من المؤلم أن يشعر المرء بأن الحياة تحفل بالظلم. لكن ما الذي يحدث إن كان ذلك يعود علينا بالفائدة؟ بعض الناس قد يضرون أنفسهم على نحو غير متوقع، كما يقول توم ستافورد، المتخصص في علم النفس.


لا يبدو فرانس دي وال، أستاذ سلوك الكائنات المنتمية لرتبة الرئيسيات بجامعة إيموري الأمريكية، بطلا محتملا لواحد من تلك المقاطع المصورة الرائجة على شبكة الإنترنت. فبنيته الجسدية كشخص أكاديمي، وسترته الرمادية، ونظارته، لا تشكل التفاصيل المعتادة التي تثير الجلبة أو المشاعر على موقع «يوتيوب».
لكن الدراسة التي أجراها دي وال على القردة، وما تنطوي عليه من نتائج ذات صلة بطبيعة البشر، استحوذت على اهتمام الملايين من الأشخاص.
بدأ الأمر بمشاركة دي وال في واحد من أشهر المؤتمرات المعروفة باسم «TED»، التي تنظمها مؤسسة «سابلنيغ فاوندايشن» غير الهادفة للربح. وعرض الرجل خلال المؤتمر نتائج تجربة أجراها على اثنين من القردة، تضمنت التمييز بينهما في ما يُمنحانه من مكافآت على انتهاج سلوك معين يُطلب منهما.
وفي إطار هذه التجربة؛ وُضع قردان من فصيلة «الكبوشي»، كانا يعيشان في الأصل جنبا إلى جنب، في قفصين متجاورين، حيث دُربا على مقايضة حصى صغير الحجم كان بحوزتهما بقطع من الطعام يحصلان عليها كمكافأة.
واكتشف الباحثون أن القرود عادة ما تكون على استعداد لتسليم حجر تلو الآخر من تلك التي لديها للقائمين على التجربة، إذا ما كوفئت في كل مرة بشريحة من الخيار.
ولكن قرود «الكبوشي» تفضل حبات العنب على شرائح الخيار في هذا الشأن. فعندما أعطى الباحثون أحد القردين حبات عنب مقابل تسليمه الأحجار إليهم، ثار غضب القرد الذي في القفص المجاور، وبات يرفض قبول شرائح الخيار، رغم أنه كان سعيدا بالحصول عليها في السابق.
وهنا، بدا جليا أن ما كان مقبولا من قبل صار يرفض بمجرد أن اتضح أن ثمة جارا يحصل على مكافأة أفضل نظير قيامه بنفس الجهد.
ويمكن القول إن الجزء الأكثر أهمية في التسجيل المصور كان ذلك الذي قذف فيه القرد- الذي يُعطى شرائح الخيار- تلك الشرائح في وجه مساعد الباحث، الذي كان يعمل في المختبر ويحاول منحه قطع الخيار كمكافأة.
ولا يحتاج المرء لأن يكون عالما نفسيا لكي يدرك أنه يمكن أن تنتاب البشر ذات المشاعر التي سيطرت على القرد الذي مُنح مكافأت أقل شأنا. فالظلم يؤلم بالتأكيد.
ويرى دي وال أن مثل هذه النتائج تظهر أن تلك المشاعر الأخلاقية تشكل جزءاً من إرثنا البيولوجي، وتشكل نتيجة للحياة التي عاشها أجدادنا، وهيمنت عليها فكرة الحياة في إطار مجموعة تسود المساواة ما بين أفرادها، وتسيطر عليها الحاجة إلى إيجاد تناغم بين هؤلاء الأفراد.
ما سبق يشكل نظرية مطروحة في هذا الشأن. كما أن النتائج التي خلص إليها دي وال تظهر بشكل قاطع أن القردة؛ أبناء عمومتنا بحسب نظرية التطور، تتأثر بشدة بما يمكن أن نسميه «المقارنات الاجتماعية».
لكن التجربة لا توفر بحق أدلة قاطعة تفيد بأن القردة تنشد العدل. فبينما اشتعل غضب القرد الذي كان يحصل على مكافأة أقل شأنا، ليس ثمة دليل يشير إلى أن القرد الآخر كان مستاءً مما يجري.
أما بين البشر، فإذا أردنا القيام بمقارنة ما في هذا الشأن، فبوسعنا أن نجد أدلة قوية تفيد بأن غريزة العدالة قد تكون كامنة، حتى في نفوس أكثرنا رغبة في مزاحمة الآخرين والتنافس معهم لتحقيق الفوز.
وفي هذا السياق، يمكن لنا ضرب مثال بلاعبي الفرق المشاركة في بطولة الرابطة الوطنية لكرة السلة في الولايات المتحدة «الدوري الأمريكي لكرة السلة للمحترفين1، إذ أن أولئك اللاعبين مصنفون من بين أكثر الرياضيين دخلا في العالم. ففي موسم 2007 – 2008 تجاوزت رواتب أكثرهم دخلا 20 مليون دولار أمريكي. كما أن ما يزيد على 50 من هؤلاء اللاعبين حصلوا على رواتب بلغت 10 ملايين دولار أو أكثر.
وكان ذلك الموسم الرياضي مثيرا للاهتمام على وجه التحديد؛ إذ عكف عالما النفس غرايم هاينز وتوماس غيلوفيتش على دراسة تسجيلات أكثر من 100 مباراة جرت في إطاره، بحثا عن الأوقات التي احتسب فيها حكام تلك المباريات أخطاء كان من الواضح للاعبين أنها ليست كذلك على الإطلاق.
وبموجب القواعد المتبعة في كرة السلة، يؤدي احتساب خطأ من هذا النوع لمنح الفريق الذي يفترض أن المخالفة ارتُكِبتْ بحقه رميتين حرتين أو ثلاثا، وهو ما يعني إعطاءه الفرصة لإحراز عدد من النقاط.
وكان هاينز وغيلوفيتش مهتمان بدراسة طريقة تصرف هؤلاء اللاعبين- الذين يتقاضون رواتب عالية للغاية ويتسمون بنزعة تنافسية شديدة إلى حد متطرف- حينما يُمنحون رميات حرة وهم يدركون أنهم لا يستحقونها على الإطلاق.
وتجدر الإشارة إلى أن لدى هؤلاء الرياضيين كل الحوافز التي تدفعهم للاستفادة القصوى من هذه الرميات الحرة، بغض النظر عن كونهم قد حصلوا عليها بدون وجه حق.
ففي نهاية المطاف، يكسب أولئك اللاعبون قوت يومهم من خلال إحراز فرقهم الفوز بالمباريات، ومن ثم البطولات، وتلك الرميات الحرة قد تُمَكِنُهم من إحراز نقاط ربما تؤدي لحسم نتيجة مباراة ما.
رغم ذلك، وجد هاينز وغيلوفيتش أن دقة تصويب اللاعبين للرميات الحرة، التي حصلوا عليها دون وجه حق، كانت متدنية على نحو غير معتاد. فقد كانت دقة التصويب أقل مقارنة بمتوسط نسبة دقة تصويب الرميات الحرة في الدوري الأمريكي لكرة السلة، كما كانت أدنى من النسبة الخاصة بدقة تصويب اللاعبين أنفسهم للرميات الحرة بوجه عام.

إلى جانب ذلك، بلغت دقة تصويب الرميات الحرة التي حصل عليها اللاعبون «ظُلما» أدنى مستوياتها، حينما كان الفريق الذي احتسبت لصالحه تلك الرميات مُتقدماً على منافسه، بما لا يجعله يحتاج كثيرا لإحراز المزيد من النقاط.
ولكن، وفي نتيجة بدت ذات دلالة كبيرة، كانت نسبة دقة التصويب أقل من معدلها في المتوسط، حتى عندما كان الفريق متأخرا وبحاجة لإحراز النقاط، سواء أُحرزت تلك النقاط عن استحقاق أو غير ذلك.
فإذا كان اللاعبون في واحدة من أكثر الرياضات تنافسية وتربحا يمكن أن يحجموا عن إحراز النقاط بفعل الشعور بالذنب على ما يبدو، فإن ذلك أوحى لي بأن غريزة توخي العدالة والحرص عليها يمكن أن تبقى حية متوقدة حتى في أشد البيئات قسوة وشراسة.
وفي نهاية المقطع المصور الذي يتضمن التجربة التي جرت على القردين؛ قال دي وال مازحا إن السلوك الذي بدا من تلك التجربة يشابه سلوك من يتظاهرون احتجاجا ضد المؤسسات الاقتصادية الكبرى والجشع الذي يرونه كامنا فيها، وهي تلك الاحتجاجات التي تحمل اسم «احتلوا وول ستريت»، نسبة لمنطقة تحمل الاسم نفسه في مدينة نيويورك الأمريكية، وتضم مقر سوق المال هناك.
ولاشك في أن دي وال مُحق في أن انزعاجنا من عدم المساواة في الأجور ربما تمتد جذوره في أعماق نفوسنا، تماما كما كان انزعاج القرد الذي ظهر في التسجيل.
بل إن مثل هذه المشاعر ربما تكون أكثر عمقا في النفوس. فتحليل سلوك لاعبي كرة السلة، يشير إلى أنه عندما نكون بصدد الاستفادة من قرار ظالم ما، حتى وإن كان ذلك سيبرر حصولنا على رواتب تقدر بملايين الدولارات، فإن جانبا منّا يشعر بعدم الارتياح إزاء هذا الموقف، وربما يصل الأمر إلى حد أن يعمل ذاك الجانب على تقويض الفرص السانحة لنا للاستفادة من مثل هذا القرار.
ولهذا السبب، فلا يتعين عليك حتى هذه اللحظة على الأقل أن تكف عن الاعتقاد بوجود إيمان بالعدالة وحرص عليها في نفوس المصرفيين، والرياضيين الذين تبلغ ثرواتهم ملايين الدولارات.