الله في هذه الأمانة التي حملتموها، واعلموا أنكم مسؤولون أمام الله عن كل تصرف تعملوه؛ لأنكم قدوة يحتذي الشباب بها، فكونوا على قدر المسؤولية، واعلموا أنه لا بد من قدوة صالحة لنجاح التربية، ونشر الفكرة، ولا بد من مثل أعلى ترنو إليه الأعين، ومن هنا كان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يظهر المربي أمام من يقوم على تربيته بمظهر القدوة الصالحة في كل شيء.

أهمية التربية بالقدوة

1- إن من طبيعة البشر وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، أن يتأثر بالمحاكاة والقدوة، فيتأثر المتربي دائمًا بطبيعة المربي، ويحاكيه دائمًا.

2- إن في القدوة إيصالاً سريعًا للمفاهيم التي يريد المربي إيصالها للمتربين؛ لأنه أوصلها في واقع تطبيقي إلى جانب الواقع النظري.

3- إن قدوة المربي الحسنة لها تأثير على إقبال المتربين عليه، واستجابتهم وتأثرهم وانقيادهم له، وثقتهم به.

4- القدوة وسيلة تربوية حية تجسد الكلمات إلى أفعال والأقوال إلى أعمال، ولهذا أمرنا – عز وجل – بالاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبله إبراهيم والذين آمنوا معه.

5- ضرورة اتصاف المربي بصفات القدوة الحسنة، ليرى فيه المتربون أٍسوة يقتدى بها، ومثلاً يحتذى به، يستدركون نقصهم من خلال رؤيتهم لكمال صفاته؛ فينبغي لكل مربي أن يكون قدوة حسنة؛ يرى فيه المتربون قوة الإيمان وحسن الخلق وسلامة السمت من خوارم المروءة.

6- ندرة المربين القدوات في هذا الزمان وقلتهم، وعدم استشعار المربين؛ ما لهذه القدوة من تأثير كبير في تربيتهم للشباب، وأنهم تحت المجهر، وأن لكل عمل يقومون به تأثيرًا إيجابيًا أو سلبيًا في نفوس المتربين.

7- إن المربي عندما ينزل مستوى فعله عن مستوى عمله، فإنه كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.

كيف يكون المربي قدوة لغيرة؟

السيرة والقدوة الحسنة التي يكون بها المربي نموذجًا للمتدربين ترجع إلى أصول:

1- حسن الخلق: وهو الركيزة الكبرى، والعامل الأبرز في إبراز القدوة وتجليته للمتربين، وحبهم له، وتأثرهم به، وقد قال الله – تعالى – للمربي الأول صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

ومن أهم الأخلاق التي ينبغي أن تكون بارزة في تعامل المربي مع المتربين: الصبر، الزهد، الجود والكرم، التواضع، العفو، الحلم، الوفاء، الصدق، الرفق ولنا إسهاب بإذن الله في هذه الأخلاق في موضوع مستقل في هذه الرسالة.

2- موافقة العمل القول: وعلى المربي أن يحذر أن تخالف أعماله أقواله؛ لأن النفس مجبولة على الإعراض عن كلام من لا يعمل بما يقول، ولهذا قال شعيب – عليه السلام -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].

ولقد حذرنا الله من مخالفة أفعالنا أقوالنا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] فعلى المربي إذا أراد أن يربي من تحته تربية صادقة؛ أن يجعل دائمًا أعماله توافق أقواله، فإن هذا أدعى إلى القبول بإذن الله.

3- البعد عن مواطن الشبه وخوارم المروءة: ويحسن للمربي أن يكون على درجة كبيرة من الشفافية والتحسس، وليبقى بعيدًا عن موارد الظنون ومواقع التأويلات.

قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق من يقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخرج؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم

صفات المربين القدوات

1- الإخلاص لله – تعالى -:


الإخلاص لله – تعالى – أحد أركان قبول العمل، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وهذان ركنا العلم المتقبل؛ فلا بد أن يكون خالصًا لله، صوابًا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى مثل هذا عن القاضي عياض – رحمه الله – وغيره.

والإخلاص مما أمر الله به في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 6] وإذا لم يكن العمل خالصًا كله لوجه الله لم يقبل من صاحبه كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله – تعالى -: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» ([1]).

وهنا يتبين أن المربي غير المخلص لله في عمله يكون غير ناجح في الآخرة ومردود عليه عمله فكيف يكون ناجحًا في الدنيا ولكن المربي إذا أخلص في عمله؛ يبارك الله له فيه ولو كان قليلاً.

إن المربي إذا اخلص لله في عمله تأثر به المتربون تأثرًا كبيرًا، فيصل كلامه وموعظته إلى شغاف قلوبهم، ولقد سمع الحسن البصري – رحمه الله – واعظًا في المسجد؛ لم يجد أثرًا لكلامه في قلبه، فقال له: يا هذا والله إن في قلبي لشيئًا، أو في قلبك شيئًا، وكما قيل إن الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يجاوز الآذان.

2- الحرص التام على الفرائض والالتزام بالنوافل والسنن:


طريق التربية طويل وشاق ويحتاج إلى زاد يتقوى به المربي على السير في هذا الطريق قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 6].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153]، ولقد كانت الصلاة من أعظم ما يتزود به النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرته الدعوية فكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وكان يقول أيضًا: «أرحنا بها يا بلال».

وليبشر المربي بالنجاح في تربيته؛ إذا وصل إلى هذه المرتبة العظيمة، ولا شك أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم؛ لدفع الناس إلى سبيله لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم، ورقابتهم له أوضح.

وكيف يربي المربي الناس على أمور هو مفرط فيها ومضيع لها أو على الأقل متهاون فيها، وهذا مما يضعف همته في التربية ويفقده الحماس المطلوب للعملية التربوية، بل يجعل المتربين لديه غير متأثرين به؛ لأنهم يرونه قدوة غير صالحة في هذا المجال يقول محمد أحمد الراشد: [في كتاب الرقائق]: فإن من يتخرج في مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله، والمتخلف يابس قاس تقسو قلوب الناظرين إليه، والدليل عند بشر الحافي منذ القديم شاهده وأرشد إليه فقال: بحسبك أن أقوامًا موتى تحيا القلوب بذكرهم وأن أقوامًا أحياء تقسو القلوب برؤيتهم.

3- استشعار القدوة:


من صفات المربي استشعاره أنه قدوة للآخرين، وخصوصًا من يربيهم وهم ينظرون إليه فيما يقول ويفعل ويتصرف، فما فعله فهو الحق عندهم، وما تركه ولم يهتم به فلا يلتفتون إليه في الغالب. ومن هنا وجب على المربي أن يكون حريصًا جدًا على سلوكه معهم، حتى لا يفسد بفعله ما يدعو إليه بقوله، وإن التأثير بالقدوة يختصر المسافات التربوية الطويلة، ويخفف من الجهود المبذولة في غرس كثير من المفاهيم المطلوب غرسها في المتربين، والقدوة الأولى في ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} [الأحزاب: 21] وكان يقول: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ([2]).
إن المربي قدوة في عبادته وذكره وسمته وجميع فعاله فإذا رآه المتربون ذا سمت وهدى حسن؛ تأثروا به وإن كان حريصًا على طلب العلم وعلى الدروس حرصوا على ذلك، وإن رأوه حريصًا على الدعوة؛ نشيطًا فيها مضحيًا بجهده ووقته وماله تأثروا بذلك، وأصبحوا حريصين على الدعوة حتى ولو لم يسمعوا كلامًا كثيرًا عنها، أو يقرؤوا عنها كثيرًا، فالفعل من المربي أبلغ كثيرًا في نفوس المتربين من كثير من الدروس والكلمات. وإن كثيرًا من صفات المربي الناجح قد تنتقل منه إلى المتربين عنده بفعل القدوة الحسنة، وربما لا يشعر هو بذلك أو لا يعيره اهتمامًا كبيرًا، فليجعل المربي من نفسه قدوة لهم وليستشعر ذلك ويحاسب نفسه عليها.

4- الصبر وطول النفس:


الصبر صفة لازمة لمن يريد النجاح في عمله، ولذا لا بد للمربي الذي يريد النجاح في تربيته من أن يستخدم الصبر زادًا يستعين به لذلك كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. ولقد بشر القرآن الكريم بالفلاح لمن صبر في الدنيا والآخرة وبشر الصابرين، والصبر توجيه من الله – سبحانه – لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي احتمل وعانى من قومه ما عانى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وإن الناظر لسيرة أولى العزم من الرسل سيرى عجبًا، إذ كيف صبر نوح – عليه السلام – صبر على أبيه وقومه صبرًا جعله أمة وحدة.

وإن المربي قدوة لمن يتربون على يديه وإمام لهم ولن ينال هذه المرتبة التي تؤثر في نفوس من حوله إلا بالصبر.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

إن الصور التي يجب على المربي القدوة أن يتحلى بها كثيرة منها:

- الصبر على النفس ورغباتها وشهواتها ونفورها من العمل التربوي الشاق الطويل، الذي لا تظهر ثمرته سريعًا فتحمل النفس من ذلك، وكذلك حبسها عندما تراوده في حب الظهور والعجب وغيرها من شهواتها الخفية.

- الصبر على أداء الطاعات والاجتهاد في ذلك وحبس النفس عليها مع ما في ذلك من مشقة على النفس وخصوصًا في بداية الطريق.

- الصبر على المنهيات من معاص ومنكرات بل وحتى البعد عن الشبهات استبراء لدين المربي وأدعى لمحبة المتربين له وقبولهم منه.

- الصبر على المتربين وتحمل أخلاقهم ومعاملتهم، وعدم الاستعجال عليهم؛ لأن العملية التربوية تحتاج لوقت طويل وصبر لا ينقطع.

الأشكال التربوية للقدوة ([1])

ينتقل تأثير القدوة على أشكال أهمها:

1- التأثير العفوي غير المقصود:


يقوم هنا تأثير القدوة على مدى اتصاف الداعية بصفات تدفع آخرين إلى اتخاذه قدوة، كإخلاصه، أو صدقة أو دقة مواعيده، وفي هذه الحالة يكون تأثير القدوة عفويًا غير مقصود، وهذا يعني أن كل من يرجو أن يكون قدوة يجب أن يعلم أنه مسؤول أمام الله في كل ما يتبعه أو يقلده فيه المعجبون.

2- التأثير بالمقصود:


كأن يجود الإمام صلاته ليعلم الناس الصلاة الكاملة، يقرأ المعلم قراءة نموذجية ليقلده طلابه، وتقدم القائد أمام الصفوف ليبث الشجاعة والتضحية في نفوس الجند، وقد تعلم الصحابة الكثير من أمور الدين لما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعلموا منه ويقتدوا به فكان يقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ([2]).

وكان يأمرهم في الحج أن يقتدوا به قائلاً: «خذوا عني مناسككم» ثم كان الصحابي يقول للتابعين: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ([3]).
وكان – عليه السلام – يسمعهم الآية أحيانًا «في صلاة الظهر مع أنها سرية».

الآثار التربوية للمربي القدوة

1- توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة انتقالاً غير مباشر بالمحاكاة والتقليد، عن أبي الصوت التميمي قال: قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبجد فتعلم من توقيه في الكلام؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظًا للسانه منه.

2- تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز، والمنشط لكثيرين لمحاولة الوصول إليها، وبذل الجهد في ذلك.

3- يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط من المتربين ارتباطًا مباشرًا، فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله؛ فسيساهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية راشدة.

4- اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسيه مؤثرة بحسب حاله، ولأن سوء سيرة المربي تذهب بركة علمه وتفقده تأثيره وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تذهب بركة علمه مني.

القدوة المربي الأول صلى الله عليه وسلم

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.


لقد جعل الله – تعالى – محمدًا صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، ومثالاً حيًا لمنهجه العلوي المعجز، وقد كان صلى الله عليه وسلم الداعية والمربي الأول، والمثل الأعلى والقدوة الحسنة؛ إذ فيه يرجع الكمال في كل شيء، ومنه يعرف الكمال في كل شيء، ولا كمال لأي مربٍ إلا بإتباعه والاقتداء به والتأسي بهديه صلى الله عليه وسلم، فعلى المربين أن يسيروا على هذا المنهج في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يربون الأجيال، ويصنعون جيلاً صادقًا يحمل هم هذه الأمة، ويعيد لها عزها ونصرها ومكانتها، وهم يواجهون الجاهلية الحديثة.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يستخدم القدوة كأسلوب تربوي لأصحابه في أغلب خصال الخير، وأنواع الهدي، وهذه بعض سجايا الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته التي اتصف بها، والتي هي من أساسيات شخصية القدوة التي يجب على المربين القدوات التحلي والتأسي بها تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

أولاً: القدوة بالصبر:


الصبر من الصفات اللازمة لكل إنسان؛ إذ بدونه لا يستطيع بلوغ ما يريد، وإذا كان الصبر لأي إنسان من لوازم بقائه وسيره في الحياة، فالصبر أشد ضرورة للمسلم من غيره، وإذا كان الصبر ضروري للمسلم فإنه أشد ضرورة في حق المربين القدوات؛ لأنهم يحتاجون إلى قدر كبير من الصبر وتحمل الأذى، ولقد عرضنا هذا الأمر في مبحث صفات القدوات بإسهاب، ولكن هنا نقتطف مثالاً لصبر القدوة الأولى صلى الله عليه وسلم ليأخذ المربون العظات والصبر في تربيتهم للغير.

* صبره على أذى المشركين في مكة حيث ناله منهم الشيء الكثير، منها وضعهم الجزور على رأسه وهو ساجد صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى أهل الطائف الذي ذهب إليهم؛ ليدعوهم إلى الإسلام وكذلك صبره على أذى المنافقين واليهود في المدينة صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: القدوة بالزهد:


والزهد ليس مطلوبًا لذاته، إنما لما يترتب على وجوده من تربية للنفس، وتقديم للشخصية القويمة السوية، وإن الحرص على أي أمر من الأمور المطلوب الزهد فيها يعد خللاً في المواصفات الشخصية الإسلامية السوية، ومن هنا تمكن أهمية الزهد، وضرورة اعتماده وسيلة من وسائل التربية، ومن الفوائد التربوية له:

1- إن الزهد يدفع باتجاه التضحية والجهاد، اللذين فيهما إعزاز للأمة. 2- إن الزهد ينقي النفس مما يعتريها من أمراض القلوب. 3- في الزهد صفاء للروح، وارتقاء لها في سلم الكمال. 4- فيه تهذيب للأخلاق وصلاح لها.

5- إن المربي الزاهد أقدر على استحواذ مشاعر المتربين وكسب ودهم ومحبتهم، وبالتالي لكون سماعهم له ولتوجيه أكثر من سماعهم لغيره.

وبناء على ما تقدم، فلا بد من نموذج حي، وواقعي لحقيقة الزهد، يتأسى به المتأسون من سيرة المربي القدوة صلى الله عليه وسلم، لقد اختار لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، وليس عجزا عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض وكثرت غنائمها وعم فيؤها، ومع ذلك كان يمضي الشهر، ولا توقد في بيوته نار، توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي.
ثالثًا: القدوة بالجود والكرم:


السخاء أو الجود أو الكرم؛ من الصفات المحمودة التي ينبغي أن يتصف بها المربون القدوات، والكريم ينم عن طيب نفس، وبذل للموجود، وإثبات عملي للمخاطب، كما أن فيه استماله للنفوس، وكسب ودها، وللتدليل على أهمية الكرم والجود، وأهمية وجود الأسوة فيها نورد بعض الأمثلة على كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقدوة وأسوة حسنة في هذا المجال.

روى الإمام مسلم عن أنس – رضي الله عنه – قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم اسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.

- وقد أعطى المؤلفة قلوبهم مائة من الإبل، وأعطى صفوان بن أمية مائة ثم مائة ثم مائة.

رابعًا: القدوة بالتواضع:


والتواضع مطلوب من المسلمين عامة ومن المربين خاصة، فالتكبر والتعالي على الآخرين، والنظر بعين الاستصغار، ينقص المربي في أعين المتربين؛ لأن من طبيعة الناس التي جبلهم الله عليها أنهم لا يقبلون من يستعلي عليهم ويحتقرهم.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد سئلت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: «كان في مهنة بيته، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة» وقالت أيضًا: «كان يخيط ثوبه ويخصف نعله...».

وكان صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن إطرائه، فيقول لهم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله».

خامسًا: القدوة بالعفو:


والعفو يدل على نبل الأخلاق، ودماثتها، وطيب سجايا العافين، والعفو له وقع كبير في نفس المعفو عنه، ولا غرابة أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة والأسوة المثلى في عفوه عن الناس، لكمال خلقه، ولما للعفو من أثر كبير في قلوب الناس، واستمالتهم نحو العافي الذي ما أرسل إلا ليكون القدوة في ذلك وها هي نماذج من عفوه صلى الله عليه وسلم:

- عفوه عن قريش في فتح مكة رغم كل ما فعلوه وما كادوه له من أذى وقتل وقتال.

- عفوه عن الأعرابي الذي قدم المدينة قاصدًا قتله بدفع من أبي سفيان فكشف أمره وعفا عنه.

سادسًا: القدوة بالحلم:


الحلم صفة مهمة للداعية والمربي؛ لأنه يجمع القلوب ويذيب الإحن ويعطي قدرًا كبيرًا من الصلابة في مواجهة أشد المواقف، والمربي الغيور والداعية الناجح هو الذي يهتم بالحلم، والعفو ليحصل على غرضه، ولا يجعل الغضب والانتقام همه؛ لأن ذلك ينفر المرتبين، ويكون حاجزًا بينهم وبين المتربين وقبول التوجيه.

وهذه بعض الأمثلة على حلمه صلى الله عليه وسلم: - حلمه على اليهودي الحبر زيد بن سعنة الذي أساء الأدب وتطاول عليه فكان سببًا في إسلامه. - وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا خط بيده ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله .

سابعًا: القدوة بالصدق:


والصدق هو إحدى خصال القدوة؛ التي يجب أن يتصف بها المربي، حتى يتطابق مع بقية أعماله، كي يثق الناس بما يخبرهم به.

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك؛ حيث كان يلقب في الجاهلية بالصادق الأمين، ولا بد للمربي أن يكون صادقًا في أعماله وأقواله وأحواله كلها؛ لأن ذلك مداعاة لقبول المتربين له، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم كان من الحقائق المسلم بها عند قريش وما وصلت دعوته إلى قلوب الناس إلا بصدقة صلى الله عليه وسلم وهذا ما قاله أبو سفيان لهرقل عندما سأله أعهدتم عليه كذبًا قال: لا.

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم قدوة في صدقه، اقتدى به صحابته – رضوان الله عليهم -.

ثامنًا: القدوة بحسن المعاملة والتسامح والترفق:


حسن المعاملة والتسامح والترفق بالناس، ومن أهم الأساليب التربوية الناجحة والمؤثرة التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع من يريد تربيتهم وهدايتهم، وقد ترك في ذلك مثالاً طيبًا يبين لنا فيه كيف أن الرفق ولين الجانب يفتحان العقول ويستميلان القلوب، حتى يستطيع المربي أن يقذف فيها بكل ما يريد بذرة فيها من القيم والمعاني التي يسعى المربون لغرسها في القلوب.
أخرج مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، فقالت: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله»، فقالت: ألم تسمع ما قالوا، قال: «قد قلت وعليكم».

ودخل الصحابي أبو رفاعة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على المنبر، فقال: يا رسول الله, رجل غريب يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، فقال أبو رفاعة: فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدًا قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمه مما علمه الله ثم أتى على خطبته فأتم آخرها.

تاسعًا: القدوة باهتمامه بأمور الناس ومواساتهم:


إن المربي الناجح يجب أن يكون لديه المقدرة على الاهتمام بالآخرين، بأن يعطيهم ما عنده من الخير؛ لأن الاهتمام بالآخرين عنصر ضروري للتربية، لا بد أن يتوافر في المربي لكي ينجح في مهنته الخطيرة.

ولا بد للمربي أن يقرن اهتمامه بالمحب، والمتلقي الذي يشعر أن مربيه يحبه ويعطف عليه لا شك أنه يتجاوب معه ويسمع منه، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم للناس كالأب الحنون والقريب الشفيق، والصديق الحميم تشغله همومهم، وتملأ نفسه مشاعرهم، ويعودهم ويزورهم ويمنحهم من مودته وعطفه ووقته الشيء الكثير، ومن الأمثلة على ذلك:

- اهتمامه بأهل الصفة وتفقده لهم بين فترة وأخرى وإطعامهم. - بكاؤه على أصحابه الذين استشهدوا في معركة أحد. - بكاؤه على جعفر بن أبي طالب عندما استشهد في معركة مؤتة.

عاشرًا: القدوة بالعبادة:


إن العبادة ترسم للإنسان منهج حياته الظاهرة والباطنة، وتحدد سلوكه وعلاقاته؛ كما أنها وسيلة لتزكية النفس وطهارتها، بل هي من أعظم الأمور التي يتأثر بها المتربون، لأنها إذا صلحت عبادة المربي؛ صلحت باقي الأمور بإذن الله.

ومن عبادته صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة – رضي الله عنها – أنه كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل نائمًا إلا رأيته، ولا تشاء تراه قائمًا إلا رأيته.

- وكان كثير الاستغفار ويقول: «إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة». - وكان إذا صلى سمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل.
كيف يكتسب المربي القدوة؟

هناك عدة وسائل منها:
1- إصلاح الباطن: فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إلا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» ([1]).
2- إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات: وقال الحسن – رحمه الله -: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين، ومكث يحيى بن يحيى عامًا كاملاً يأخذ من شمائل مالك بعد أن فرغ من علمه.

3- الاطلاع على سيرة القدوة الأولى والمربي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم فإن فيها شحنًا للنفوس، وإيقاظًا القلوب الغافلة، ومنهاجًا للمربين الصادقين.

4- الاطلاع على حكايات العلماء، قال أبو حنيفة الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه.

5- لزوم الصالحين والقدوات الحسنة: فإن معاشرة هؤلاء ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس، والانضباط بوجودهم.

6- التنفيذ الفوري لما يتعلمه: عن الحسن قال: قد كان الرجل يطلب العلم، فما يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وعبادته وبره.

7- مجاهدة النفس وتعويدها على الخير: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه ومن يتقِ الشر يوقَه». وكان ابن مسعود يقول: تعودوا الخير؛ فإنما الخير عادة.
8- معاقبة النفس والشدة عليها عند التقصير: قال الجيلاني: لا تهربوا من خشون كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله.

صور من الإخلال بالقدوة

1- التفريط في الطاعات:


ما يجوز للعوام من الناس أن تفرط فيه قد ينكر على القدوة أن يفرط فيه أو يتكاسل عنه، ويزهد فيه، ومن ذلك قيام الليل، والتساهل في ترك السنن والنوافل والأذكار، والتأخر عن الصلوات وغيرها، فكيف يريد المربي أن يربي غيره على الطاعات والعبادات وهو مقصر فيها؟ فكيف يربيه على الصلاة وهو يتأخر عنها وعلى الصوم وهو لا يصوم إلا الفرض، فيحذر المربي من هذا المزلق الخطير في طريق التربية؛ لأن النفس مجبولة على الإعراض عن كلام من لا يعمل بعمله.

2- عدم المبالاة بملابسة الشبهات والمكروهات:


ترك الشبهات هو سمة القدوة، وديدنه ذلك؛ لأنه حريص على طلب البراءة لدينه، وعرضه من النقص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه» ([1]).

فانتبه أخي المربي من الوقوع في هذه الشبهات، واجعل دينك ومرجعك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعلماء الصادقين الثقات، لأنك مسؤول عمن تربيه؛ فإذا وقعت في هذه الأمور المنكرات؛ أوقعت من يقتدي بك فيها أيضًا.

3- الركون إلى الدنيا:


من الإخلال بالقدوة غلبه هموم الدنيا على المربي، وتشعب قلبه في أوديتها، وكثرة الانشغال بها، والتكاسل عن التربية والدعوة، وخلوده إلى الأرض مع القاعدين أو المتثاقلين، والاكتفاء من القدوة بالسمت الظاهري، وقد حذر الله – سبحانه وتعالى – من هذا المنزلق الخطير؛ إذ يقول عنه – عز وجل -: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

فلينتبه المربي والداعية إلى النزوح إلى شهواته وملذاته الدنيوية والركون إليها؛ لأنه بذلك يسحب إليه كثيرًا ممن يقتدون به.

4- الهزلية وعدم الجدية:


الأصل في القدوة أن يأخذ نفسه ويربيها على الجدية في كل الأمور، حتى ينشأ من يريد تربيتهم نشأة صحيحه؛ لأن ما ينقص الأمة الآن الجادين الصادقين، وما من مربٍ انزاح إلى الهزل والمزاح الزائد إلا ابتعد عنه الناس أو أنشأ لنا أشخاصًا ناقصي التربية، والأمة الآن أحوج ما تحتاج إليه إلى شباب أصحاب همم عالية يرتقون بأنفسهم وينهضون بأمتهم أجمع.

5- هدر الأوقات:


لا بد من القدوة أن يكون أحرص ما يكون عليه هو وقته، فلا يكون فوضاويًا لا أهداف له، ولا تخطيط ولا تنظيم لوقته، ومن أخطر المزالق على الداعية والمربي هدر الأوقات الكثيرة فيما لا ينفعهم, ولا يستفيدون منه في عملهم الذي اتخذوه لهم، وإذا وجد المتربي أن قدوته لا يحسب للوقت أي حسبان أو ثمن، فإنه ينشأ ويتربى على هدر الأوقات وعدم الاهتمام بها.

ليعلم الداعية والمربي أنه محاسب على كل ثانية في هذه الدنيا، وأنه سوف يسأل عنها، وأن الذي ينظر بعين الاهتمام للوقت هو الذي سوف ينجح في أموره كلها.

6- صور أخرى:


للإخلال بالقدوة صور كثيرة منها:
- العزوف عن تعلم العلم الشرعي. - الزهد ببعض السنن. - زيغ الأبصار. - كثرة الجدال. - التنصل من المسؤوليات. - كثرة الضحك والمزاح. - الانشغال بسفاسف الأمور. -

وختامًا..

أخي القدوة المربي: احذر ثم احذر!!
مما لا يختلف عليه اثنان أن الدعاة والمربين لا يثق الناس بهم ولا يأخذون عنهم، ولا يستجيبون لهم إذا كان كلامهم وأقوالهم تختلف عن أعمالهم وتصرفاتهم، ومهما وعظوا وذكروا فلا يتجاوز قولهم الآذان، ومهما تفاصحوا وأبدوا وأرعدوا فلا ينفذ كلامهم إلى القلوب.

من أجل ذلك كان إنكار القرآن الكريم على الذين تخالف أقوالهم أفعالهم عظيمًا، التنديد بهم مقرعًا وعنيفًا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون} [الصف: 2 – 3]، وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

من أجل هذا أخبر الصادق الصدوق – عليه الصلاة والسلام -: «إن الذين يقولون ما لا يفعلون في عذاب شديد يوم القيامة».

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فيقولون يا فلان, ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه».

واحذر! أخي المربي ثم احذر من مخالفة أقوالك أفعالك، فإذا أردت التوفيق والنجاح في مهمتك فالزم النهج الصحيح والاتباع المبين على هدي الحبيب صلى الله عليه وسلم واعلم أنك مسؤول أمام الله عن كل أقوالك وأعمالك، فأعد للسؤال جواب.

واعلم أيضًا أنك على ثغر عظيم، فالله الله لا يؤتي الإسلام من ثغرك، وعلق قلبك بالله، وتوجه إليه أن يساعدك في عملك، فإذا أردت النجاح والفلاح فعليك بالقدوة الحسنة المنبثقة من حبك للخير والهداية للناس أجمعين.

وأخيرًا:
هذا جهد بشري من أخ لكم، وجد ما للقدوة من تأثير كبير في مجال الدعوة والتربية، وأفردها هنا في هذا المبحث الصغير لأهميتها ومكانتها الكبيرة.

والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وصلى الله على محمد وعلى آله أجمعين.