قرن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بين اسمه القريب واسمه المجيب في مواضع، ولهذا الاقتران حكم وأسرار نعرضها في السطور التالية:


اقترانهما في القرآن:


قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (البقرة: من الآية 186)، وقال تعالى على لسان صالح عليه السلام (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ

مُجِيبٌ)(هود: من الآية 61) أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب.



وقربه تعالى نوعان: عام، وخاص.


فالقرب العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق، وهو المذكور في قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق: من الآية 16).


والقرب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه، وهو المذكور في قوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) (العلق: من الآية 19).


وهذا النوع، قرب يقتضي ألطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم ، والقرب هنا مستعار للرأفة والإكرام؛ لأن البعد يُستعَار للجفاء

والإعراض.



وهنا تساؤل: لماذا قال لهم صالح عليه السلام: (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ الآية)؟!


لأنهم استعظموا أن يكون جرمهم مما يقبل الاستغفار عنه، فأجيبوا بأن الله قريب مجيب


وقال العلماء:- والإضافة في "ربي" ولفظ "قريب" ولفظ "مجيب" واجتماعها وتجاورها.. ترسم صورة للحقيقة والألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب

الصفوة المختارة، وتخلع على الجو أنسًا واتصالاً ومودةً، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب!؛ ولكن قلوب القوم كانت

قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق، ولا وضاءة هذا

الجو الطليق



اقترانهما في السنة:


عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ

أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ قَرِيبًا مُجِيبًا يَسْمَعُ دُعَاءَكُمْ وَيَسْتَجِيبُ".



علة الإبطاء في الإجابة:


قال ابن الجوزي- رحمه الله- رأيت من البلاء العجاب؛ أن المؤمن يدعو فلا يُجَاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثرًا للإجابة، فينبغي له أن يعلم

أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر.



وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.


ولقد عرض لي من هذا الجنس، فإنه نزلت بي نازلة؛ فدعوت وبالغت، فلم أر الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.


فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟.


فقلت: اخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً.


ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفى في الحكمة.


قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.


فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عزَّ وجلَّ مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.


والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من

أشياء تؤذي في الظاهر بقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.



والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:


"لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي".


والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما

صدقت في التوبة منه.



فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود، كما روي عن أبي يزيد رضي الله عنه

أنه نزل بعض الأعاجم في داره، فجاء، فرآه فوقف بباب الدار، وأمر بعض أصحابه فدخل، فقلع طينًا جديدًا قد طينه، فقام الأعجمي وخرج.


فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال: هذا الطين من وجه فيه شبهة، فلما زالت الشبهة زال صاحبها.


وعن إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار منكر، فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي، فعاد ودخل المسجد، وصلى ثم خرج، فبصبص الكلب له

فمضى، وأنكر فزال المنكر.



فسئل عن تلك الحال فقال: كان عندي منكر، فمنعني الكلب، فلما عدت تبت من ذلك، فكان ما رأيتم.


والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.


وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: "إنك إن غزوت أسرت، وإن أسرت تنصرت".


والسادس: أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سببًا للوقوف على الباب واللجأ، وحصوله سببًا للاشتغال به عن المسئول.


وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ.


فالحق عزَّ وجلَّ علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طي البلاء