إنّا كفيناك المستهزئين

رأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصًا إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين.

فأولهم وأشدهم: أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي قال يوما: يا معشر قريش! إن محمّدًا قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم الهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسبّ آبائكم، إني أعاهد الله لأجلسنّ له غدًا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته، رضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلمّا أصبح أخذ حجرًا كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدًا عليه الصلاة والسلام كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلمّا سجد عليه الصلاة والسلام احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا -أي: متغيرًا- لونه من الفزع، ورمى حجره من يده، فقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم، فلمّا دنوت منه، عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثله قطّ همّ بي أن يأكلني! فلمّا ذكر ذلك لرسول الله قال: (ذاك جبريل ولو دنا لأخذه) (رواه مسلم).

وكان أبو جهل كثيرًا ما ينهى الرسول عن صلاته في البيت، فقال له مرّة بعد أن رآه يصلي: ألم أنهك عن هذا، فأغلظ له رسول الله القول وهدّده، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا، فأنزل الله تهديدًا له في آخر سورة العلق «كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)» )العلق: 15-19) . أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.




ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد الله بن مسعود من رواية البخاري قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فرث –أي: كرش- جزور بني فلان فيلقيه على محمّد وهو ساجد؟ فقام عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على القائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل عليه الصلاة والسلام ساجدًا حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته. فلمّا قام دعا على من صنع هذا الصنع القبيح فقال: اللهمّ عليك الملأ من قريش وسمّى أقوامًا!، قال ابن مسعود : فرأيتهم قتلوا يوم بدر، فألقوا في البئر. (رواه البخاري 3185، ومسلم 1794).


ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل، أنّ هذا ابتاع – أي: اشترى- أجمالًا من رجل يقال له: الإراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله فدلوه على رسول الله لينصفه من أبي جهل، استهزاءً؛ لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول ، فتوجّه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل، فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال: محمّد». فخرج منتقعًا لونه فقال له الرسول : (أعط هذا حقه)، فقال أبو جهل: لا تبرح حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دينه، فقالت قريش: ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت!. قال: ويحكم! والله ما هو إلّا ضرب على بابي، حتى سمعت صوتًا فملئت منه رعبًا، وأن فوق رأسي فحلًا من الإبل ما رأيت مثله. «السيرة النبوية» (1/389-391) لابن هشام.



ومن جماعة المستهزئين: أبو لهب بن عبد المطلب عم رسول الله ، كان أشدّ عليه من الأباعد، فكان يرمي القذر على بابه لأنه كان جارا له، فكان الرسول يطرحه ويقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا، وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه أمّ جميل بنت حرب بن أمية، فكانت كثيرًا ما تسبّ رسول الله ، وتتكلّم فيه بالنمائم، وخصوصًا بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.



ومن المستهزئين: عقبة بن أبي معيط، كان الجار الثاني لرسول الله ، وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة، ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام: (والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله)، فتشهّد، فبلغ ذلك أبي بن خلف الجمحي القرشي، وكان صديقًا له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له. قال أبيّ: وجهي من وجهك حرام، إن لقيت محمّدًا فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلمّا رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)» )الفرقان: 27-29).



ومن أشد ما صنعه ذلك الشقي برسول الله ما رواه البخاري في (صحيحه) قال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي، وقال: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ»]غافر:28 [.



ومن جماعة المستهزئين العاص بن وائل السهمي القرشي والد عمرو بن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله، وكان يقول: غرّ محمّد أصحابه أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلّا الدهر، فقال الله ردًا عليه في دعواه في سورة الجاثية: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)» ]الجاثية:24 [.

وكان عليه دين لخبّاب بن الأرتّ ، أحد رجال المسلمين، فتقاضاه إياه فقال العاص: أليس يزعم محمّد هذا الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما يبتغي أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: بلى، قال: فأنظرني إلى هذا اليوم فسأوتى مالا وولدًا وأقضيك دينك، فأنزل الله فيه: «فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)» ]مريم: 77-[80.



ومن جماعة المستهزئين: الأسود بن عبد يغوث الزهري القرشي، من بني زهرة أخوال رسول الله ، كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول قد جاءكم ملوك الأرض استهزاء بهم لأنهم متقشفين: ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كلمات اليوم من السماء؟.




ومنهم: الأسود بن عبد المطلب الأسدي، ابن عم خديجة كان هو وشيعته إذا مرّ عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)» ]المطففين: 29-[32.



ومنهم: الوليد بن المغيرة، عم أبي جهل، كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش سمع القران مرة من رسول الله ، فقال لقومه بني مخزوم: والله لقد سمعت من محمّد آنفا كلامًا، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فتوجه وقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمّدا مجنون، فهل رأيتموه يهوّس؟.. وتقولون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟.. وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرًا قطّ؟.. وتزعمون أنه كذّاب، فهل جرّبتم عليه شيئًا من الكذب؟.. فقالوا: في كل ذلك اللهمّ لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر قليلًا ثم قال: ما هو إلّا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فارتج النادي فرحًا. فأنزل الله في شأن الوليد في (سورة المدثر) مخاطبًا لرسوله «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَر (26)» ]المدثر: 11-[26، وأنزل فيه أيضا: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ» كثير الحلف وكفى بهذا زاجرًا لمن اعتاد الحلف «مَهِينٍ» حقير، وأراد به الكذاب لأنه حقير في نفسه «هَمَّازٍ» عيّاب طعان «مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ» ينقل الأحاديث للإفساد بين الناس «مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ» (غليظ جاف) «بعد ذلك زنيم»(دخيل) «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» ]القلم: 10،16 [، كناية عن الإذلال والتحقير لأن الوجه أكرم عضو والأنف أشرف ما فيه ولذلك اشتقّوا منه كل ما يدلّ على العظمة كالأنفة وهي الحمية فالوسم على أشرف عضو دليل الإذلال والإهانة.


ومن المستهزئين: النضر بن الحارث العبدري من بني عبد الدار بن قصي كان إذا جلس رسول الله مجلسا يحدّثهم ويذكّرهم ما أصاب مَنْ قَبلهم، قال النضر: هلمّوا يا معشر قريش فإني أحسن منه حديثا ثم يحدّث عن ملوك فارس، كان يعلم أحاديثهم، ويقول ما أحاديث محمّد إلّا أساطير الأولين وفيه نزل في سورة لقمان «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)» [لقمان: 6، 7].


وكل هؤلاء انتقم الله منهم كما قال الله تعالى: «إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)» [الحجر: 95، 96].


وقد وضع الله جلّ ذكره الوعد في صورة الماضي للتحقّق من وقوعه، لأن الاية مكية وهلاك هذه الفئة كان بعد الهجرة، فمنهم من قتل كأبي جهل.


والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، ومنهم من ابتلاه الله بأمراض شديدة فهلك منها، كأبي لهب، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة.

وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم