سأعطيكم فكرة عن نقاط الاختلاف والاتفاق بين المذاهب الاربعة

إن أئمة المذاهب الأربعة قد انعقد (إجماعهم) على الأصول الكبرى لديانة الإسلام، وهذه الأصول هي:


1- وجود الله ووحدانيته: ذاتا وأسماء وصفات.

2- عصمة القرآن من التحريف.

3- ختم النبوات والرسالات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

4- أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

5- أركان الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.





هذه هي العقيدة الجامعة التي أجمع عليها الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل. فالمصدر هو ذات المصدر.. والمنهج هو ذات المنهج.. واليقين هو ذات اليقين بالثوابت القطعية.. بل إنك لتجد تطابقا في (العبارة) واللفظ.. فعقيدة أبي حنيفة هي التي حررها إمام حنفي معروف هو أبو جعفر الطحاوي، الذي قال في مقدمته: هذه عقيدة مشايخي أبي حنيفة وأبي يوسف والشيباني.. والعقيدة ذاتها حررها القيرواني المالكي في (الرسالة)، وهي التي حررها الشافعي ثم تلامذته، وهي نفسها التي كتبها الإمام أحمد بن حنبل ونقلها اللالكائي - مثلا - في (أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وهو من علماء القرنين الرابع والخامس الهجري.

ظاهرة الإجماع على الأصول العقدية القطعية هذه اقترنت بظاهرة أخرى، وهي أن الأئمة الأربعة لم (يجمعوا) على شيء من الجزئيات تقريبا، بل اختلفوا في معظم الفروع اختلافا واسعا جدا. ومن هنا أُلفت كتب ذات عناوين مثل (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) على سبيل المثال، وهو كتاب لعالم شافعي هو أبو عبد الله بن عبد الرحمن الشافعي، من علماء القرن الثامن الهجري.. والمقصود بـ(الرحمة) في اختلاف الأئمة هو: السعة والسماحة والتنوع المفيد للناس، في حياتهم الخاصة والعامة. ولذا صدّر هذا العالم الجليل كتابه بالحديث النبوي: «من يرِد الله به خيرا يفقّهه في الدين».

وهذه نماذج من اختلاف الأئمة فيما دون الأصول العقدية الكبرى:

أ- الماء المستعمل في فرض الطهارة: طاهر - أي في نفسه- غير مطهر (لغيره) على المشهور من مذهب أبي حنيفة، والأصح من مذهب الشافعي وأحمد، ومطهر عند مالك، ونجس في رواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف.

ب- واختلف الأئمة في قراءة المأموم فاتحة الكتاب في الصلاة الجهرية، فمنهم من أوجبها، ومنهم من عدها سُنّة، ومنهم من لم يرَ قراءتها.

ج- وفي البيوع اختلف الأئمة، ومثال ذلك: أن (التسعير) يحرم عند أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك أنه قال: إذا خالف واحد من أهل السوق بزيادة أو نقصان يقال له: إما أن تبيع بسعر أهل السوق أو تنعزل عنهم. فإن سعّر السلطان على الناس فباع رجل متاعه وهو لا يريد بيعه بذلك كان مكرها. وقال أبو حنيفة: إكراه السلطان يمنع صحة البيع، وإكراه غير لا يمنع.

د- واختلف العلماء في تفسير الآيات ذات الدلالة الظنية، وهي كثيرة جدا، ولذلك تعددت تفاسير القرآن وتنوعت، ولذلك - أيضا - لم يكتفِ المسلمون بتفسير واحد في أي عصر من عصور تاريخهم.

هـ- واختلف العلماء في شرح الأحاديث أو السنّة النبوية، ولم يقُل أحد إن كتابا واحدا - في شرح السنة - يكفي ويغني ويجزئ. وبانتفاء هذا القول - عقلا وعلما - استفاضت مراجع ومؤلفات شرح السنّة.





ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء -الأئمة الأربع أو غيرهم- في كل ما يقول، وعلى المسلم إذا نزلت به نازلة أن يستفتي من يعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله امتثالاً لقوله تعالى
فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{43} النحل
قال شيخ الإسلام: وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص معين من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين من العلماء في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع شخص لمذهب بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مسوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله ، فيفعل المأمور ويترك

وإنما يسوغ للمرء اتباع أحد الأئمة بثلاثة شروط:
الأول: أن يعتقد أن لا عصمة لأحد من الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال شيخ الإسلام: واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما يأمر وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال غير واحد من الأئمة كل الناس يؤخذ بكلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم الله قد نهوا الناس عن تقليدهم، وذلك هو الواجب عليهم، فقال الامام أبو حنيفة: هذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة.. والإمام الشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط.. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي، ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا
(مجموع الفتاوى 20/120-122).

الثاني: أن يجعل الحق طلبته فمتى استبان له أن القول الراجح بالأدلة في مسألة ما خلاف ما عليه مذهبه أخذ بالراجح دون تردد. قال الإمام الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس
(إعلام الموقعين 2/263).

الثالث: ألا يعقد عليه ولاءً ولا براءً فلا يخص بالموالاة مذهبه، ولا يعادي أحداً لأجل أنه لم يلتزم المذهب الذي يتبعه.. ولا يجب الاجتهاد على كل أحد.. قال الخطيب البغدادي: أما ما يسوغ له التقليد فهو العامي الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية، فيجوز له أن يقلد عالماً، ويعمل بقوله.. إلى أن قال: وحكي عن بعض المعتزلة أنه قال: لا يجوز للعامي العمل بقول العالم حتى يعرف علة الحكم، وإذا سأل العالم فإنما يسأله أن يعرف طريق الحكم، فإذا عرفه وقف عليه وعمل به، وهذا غلط لأنه لا سبيل للعامي إلى الوقوف على ذلك إلا بعد أن يتفقه سنين كثيرة ويخالط الفقهاء المدة الطويلة، ويتحقق طرق القياس ويعلم ما يصححه وما يفسده، وما يجب تقديمه على غيره من الأدلة. وفي تكليف العامة بذلك تكليف ما لا يطيقونه ولا سبيل لهم إليه
(الفقيه والمتفقه 68-69).





ولما كان العلماء غير معصومين عن الخطأ والوهم، فإن الواجب اجتناب زلاتهم، وعدم الاقتداء بهم فيها، وقد حذر السلف من زلة العالم.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق، وأئمة مضلون (أخرجه الدارمي بسند صحيح 1/71). وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة ضلالة على لسان الحكيم (أخرجه أبو داود بسند صحيح). وقال ابن عباس رضي الله عنه: ويل للأتباع من زلة العالم. قيل: وكيف؟ قال: يقول العالم الشيء برأيه، فيلقى من هو أعلم منه برسول الله فيخبره فيرجع، ويقضي الأتباع بما حكم
(أخرجه ابن عبدالبر في الجامع بسند حسن 2/112).