بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة تمهيدية:

من المتقرر في العقيدة الإسلامية أن الله –جل وعلا- غني بذاته، والمخلوق فقير بذاته: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر:15].

وقال الإسفراييني (التبصير في الدين 162/الشاملة) :"من عرف نفسه فقد عرف ربه معناه: من عرف نفسه بالعجز والضعف والنقص والقصور عرف أن له ربا موصوفا بالكمال يصح منه جميع الأفعال فلولاه لم يتم بالعبد العاجز شيء من الواردات عليه".

فعجبا لابن آدم كيف يتكبر أو يضع نفسه فوق منزلتها وحاله على ما ذكر، بل مبدأ خلقه نطفة وآخرة جيفة ، ظلوم جهول، لا يدرك أمورا كثيرة ولو قربت منه، علم شيئا وغابت عنه أشياء، لو وكل إلى نفسه صار إلى الخذلان...

عرض سلوكي ومنهجي

وشروعا في المقصود، فقد جاء في المدهش لابن الجوزي ولطائف المعارف لابن رجب: "جاء رجل إلى أبي علي الدقاق فقال قد قطعت إليك مسافة فقال ليس هذا الأمر بقطع المسافات فارق نفسك بخطوة وقد حصل لك مقصود".
فذوق طعم النفس خطير، كما أن معرفة قدر النفس أمر مهم، وتنزيلها منزلتها أهم.

ومن أمثال العرب في وضع الرجل نفسه فوق موضعها قول أكثم: "لم يهلك امرؤ عرف قدره".

وبلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه بالمدينة اشترى خاتماً قيمة فصه ألف درهم، فكتب عمر رضي الله عنه: "عزمت عليك لما بعت خاتمك بألف درهم، وجعلتها في ألف بطن جائع فقير، واستعملت خاتماً من ورق وجعلت فصه منه ونقشت عليه: رحم الله امرءاً عرف قدره"اهـ، والشاهد قوله "رحم الله امرءا عرف قدره".

ومما ينسب لعلي رضي الله عنه قوله: " رحم الله امرءا عرف قدره ولم يتعد طوره".

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشرف الخلق وأشدهم تواضعا، وفي الحديث عنه -صلوات ربي وسلامه عليه- " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله "(أخرجه مالك في الموطأ والترمذي في الشمائل وصححه الألباني في مختصر الشمائل).

و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا قَالَ جِبْرِيلُ تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ قَالَ بَلْ عَبْدًا رَسُولًا".(رواه أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني في الصحيحة)

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قال "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله".

وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:" إنكم لتغفلون أفضل العبادة: التواضع".(التواضع والخمول لابن أبي الدنيا)

وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله- :"رأس الأدب معرفة الرجل قدره".

والحق أن من عرف قدر نفسه، لم يرفعها فوق منزلتها، ولا طالب الناس بحقوق ليست لها، ومن لزم هذا استراح وأراح.

وقد قال تعالى " وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ "الحج18، وكما في وفي دعاء القنوت الذي علمه النبي –صلى الله عليه وسلم- للحسن –رضي الله عنه- قال فيه: " وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديـت".

ومما بلغني في هذا الباب عن بعض الأفاضل -رفع الله قدره- قوله :" إن من يرتفع في الدنيا صنفان، صنف يرفعه الناس، فيجعلون له سلما كلما رقي درجة وضعوا له التي تليها، وهذا سرعان ما يسقط، ولعله يسقطه نفس من رفعه، وصنف يرفعه الله جل وعلا، فتلك هي الرفعة الحقيقية"اهـ.

وكما قال الشيخ لزهر في مقاله "ألا في الفتنة سقطوا" :" وإن الرفعة بيد الله لو كانوا يفقهون، يرفع من يشاء، ويخفض من يشاء، وإن المرء كما يرفعه عمله، يسقطه انحرافه وجنفه وانتكاسه"اهـ.

ومن خفايا الأمراض والبلايا التي تتعلق بما مر، كون الإنسان يحاول أن يرتفع بغيره، فتراه يمدح بحق أو بباطل ما له به نوع علاقة و تجمعه به نسبة، لا لشيء إلا ليرتفع معه في ظنه وتخمينه، و في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم :" من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، وأدهى وأمر كونه لا يرضى بسقوط ما تعلق به ولو بحق وعلى حساب الحق، وهذا –والله- ينافي الصدق والإخلاص، بل هو تقديم للأهواء على الحق وقد قال تعالى:" فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "(القصص50)، وقال جل ذكره: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ" (المؤمنون71).

فينبغي للعبد أن يكون متواضعا هاضما لنفسه، غير مثقل ولا متعنت في طلب التعظيم والمنزلة لدى الناس، قال ابن القيم (الفوائد207/الشاملة): "من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره, فإنك توقّر المخلوق وتجلّه أن يراك في حال لا توقّر الله أن يراك عليها قال تعالى:{ مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}نوح13، أي لا تعاملونه معاملة من توقّرونه والتوقير: العظمة" اهـ.

وتذييلا لما ذكر، قال ابن القيم (الروح234/الشاملة): والتواضع المحمود على نوعين:

النوع الأول: تواضع العبد عند أمر الله امتثالا وعند نهيه اجتنابا فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره فيبدو منها نوع إباء وشراد هربا من العبودية وتثبت عند نهيه ! طلبا للظفر بما منع منه فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبودية.

والنوع الثاني: تواضعه لعظمة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه فكلما شمخت نفسه ذكر عظمة الرب تعالى وتفرده بذلك وغضبه الشديد على من نازعه ذلك فتواضعت إليه نفسه وانكسر لعظمة الله قلبه واطمأن لهيبته وأخبت لسلطانه فهذا غاية التواضع وهو يستلزم الأول من غير عكس والمتواضع حقيقة من رزق الأمرين والله المستعان"اهـ.

خاتمة جامعة

وفي الختام، ما أحسن خلق القناعة أن يتحلى به العبد، لا في المال فقط ولكن في المال والجاه، نعم، المال به قوام معاش العبد، و قسط من الجاه لابد منه لاستمرار التعايش، ولكن الله الله في القناعة، وكما قال ابن القيم -رحمه الله- في شأن الإخلاص(الفوائد ص 160/الشاملة) : " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشّاق الدنيا في الآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهّل علي ذبح الطمع والزهد في المدح والثناء؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين, ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده, كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: إن مدحي زين وذمي شين, فقال:" ذاك الله عز وجل". فازهد في مدح من لا يزينك مدحه, وفي ذم من لا يشينك ذمه, وارغب في مدح من كل الزين في مدحه, وكل الشين في ذمه, ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين, فمتى فقدت البصر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب, قال الله تعالى:{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ } الروم60, وقال تعالى:{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } السجدة24"اهـ .