بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السموات العُلا، والصلاة والسلام على نبيه المرتضى، وآله وصحبه أهل الصلاح والوفا، وبعد :


فقد قال سبحانه : ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا *عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 4 - 8].


قال تعالى : ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا


قيل : "في الكتاب" : اللوح المحفوظ، وقيل : التوراة، وقيل : القرآن، وجميعها صحيح؛ أيْ : كتَبَ اللهُ هذا الأمر في اللوح المحفوظ والتوراة والقرآن.



﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾؛ أيْ : إنَّ الله تعالى علِم أن اليهود سيفسدون مفسدتين عظيمتين، يقترفون فيهما أقبح الذنوب والآثام؛ كالشركبالله، وتحريف التوراة والإنجيل، وقصد إضلال الناس، والسعي إلى نشر الربا والفواحش، وتعاطي السحر، وأكل أموال الناس بالباطل، وإشعال الحروب، وقتل النساء والأطفال والأبرياء بغير حق، وهذه المفاسد مقترنة بتكبُّر واستعلاء، فمِن عقائدهم أنهم شعب الله المختار، وغيرهم من الأمم حيوانات وحشرات خلقها الله على صورة البشر؛ كي لا تؤذي بصرهم.


﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ﴾ [الإسراء: 5]، ﴿ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ﴾؛ أَيْ : ملكوها وساروا بينها، وقعت المفسدة الأولى في بني إسرائيل - والله تعالى أعلم - بعد وفاة سليمان عليه السلام؛ إذ انتشر فيهم قتل الأنبياء وتحريف التوراة وتعاطي السحر واقتراف الفواحش وأكل الحرام، فسلَّط عليهم الله تعالى بختنصر ملك بابل، فقتل منهم طائفة كبيرة، وأسَر طائفة، وشرَّد الباقي، وتحتمل الآية - والله تعالى أعلم - أن المفسدة الأولى عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كذَّبه اليهود في المدينة وخانوه وحاولوا قتله وعملوا على تفريق أصحابه بإحياء صراعات الجاهلية، فسلَّط الله عليهم رسوله والمؤمنين، فقتلوهم شر قِتلة في غزوة خيبر.


﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ [الإسراء: 6]؛ أَيْ : إنَّ الله سينصر اليهود على المسلمين بسبب تضييع المسلمين لدينهم، ويُغدِق الدنيا على اليهود ويجعل حلفاءهم أكثر من المسلمين، وقد وقع هذا في سنة 1948 م؛ حيث احتل اليهود بيت المقدس وفلسطين كاملة وبعض الأراضي العربية في الحروب التي شنَّتها عصابات الهاغانا، والجيش الإسرائيلي في حرب الأيام الستة سنة 1967 م.


﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [الإسراء: 7]؛ أيْ : إن تاب اليهود في هذه الفترة وأسلَموا واتَّبعوا النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطَّيبات ويُحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فقد أحسَنوا لأنفسهم وأهليهم، وإن أساؤوا بإصرارهم على كفرهم وطغيانهم، فقد أساؤوا لأنفسهم وأهليهم.


﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 7]، ثم يقترف اليهود المفسدة الثانية التي نعيشها في هذا الزمان، فهم يقفون وراء كل منكر على وجه الأرض، ويشنُّون حروبًا ظالمة على الأبرياء والمستضعفين في غزة والضفة الغربية، فيقتلون الأطفال والنساء، ويهدمون البيوت، ويحرقون الأشجار، ويفِرُّون من المقاومة، فينتصر المسلمون إن شاء الله عليهم ويُذلُّونهم ويهينونهم ويقتلون فيهم ما استطاعوا لذلك سبيلاً، ويَدخلون المسجد الأقصى كما دخله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا سيقع في معركة عظيمة تُسمَّى عند اليهود بهرمجدون، تُحرَّر فيها فلسطين وبيت المقدس ويُردُّ الحق فيها لأهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي : يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله))، وزاد مسلم : ((إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود)).


﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ﴾ : الخطاب موجَّه للمسلمين؛ أيْ : إن الله سيرحم المسلمين الذين تمسَّكوا بدينهم وصبروا على أذى اليهود؛ لأنَّ "عسى" في كلام الله تفيد التحقيق.

﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾؛ أيْ : إن عدتم أيها المسلمون إلى دينكم، فسنعود إلى نصركم، قال سبحانه : ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، وفي آية أخرى : ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، وتحتمل الآية : إن عدتم أيها اليهود إلى الإفساد مع الدجال، فسنعود إلى إهلاككم على يد عيسى عليه السلام والمؤمنين.


قال صلى الله عليه وسلم : ((يتْبَع الدجالَ سبعون ألفًا من يهود أصبهان))، وفي بعض الروايات أن الدجال يقاتل المسلمين بجيش من اليهود والمنافقين، فينزل عيسى عليه السلام على المنارة البيضاء بدمشق ويقاتلهم، وبمجرد رؤيته يذوب مثل الملح، فيصيبه عليه السلام بسهم ليرى الناسُ دمَه.



﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾؛ أيْ : لليهود ومن كان على نهجهم من الكفار والمنافقين سجنًا ومِهادًا لا يخرجون منها.


نَسْأَلُ الله تعالى أن يتقبَّل منا جميعًا وأن يعلِّمنا ما جَهِلْنَا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.