بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..

تتنوع مكائد الشيطان.. وتتغير أساليبه بحسب الزمان والمكان..
فهو لا يكلّ ولا يفتر، ليظهر لنا في كل عصر بصورة مختلفة.. وحيلة جديدة..
الأمر الذي يعكس مدى العداوة بينه وبين بني آدم.. والتي أقسم عليها حين طُرِد من الجنة فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص من الآية:82].

فأوقع الناس في الشرك وزين لهم الرذيلة وزرع بينهم العداوة {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء من الآية:٥٣].
وظل فترة من الزمن يرهب الناس على أيدي الطغاة وعلى أيدي السحرة والمشعوذين والكهنة.. فنشر الخرافة وعبّدهم للبشر والحجر والشجر والقبر{إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٥].

وفي هذا العصر.. الذي انتشر فيه الوعي والعلم والحضارة والثقافة في البشرية ظهر إبليس بمكيدة جديدة وخطيرة تكاد تنطلي على البشرية.

ألا وهي حيلة تجاهل الناس لوجوده بل وإنكارهم لوجوده!

هذا الإنكار تعيشه الشعوب الشيوعية الملحدة والغربية العلمانية.. والذين لديهم مشكلة كبرى مع كل الغيبيات.. فلا يؤمنون إلا بكل ما هو محسوس.. فانتشر الإلحاد كردة فعل على الخرافات التي عشعشت فيهم وغيبت عقولهم وجعلتهم يعيشون في عصور الظلام.. غارقين في أوحال الشرك والجهل..

تلك العصور المظلمة التي تسلط عليهم فيها إبليس وعبّدهم للشجر والحجر والبشر والبقر.. في الوقت الذي كانت تعيش فيه الشعوب المسلمة عصورها الذهبية في العلم والمعرفة وكانوا من عباد الله الذين قال فيهم سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42].

ولما خبا نور العلم وانتشر الجهل في الشعوب المسلمة.. توجه إبليس إليها بقضه وقضيضه ليستعمرها قبل أن يقع عليها أي استعمار بشري! وأعادها إلى عصور الخرافة والشرك من جديد.. فكانت لُقمة سائغة للأعداء..

ولكن من رحمة الله بهذه الأمة أنه يقيض لها من يجدد لها دينها كلما انحرفت عنه..

انتفض العلماء في العقود المتأخرة محذرين من الشرك وتقديس الأضرحة والطغاة، كاشفين أحابيل إبليس وأَتْباعه من أهل الشرك والسحر والدجل والشعوذة.. فأثمرت جهودهم صحوة ووعيًا وتوحيدًا خالصًا لله وحده.. حتى وصل الناس إلى ما وصلوا إليه ألآن من وعي..

واليوم تتضاعف المسئولية على كاهل العلماء والدعاة فإن أمامهم فئتان من ضحايا إبليس:

الصنف الأول: وهم بقايا ضحاياه السابقين الذين لا يزالون غارقين في الشرك والخرافة.
والعجيب في الأمر أن الأنظمة المستبدة ساهمت وبقوة في توطيدها.. ولعل ذلك بسبب علمهم أن من يهاب القبر والحجر والشجر يسهل على الحاكم تعبيده..
كما أنه لا زال هناك أمم ضخمة غارقة في مستنقعات الشرك في أفريقيا وهائمة خلف أذناب البقر في متاهات الهند.

أما الصنف الثاني: ولعلي أسلط الضوء عليه فيما بقي من حديث، وهم:
صنف المنكرين لكل الغيبيات عمومًا، وعلى وجه الخصوص إنكار وجود الشيطان أو إنكار أثره في حياة الإنسان ..

وإننا وإن كنا نفسر ردة فعل الغرب المنكر للدين والكافر بالغيب, بأن ذلك بسبب بغضه للكنيسة التي نشرت الدجل والخرافة واستعبدت الناس {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة من الآية:31].

لكن وللأسف أن بعض المفاهيم الغربية القائمة على الإيمان فقط بالمحسوسات، بدأت تتسلل إلى الأمة المسلمة.. مما يشكل خطورة على عقائد الناس.

وما ساهم في انتشار تلك المفاهيم هو الجهل بحقيقة علاقة الشيطان بالإنسان..
فمن الناس من جعل من الشيطان سببًا في كل مشكلاته الاجتماعية والاقتصادية.. فإن فشل في تجارته فبسبب عين أصابته، وإن تكرر فشله في زواجه قيل مسحور وإن.. وإن.. إلخ
فصارت ردة فعل البعض عكسية وأصبحوا ينكرون أي أثر للشيطان في حياة الإنسان..

إن التمادي في الخوف من العين والسحر والجن هو علامة ضعف الإيمان ويزيد من تسلط الشيطان، وقد قال سبحانه {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وبرغم أن الله طمأننا بقوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء من الآية:76] إلا أنه أخبرنا أن له سلطانًا ولكن {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100].

فبُعد الإنسان عن الله واقترافه للمعاصي يزيد من تسلط الشيطان عليه.. وهذا الصنف من الناس -من المبالغين في خوفهم- رغم خطورة حالهم إلا أنه من السهل توعيتهم وإعادتهم إلى جادة الطريق.. ويحتاج منا فقط إلى عودة صادقة إلى القرآن المزيل للوساوس والمُجَلّي للحقائق والداحض للشبهات والشافي من كل مرضٍ عقلي أو قلبي أو عضوي {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء من الآية:82].

لكن مكمن الخطورة في مثقفين (زعموا) صاروا يشككون ويهزؤون بمن يؤمن بأثر الشياطين والجن ويسخرون ممن يسترقي من العين والسحر والتي يلعب الشيطان دورًا رئيسًا فيها..

وكأنهم لم يسمعوا بحديث الرسول صلى الله عليهم وسلم الذي قال فيه: «العين حق، ولو كان شيء سابق القدَر سبقته العين وإذا استُغسِلتُم فاغسلوا» (رواه مسلم).

وكأنهم لا يعلمون أن نبيهم صلى الله عليه وسلم أصابه السحر كما ثبت في صحيح البخاري.

وقد يبرر الساخرون ذلك بأنهم لم يسبق أن أصيبوا بشيء من ذلك السحر والعين والأمراض النفسية، برغم معاصيهم! لكن، وما يدريهم لعل من كيد الشيطان بهم أنه لم يتسلط عليهم ليرسخ تلك الاعتقادات في قلوبهم ويزدادوا بعدًا عن الله وشكًّا في كتابه.

وفي المقابل, لعل من رحمة الله بالمؤمنين الصادقين أن يبتليهم بسحر أو مرض نفسي أو عضوي ليزدادوا قربًا منه سبحانه ومن كتابه.
ولعل أخطاء الجهلة من الناس ودجل بعض أدعياء الرقية الشرعية.. تسببت في فتنة أولئك المثقفين ليهزؤوا وينكروا ما كان معلومًا من الدين بالضرورة..
فعندما يهزأ أحد المثقفين بمن يؤمن بجدوى أخذ الأثر من (العائن) لعلاج المعيون، هو في الحقيقة على خطر لأنه يتعرض للسخرية من فعلٍ أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم.

وعندما ينجح الشيطان في إقناع الناس بتجاهل وجوده وأثره، فهو في الحقيقة يمهد الطريق ليعبث بهم من حيث لا يشعرون.. بل إننا نجزم بأنه يتربع على عروش قلوبهم.. وذلك لأن تسلطه عليهم أشد من تسلطه على المؤمنين.. وقد قال سبحانه: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل من الآية:100]. وكلِّما ازداد الإنسان بعدًا عن الله ازداد قربًا للشيطان.

وفي هذا العصر نلحظ ونلمس عبث إبليس بالناس جليًّا ظاهرًا..
وإلا, ماذا نسمي ما يفعله مفكر إسلامي (زعموا) عندما يفتي بأن تقبيل الصديق لصديقته من الصغائر!؟ وأنه لا حرج أن يفعلها الإنسان لأن الله يغفر الصغائر! أليس هذا من عبث إبليس بالقلوب المريضة؟!

تجد بعض المثقفين -الجهلة- يثقون بعقولهم وعلمهم، فيلمزون المسلمين بالجهل عندما يرونهم يتجهون إلى كتاب الله وماء زمزم وعجوة المدينة.. ليستشفوا بها من وساوس الشيطان ومن أمراض العين والسحر! لكن لا يعلم هؤلاء المثقفون، أن الشيطان يستخف بهم من حيث لا يشعرون.. لأنهم بذلك يزعمون أنهم أعلم من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوصى الناس بها.

وفي عصر العولمة والتقنية والإعلام، وفي بلد مثل الهند والتي صنعت القنبلة النووية بل تكاد تكون مركزًا لشركات الكمبيوتر العالمية.. لكنك في المقابل تعجب من حال الملايين هناك ممن يعبدون البقر والحجر والشجر والنار والفأر بل ومن يعبد فروج النساء!.. أين عقول أولئك القوم؟.. لا تكاد تجد تفسيرًا لذلك كله! إلا أنه عبث الشيطان بعقول الناس، وقد أعلمنا بذلك هدهد سليمان في قوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّـهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل:٢٤].

وفي إيران، التي تكاد تدخل النادي النووي والمليئة بالمفكرين والأذكياء لكنك تعجب! كيف استطاع حفنة من أصحاب العمائم السوداء، خداع الملايين من البشر، يسرقون أموالهم ويهتكون أعراضهم! ووالله إن الألم يعتصر قلبك عندما تجد أولئك الملايين وفيهم المثقف والمفكر وهم يتلذذون بسيل دماءهم وتعذيب أنفسهم في يوم عاشوراء! ولا تكاد تجد أي تفسير لذلك كله إلا أن تقول أنه من عبث الشيطان بهم {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:١٠٤].

وحتى عندما يزعُم المعمّمون وشاتموا الصحابة بحصول الكرامات لهم، فإننا لن ننفيها، بل لا نستبعد أنه يقع لهم بعض الخوارق، والتي نؤمن أنها من فِعْل الشيطان ليفتنهم ويفتن الناس بهم {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83].

نعم، وإنك لتعجب إلى عقلية التثليث النصرانية المخالفة للعقل والمنطق والتي يستطيع أن ينفيها طفل مسلم بآية واحدة من كتاب الله {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء من الآية:22]، ولكن كيف انطلت هذه الأكذوبة على مليارات البشر وعلى مدى مئات السنين؟!

وإنك لتعجب كيف استطاع إبليس العبث بعقائد بني إسرائيل وعبّدهم للعجل وبرغم أن موسى وهارون عليهما السلام بين ظهرانيهم ووحي الله يتلى عليهم..!

يظن البعض أن الوعي والثقافة والحضارة تخفف من سطوة الشيطان على الإنسان لكن المعيار الحقيقي هو معيار القرب من الله، قال سبحانه: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:36-37].

وبرغم زعم الغرب الملحد اليوم رفْض كل الغيبيات إلا أنه كشفت دراسة نشرتها صحيفة (دايلي ميرور) عام 2011 أن نحو 50% من البريطانيين يخافون من الظلام، ويؤمن 38% منهم بالأشباح، فيما يعتقد 25% منهم أن الأجسام الغريبة حقيقية. {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل من الآية:١٤].

وإنك لينتابك العجب ويلفت نظرك انتشار البارات وحانات الخمر والقمار في الغرب! برغم ضررها على العقل والمال والصحة! إلا أن تلك العقول البشرية لم تستطع التخلص منها، لكن لا عجب فقد أخبرنا الله أنها من دسائس الشيطان ليفسد بين الناس {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة من الآية:٩١].

لم نكن نعتقد أن يأتي من يُشرّع للفساد ويقنن للزنا ويشرعن الإختلاط، ويعتبر استعفاف الشباب نوع من التشدد، وأن خشية الفتى من الخلوة بفتاة يعد مرضًا نفسيًا، لكن عندما تقرأ قوله سبحانه {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة من الآية:٢٦٨] يزداد يقينك أن الشيطان هو من يخادعهم ويعدهم بالأماني ويزين لهم المعاصي، حتى صار شريكًا لهم {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء من الآية:64].

بل إن العجب الذي لا ينقضي منه العجب عندما تجد في هذا الزمن من المسلمين بل ومن المنسوبين للعلم الشرعي من يقدس الطغاة ويسبّح بحمدهم ويتعبد إلى الله بظلمهم وإذلالهم له!

وأعجب منه ذلك الذي يرى أن العدل في تحكيم غير شرع الله! ويرى أن فرض شرع الله يُعدُّ ظلمًا! وأن رضى الأمة مقدم على شرع الله! ويشرعن لذلك وينافح عنه بحجةٍ ودهاءٍ يكاد يفتن به المسلمين، وهو ربما لا يعلم أن الشيطان هو من يلقنه الحجة ليضلّه ويضلّ به الناس، قال سبحانه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:٦٠].

إذا أردنا أن نعرف طبيعة علاقة الإنسان بالشيطان فما علينا إلا نتصفح كتاب الله المليء بذكر الشيطان والتحذير من أحابيله.

عندما نستشعر أن الله بعظمته وجلاله والمستوي فوق عرشه هو من يأمرنا بالتعوذ من إبليس والحذر منه دائما وعلى كل حال.. نعلم يقينًا ضخامة الدور الذي يلعبه إبليس في حياة البشرية..

أعظم وأهم سور القرآن أهداها الله لهذه الأمة هي المعوذات التي نقرأها بعد الصلوات وفي الصباح والمساء وقبل النوم لنتعوذ بها من كيد الشيطان.

ويأمرنا أن نتعوذ من الشيطان قبل قراءة القرآن.. وعند الغضب.. وقبل النوم.. وأمرنا بأن نعوّذ أطفالنا ونحصّنهم من الشيطان، وكان صلى الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين ويقول: «أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ وَهامَّةِ، وَمِنْ كُلّ عَيْنٍ لامَّةٍ» (رواه البخاري).

وفي الحديث الذي صححه الألباني قال صلى الله عليه وسلم: «إذا غربت الشمس فكفوا صبيانكم، فإنها ساعة ينتشر فيها الشياطين».

بعد هذا كله وبعد العناية النبوية والحشد القرآني في التحذير من الشيطان وخطواته أتريدنا أن نتجاهل أثره وخطره؟!

حاولت إحصاء عدد مرات ذكر كلمة (الشيطان) و(إبليس) في كتاب الله فوجدتها تتجاوز(90)موضعًا!.. هل يعقل أن يكون ذلك عبثًا..؟

بل كيف ننسى خصومتنا مع إبليس ونحن نتذكر دائمًا أن بؤسنا ونزولنا على هذه الأرض كان بسبب خطيئة وسوس بها إبليس لأبينا آدم {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف من الآية:٢٧].

ومهما حاول الكافر إنكار وجود إبليس فإننا نؤمن أن إبليس أكيله وجليسه {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف من الآية:٢٧].

لقد أخبرنا سبحانه ببداية العداوة بيننا واستمراريتها وهو الأعلم بحالنا فقال: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه من الآية:123]، وحذرنا من اتّباعه فقال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85].

نعم إنّ كيد الشيطان كان ضعيفًا لأنه لا يملك سلطة إلا بالوسواس كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم بقوله: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» (صححه الألباني). لكنه استطاع بهذه الوسوسة أن يفعل الأعاجيب.

وقد صنّف ابن القيم مؤلفًا ضخمًا أسماه (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) في التحذير من إبليس وأحابيله ومكره.

فعلًا، إنك لتعجب من حرص الإسلام في تشريعاته على ربطها بالتحذير من ابليس.. فيُشْرَع للمسلم الاستعاذة من الشيطان عند دخول الخلاء.. وعند إتيانه لأهله.. وعند الغضب!

وأمرنا بالتسمية عند الطعام، ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال عن رجلٍ أكل ولم يُسمّ الله: «مازال الشَّيطانُ يأكلُ معه حتَّى سمَّى»، وعلّل نهيه عن الأكل بالشمال بقوله: «لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها» (أخرجه مسلم).

بل إن كثيرًا من أذكار الصباح والمساء شُرِعت لأجل التحصين من الشيطان، مثل آية الكرسي والمعوذات وغيرها.. وفي الحديث: «من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح».

ولخطورة الشيطان في حياة البشرية نهانا الله في عدة مواضع في كتابه بقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر من الآية:6].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (رواه البخاري).

وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن هناك شيطانًا خاصًا بالصلاة يقال له (خنزب) كما ورد في صحيح مسلم.

بل إن الله أقسم بنفسه ليلفت انتباهنا إلى سبب هلاك الأمم السابقة, فقال: {تَاللَّـهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:٦٣].

بل إن الأنبياء كانوا يُرجعون كثيرًا من البلاء الذي يصيبهم أنه بسبب الشيطان {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:٤١].

وموسى عليه السلام {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص من الآية:١٥].

وقد تسبب الشيطان في كثير من البلاء الذي أصاب يعقوب وابنه يوسف عليه السلام فقال يعقوب عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف:5].

بل إن الشيطان تسبب في بقاء يوسف عليه السلام في السجن بضع سنين وذلك عندما قال يوسف {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:٤٢]. خرج من السجن وصار خادمًا عند الملك لكن الشيطان أنساه وأعماه عن نقل مظلمة يوسف للملك.

وورد في السير أن الشيطان كان له دور في معركة بدر، وأنه أثّر في مسار معركة أحد عندما صاح بالناس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد مات) ففتّ ذلك في عضد الصحابة وفرّ الناس وكثر القتل فيهم!

مع هذا الحشد القرآني والنبوي ضد إبليس، هل يأتي بعد ذلك من يريد تجاهل وجود الشيطان وأثره في حياة المسلم أو يقلل خطورته..؟

ألا يحق لي بعد هذا السرد كله أن أزعم أن الشيطان هو فتنة العصر وفتنة الماضي وفتنة المستقبل؟!

لماذا خلق الله إبليس؟

يقول العلماء إن الله لا يخلق شرًا محضًا.. وتناقشوا في الحكمة من خَلْقِ الشيطان، وذكروا الكثير، مثل: "أنه لتمحيص الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق..
ولكن هنا, وفي نهاية هذا البحث المختصر ..وبعد تأملٍ في واقعنا .. دعني أضيف فائدة لمستها في هذا الزمن..
وهي أن: وجود الشيطان أحرج الكثير من الملحدين.

قد تقول لي كيف؟ أقول لك:
قد يجمعك الحديث بملحد فلا تكاد تصل معه إلى نتيجة فيما يتعلق بالغيبيات، لأنه لا يؤمن إلا بما هو محسوس .. لكن عندما تطرح بين يديه قضية السحرة والكهنة المنتشرين في الغرب.. يسقط في يده ويقع في الحرج.. فأفعال السحرة والشعوذة والكهانة تثير استفهامات في ذهنه ولا يستطيع إيجاد أي تفسير علمي لها.. فيضطر بدون شعور إلى الاعتراف أن هناك أسرارًا غيبية وراءها ولا يستطع فهمها.

ومجرد وصولك معه إلى هذه النتيجة -أي حتمية وجود أمور غيبية- فإنك تستطيع بعدها إيجاد أرضية مشتركة للدخول إلى عالم الغيبيات.. والتي من أهمها أركان الإيمان الستة..

إذًا.. وجود الشيطان وتسلطه على الناس بالوسواس والأمراض النفسية والسحر والعين، قد يكون سببًا من أسباب إيمان الناس بأمور الغيب.. وقد يضطر الرجل الملحد لأن يبحث عن إجابات لها في الكتب السماوية.. ولن يجد إجابة شافية مثل ما يجدها في القرآن..

خلاصة القول:
أن الشيطان من أعظم فتن الناس، بدءًا بإخراجنا من الجنة، وملاحقتنا قبل الولادة وعند الولادة وبعد الولادة، ويجري منا مجرى الدم، ونصوص القرآن والسنة مليئة بالتحذير منه، ومليئة بالأمر بالتعوذ منه، وأن كثيرًا من الانحرافات الفكرية والأخلاقية نجمت من عبث الشيطان، وأن الأنبياء ربطوا كثيرًا من الابتلاءات التي حلّت بهم بالشيطان، وأن الشيطان فتن أقوامًا بالتعلق به والخوف منه والمبالغة في نسبة كل ضررٍ إليه، وفتن آخرين بأن تجاهلوا وجوده، والمؤمن وسط بين هذا وذاك، المؤمن يؤمن بأثره لكنه يؤمن بضعف كيده، ويؤمن أن الاحتراز منه يسهل لمن اقترب من الله، لكن سطوته وسلطانه شديد على من ابتعد عن الله، ويؤمن أنه لا يزال في جهاد مع الشيطان حتى يموت.. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبإ:٢٠].

قال الكلبي في تفسير هذه الآية: "إنه -أي إبليس- ظنَّ أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه {فَاتَّبَعُوهُ}". وقال الحسن: "ما ضربهم بسوط ولا بعصا وإنما ظنَّ ظنًا فكان كما ظن بوسوسته".

اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين، ونعوذ بك اللهم أن يحضرون.
اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم.. من همزه ونفثه ونفخه..
وصلٍّ اللهم وسلم على نبينا محمد.