كان الانسان وما يزال أكثر شىء جدلاً , فى عموم المخلوقات , قال عنه ربه :" وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا "
عنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ» .
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ:" مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ"

قد توعد النبى صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذى يصر على الجدال فى الباطل رغم علمه به , قال صلى الله عليه وسلم: "ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع"[أبو داود وصححه الأباني]
أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل التى لا تهدأ عنده غريزة الجدال , بل تظل ثائرة لأتفه الأمور و يشتد في خصومته, ويجادل حتى يجدل خصمه ويقهره بأنه والعياذ بالله الأبغض الى الله , فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلدّ الْخِصَم»

الجدل المذموم

وهو الذى يغلب على أصحابه حب النفس واتباع الهوى من أجل إشباع عريزة الحاجة الى الظهور والتميز عن الاخرين , فيغلب عليهم التعصب الاعمى ويسيطر عليهم الغضب , مما يفضى فى النهاية الى المنازعة والمخاصمة , وربما ادى الى أسواء من ذلك .
ويشيع هذا النوع بين عامة الناس وبسطائهم الذين لم يحصّلوا قدرا كافيا من العلم والثقافة , فما أن يطرح أحدهم موضوعاً ما إلا ويسارع المحيطين بإدلاء آرائهم وطرح أفكارهم , وبنفس السرعة يتحول الحضور الى فريقين مؤيد ومعارض , ويسير الجدال فى مثل هذه الظروف فى عدة مراحل من السئ الى الاسوأ :
* يحاول كل طرف أن يثبت تفوقه وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ وأن رأى الطرف الاخر خطأ لا يحتمل الصواب .
* إن كان فى الجلسة أكثر من اثنين تحول الامر الى فوضى , كما لو كانت سوقاً مملؤا بالصخب والضجيج , حيث يتسابق الجميع الى الكلام ومن ثم تعلوا الاصوات وتتداخل .
* إن لاح لأحد الطرفين أن نظيره أقوى حجة منه وأبين دليلا منه , سارع بالنيل من الاخر والتجريح فى شخصه والتقليل من شأنه بسخرية واستهزاء , محاولاً صرف الانظار بعيداً عن الموضع حتى يتسنى له الظهور عليه .
* أما الطرف المستهان به فلن يرضخ لمثل ذلك , فتراه تارة يدفع عن نفسه وأخرى يهاجم الاخر بمثل صنيعه .
ومن ثم فإن الجدال على النحو مجلبة للعداوة وذريعة للكذب وباباً من أبواب الفتنة واتباع الهوى وسبباً من اسباب التفكك الإجتماعى من جراء التعصب الذى يؤل الى التنابز والتنافر وتنامى الحقد والكراهية .


ولما كان هذا هو شأن الجدال والمراء , فقد تجنب السلف الخوض فيه , وحذروا منه , وورد عنهم آثار كثيرة فيه , نذكر بعضاً منها :

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً, وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً )
قال الحسن - إذ سمع قوماً يتجادلون - (هؤلاء ملوا العبادة , وخف عليهم القول , وقل ورعهم فتكلموا )
وقال ابن أبي الزناد : ( ما أقام الجدلُ شيئاً إلا كسره جدلٌ مثله )
وقال الأوزاعي : ( إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ، ومنعهم العمل )

وأخرج الآجُرِيُّ بسنده عن مسلم بن يسار - رحمه الله - أنه قال : ( إياكم والمراءَ ، فإنه ساعةُ جهلٍ العالم ، وبها يبتغي الشيطان زلته )
* وأخرج أن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - قال : ( من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل )
* كان أبو قلابة يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم .