النتائج 1 إلى 1 من 1
الموضوع: التطرف بين الحقيقة واﻻتهام
- 17-02-2015, 02:20 PM #1
التطرف بين الحقيقة واﻻتهام
التطرف بين الحقيقة واﻻتهام
يقول علماء المنطق: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذ ﻻ يمكن الحكم على المجهول، كما ﻻ يمكن الحكم على شيء مختلف في تحديد ماهيته، وتصوير حقيقته: أي شيء هي؟
لهذا كان علينا بادئ ذي بدء أن نكشف عن معنى "التطرف الديني " وحقيقته وأبرز عﻼماته.
والتطرف في اللغة معناه: الوقوف في الطرف، بعيداً عن الوسط، وأصله في الحسيات، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم انتقل إلى المعنويات، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك.
ومن لوازم التطرف: أنه أقرب إلى المهلكة والخطر، وأبعد عن الحماية واﻷمان، وفي هذا قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث، حتى أصبحت طرفاً!
دعوة اﻹسﻼم إلى الوسطية وتحذيره من التطرف
واﻹسﻼم منهج وسط في كل شيء: في التصور واﻻعتقاد، والتعبد والتنسك، واﻷخﻼق والسلوك، والمعاملة والتشريع.
وهذا المنهج هو الذي سماه الله "الصراط المستقيم " وهو منهج متميز عن طرق أصحاب الديانات والفلسفات اﻷخرى من "المغضوب عليهم " ومن "الضالين " الذين ﻻ تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط.
و "الوسطية " إحدى الخصائص العامة لﻺسﻼم، وهي إحدى المعالم اﻷساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها ((كذلِك جعلناكم أمّةً وسطاً لِتكونوا شُهداء على الناس )) [البقرة:143 ]، فهي أمة العدل واﻻعتدال، التي تشهد في الدنيا واﻵخرة على كل انحراف يميناً أو شماﻻً عن خط الوسط المستقيم.
النصوص الشرعية تعبر عن التطرف بـ "الغلو "
والنصوص اﻹسﻼمية تدعو إلى اﻻعتدال، وتحذر من التطرف، الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها: "الغلو " و"التنطع " و "التشديد ".
والواقع أن الذي ينظر في هذه النصوص يتبين بوضوح أن اﻹسﻼم ينفر أشد النفور من هذا الغلو، ويحذر منه أشد التحذير.
وحسبنا أن نقرأ هذه اﻷحاديث الكريمة، لنعلم إلى أي حد ينهى اﻹسﻼم عن الغلو، ويخوف من مغبته.
1- روى اﻹمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم في مستدركه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إيّاكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين " قال شاكر: إسناده صحيح، ونقل المناوي في الفيض: 3/126 عن ابن تيمية قوله: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
والمراد بمن قبلنا: أهل اﻷديان السابقة، وخاصة أهل الكتاب، وعلى اﻷخص: النصارى، وقد خاطبهم القرآن بقوله: ((قل يا أهْل الكتابِ ﻻ تغْلوا في دينكم غيْر الحقِّ وﻻ تتَّبِعوا أهواء قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبل وأضّلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواءٍ السّبيل )) [المائدة:77 ]، فنهانا أن نغلو كما غلوا، والسعيد من اتعظ بغيره.
وسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر مهم، وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير، ثم تتسع دائرته، ويتطاير شرره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل المزدلفة في حجة الوداع قال: ﻻبن عباس: هلمّ القط لي ـ أي حصيات ليرمي بها في منى ـ قال: فلقطت له حصيات من حصى الخذف - يعني حصى صغاراً مما يخذف به - فلما وضعهن في يده، قال: نعم بأمثال هؤﻻء، وإيّاكم والغلو في الدين... الحديث يعني: ﻻ ينبغي أن يتنطعوا فيقولوا: الرمي بكبار الحصى أبلغ من الصغار، فيدخل عليهم الغلو شيئاً فشيئاً، فلهذا حذرهم.
وقال اﻹمام ابن تيمية: قوله "إيَّاكم والغلو في الدين " عام في جميع أنواع الغلو في اﻻعتقادات واﻷعمال، والغلو: مجاوزة الحد... والنصارى أكثر غلوًا في اﻻعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، بقوله تعالى: ((ﻻ تغْلوا في دينِكُم ْ)) [النساء:171 ].
2 - وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هلك المتنطعون " قالها ثﻼثاً. (رواه مسلم، ونسبه السيوطي إلى أحمد وأبي داود أيضا ً).
قال اﻹمام النووي: أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
ونﻼحظ أن هذا الحديث والذي قبله جعﻼ عاقبة "الغلو والتنطع " هي الهﻼك، وهو يشمل هﻼك الدين والدنيا، وأي خسارة أشد من الهﻼك، وكفى بهذا زجراً.
3 - وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ﻻ تشددوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشُدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهْبانِيّةً ابتدعُوها ما كتَبْناها عليهِمْ )) [ذكره ابن كثير تفسير سورة الحديد ].
ومن أجل ذلك قاوم النبي صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة تخرجه عن حد اﻻعتدال الذي جاء به اﻹسﻼم، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفضله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة، التي خلق لها اﻹنسان.
فقد شرع اﻹسﻼم من العبادات ما يزكي نفس الفرد، ويرقى به روحياً ومادياً، وما ينهض بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من اﻷخوة والتكافل، دون أن يعطل مهمة اﻹنسان في عمارة اﻷرض، فالصﻼة والزكاة والصيام والحج، عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت، فهي ﻻ تعزل المسلم عن الحياة وﻻ عن المجتمع، بل تزيده ارتباطاً به، شعورياً وعملياً، ومن هنا لم يشرع اﻹسﻼم "الرهبانية " التي تفرض على اﻹنسان العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها، بل يعتبر اﻷرض كلها محراباً كبيراً للمؤمن، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهاداً، إذا صحت فيه النية، والتزمت حدود الله تعالى.
وﻻ يقر ما دعت إليه الديانات والفلسفات اﻷخرى من إهمال الحياة المادية ﻷجل الحياة الروحية، ومن حرمان البدن وتعذيبه حتى تصفو الروح وترقى، ومن إهدار شأن الدنيا من أجل اﻵخرة، فقد جاء بالتوازن في هذا كله ((ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي اﻵخرة حسنةً )) [البقرة:201 ]. "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " [رواه مسلم في صحيحه ] "إنّ لبدنك عليك حقًّا " [متفق عليهٍ ].
لقد أنكر القرآن، بل شدد النكير، على أصحاب هذه النزعة في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده، فقال تعالى في القرآن المكي: ((يا بني آدم خُذوا زينتكم عِند كلِّ مسجدٍ وكُلوا واشربوا وﻻ تُسرفوا إنّه ﻻ يُحبُّ المُسرفين. قُل مَنْ حرّم زينة اللهِ التي أخرج لِعبادهِ والطّيِّبات من الرِّزْق ِ)) [اﻷعراف:31 ].
وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله: (( يا أيُّها الذين آمنوا ﻻ تُحرِّموا طيِّباتِ ما أحلّ الله لكم وﻻ تعتدوا إنّ الله ﻻ يُحبُّ المعتدين وكلوا ممَّا رزقكم الله حﻼﻻً طيِّباً واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )) [المائدة:87،88 ].
وهاتان اﻵيتان الكريمتان تبينان للجماعة المؤمنة حقيقة منهج اﻹسﻼم في التمتع بالطيبات، ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض اﻷديان، فقد روي في سبب النزول أن رهطاً من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في اﻷرض كالرهبان! وروى أن رجاﻻً أرادوا أن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح (مﻼبس الرهبان ) فنزلت..
وجاء عن ابن عبّاس: أن رجﻼً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت عليّ اللحم. فنزلت: ((يا أيُّها الذين آمنوا ﻻ تُحرِّموا )) [ذكر هذه الروايات ابن كثير في تفسيره ].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فكأنهم تقالُّوها (أي عدّوها قليلة ) فقال بعضهم: ﻻ آكل اللحم.. وقال بعضهم: ﻻ أتزوج النساء، وقال بعضهم: ﻻ أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مِني ".
وسنته ـ عليه الصﻼة والسﻼم ـ تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه، وكيف يعامل ربه عز وجل، ويعامل نفسه وأهله والناس من حوله - معطياً كل ذي حقٍ حقَّه، في توازن واعتدال.
العيوب واﻵفات المﻼزمة للغلو في الدين
وما كان هذا التحذير من التطرف والغلو إﻻّ ﻷن فيه عيوباً وآفات أساسية تصاحبه وتﻼزمه. منها:
العيب اﻷول:
أنه منفِّر ﻻ تحتمله طبيعة البشر العادية، وﻻ تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، ﻻ فئة ذات مستوى خاص، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه الجليل "معاذ " حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: أفتان أنت يا معاذ؟! وكررها ثﻼثاً [رواه البخاري ].
وفي واقعة مماثلة قال لﻺمام في غضب شديد لم يغضب مثله: "إن منكم منفرين... من أَمَّ بالناس فليتجوز، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة " [رواه البخاري ].
ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسرا وﻻ تعسرا، وبشرا وﻻ تنفرا، وتطاوعا وﻻ تختلفا ... " [متفق عليه ].
وقال عمر رضي الله عنه: ﻻ تبغِّضوا لله إلى عباده، فيكون أحدكم إماماً فيطول على القوم الصﻼة حتى يبغِّض إليهم ما هم فيه .
والعيب الثاني:
أنه قصير العمر، واﻻستمرار عليه في العادة غير متيسر، فاﻹنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على التشدد والتعسير، فسرعان ما تكل دابته أو تحرن عليه مطيته في السير. . وأعني بهما جهده البدني والنفسي ، فسيأم ويدع العمل حتى القليل منه. أو يأخذ طريقاً آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه.. أي ينتقل من اﻹفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، وﻻ حول وﻻ قوة إﻻّ بالله.
وكثيراً ما رأيت أناساً عرفوا بالتشدد والتطرف حيناً، ثم غبت عنهم أو غابوا عني زمناً فسألت عنهم بعد، فإما ساروا في خط آخر، وانقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله. . وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث "فﻼ أرضاً قطع وﻻ ظهراً أبقى " [رواه البزار عن جابر بإسناد ضعيف ] يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته.
ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله صلى الله عليه وسلم : "اكلفوا من اﻷعمال ما تطيقون فإن الله ﻻ يمل حتى تملوا.. وإنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل " [رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ].
وعن ابن عباس قال: كانت موﻻة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرَّة (حدة ونشاطاً ) ولكل شرة فترة (استرخاء وفتوراً ) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل " [رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ].
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال ينصبون في العبادة من أصحابه نصباً شديداً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلك ضراوة اﻹسﻼم وشرته، ولكل ضراوة شرّة، ولكل شرّة فترة.. فمن كانت فترته إلى الكتاب والسنة فﻶمّ ما هو.. ومن كانت فترته إلى معاصي الله فذلك الهالك" (قال شاكر: إسناده صحيح )، ومعنى "ﻷمّ ما هو " أي يرجع إلى أصل ثابت عظيم أشار إليه بكلمة "آم " وتنكيرها دﻻلة التعظيم، وعلى الفتح "أم " من القصد.. أي قصد الطريق المستقيم.
(وفي رواية الطبراني لهذا الحديث:... فمن كانت فترته إلى اقتصاد، فنعم ما هو... ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون ).
وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد واﻻعتدال، وأن ﻻ يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إﻻّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا... " [رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ].
وقال العﻼمة المناوي في شرحه: يعني ﻻ يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان، إﻻّ عجز، فيغلب.. "فسدِّدوا " أي: الزموا السداد، وهو الصواب بﻼ إفراط وﻻ تفريط.. "وقاربوا " أي: إن لم تستطيعوا اﻷخذ باﻷكمل فاعملوا بما يقرب منه "وأبشروا " أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل. أهـ .
والعيب الثالث:
أنه ﻻ يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تُرعى، وواجبات يجب أن تؤدى.. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إﻻّ وبجانبه حق مضيع... وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟
قال عبد الله: فقلت بلى يا رسول الله.. فقال صلى الله عليه وسلم: ﻻ تفعل، صم وأفطر، وقم ونم. فإن لجسدك عليك حقاً.. وإن لعينيك عليك حقاً.. وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك (زوَّارك ) عليك حقاً.. [رواه البخاري في كتاب الصوم ].
يعني: فأعط كل ذي حق حقه، وﻻ تغلّ في ناحية على حساب أخرى.*
وكذلك قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي ﻷخيه العابد الزاهد أبي الدرداء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهما، فزادت بينهما اﻷلفة، وسقطت الكلفة، فزار سلمان أبا الدرداء، فوجد أم الدرداء - زوجته - متبذلة (يعني: ﻻبسة ثياب البذلة والمهنة ﻻ ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المرأة المتزوجة ) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان، وقرب إليه طعاماً فقال: كل، فإني صائم! فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل. وفي رواية البزار: أقسمت عليك لتفطرن... قال: فأكل... فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم... فقال سلمان: نم.. فنام. ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم اﻵن... فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، وﻷهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه... فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان. [رواه البخاري والترمذي ] وفي رواية ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أشبع سلمان علماً... ".
ولكن ما معنى التطرف الديني؟ وما المقصود به اﻵن؟ وما معالمه؟ ومتى يعتبر المرء متطرفاً دينياً؟!
تحديد مفهوم التطرف الديني. وعلى أي أساس يقوم؟
إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد به بعلم وبصيرة، هو الخطوة اﻷولى في طريق العﻼج، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.
وﻻ قيمة ﻷي بيان أو حكم هنا ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم اﻹسﻼمية اﻷصيلة، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة، ﻻ إلى اﻵراء المجردة، وقول فﻼن أو عﻼن من النّاس، فﻼ حجة في قول أحد دون الله ورسوله، قال تعالى: ((فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إنْ كُنتم تُؤمِنون باللهِ واليومِ اﻵخِرِ )) [النساء:59 ]، وقد اتفقت اﻷمة، سلفها وخلفها، على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعني: الرد إلى سنته عليه الصﻼة والسﻼم.
وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشباب المتهم بالتطرف التفاتاً إلى فتوى هذا أو مقال ذاك، وسيضربون عرض الحائط بهذا اﻻتهام الذي ينكرونه، ويتهمون موجهيه بالتزييف، وتسمية اﻷشياء بغير أسمائها. وقديماً قيل: إن اﻹمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من هو في أهل السنة، نسبت إليه تهمة "الرفض " فضاق بهذا اﻻتهام الرخيص، وقال متحدياً:
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقﻼن أنِّي رافِضي
وحديثاً قال أحد الدعاة: اللهم إن كان المتمسك بالكتاب والسنة رجعياً، فأحيني اللهم رجعياً، وأمتني رجعياً، واحشرني في زمرة الرجعيين!
والواقع أن تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة "الرجعية " "الجمود " "التطرف " "التعصب " ونحوها، أمر في غاية اﻷهمية، حتى ﻻ تترك مادة هﻼمية رجراجة، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية واﻻجتماعية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء. .
وهنا نجد أننا لو تركنا تحديد مفهوم "التطرف الديني " ﻵراء الناس وأهوائهم لتفرقت بنا السبل، تبعاً لﻸهواء التي ﻻ تتناهى ((ولوْ اتّبع الحقُّ أهواءهُم لفَسدتِ السماوات واﻷرض ومَنْ فيهن َّ)) [المؤمنون:71 ].
مﻼحظتان مهمتان
وأود أن أنبه هنا إلى مﻼحظتين جديرتين باﻻهتمام في موضوعنا:
المﻼحظة اﻷولى:
أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف، له أثره في الحكم على اﻵخرين، بالتطرف أو التوسط أو التسيب.
فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد اﻻلتزام بالدين، يكون مرهف الحس ﻷي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم ﻻ حظّ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هذا ورد القول المأثور:
"حسنات اﻷبرار، سيئات المقربين ".
ويحضرني هنا ما قاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعماﻻً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات!
وكانت عائشة رضي الله عنها تنشد بيت لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد اﻷجرب!
وتقول: رحم الله لبيداً، كيف لو عاش إلى زماننا هذا؟ وكان ابن أختها عروة بن الزبير، وقد عاش بعدها زمناً، ينشد البيت، ويقول: رحم الله لبيداً وعائشة، كيف لو عاشا إلى زماننا هذا؟!
وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علماً وعمﻼً، أوعاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، يعتبر التمسك بالحد اﻷدنى من الدين ضرباً من التعصب أو التشدد.
وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين، ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حﻼل هو أم حرام؟
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسﻼمية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد اﻻلتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفاً دينياً!
وكثير ممن غزته اﻷفكار والتقاليد اﻷجنبية يعتبر الذين يتمسكون بآداب اﻹسﻼم في المأكل والمشرب والملبس والزينة ونحوها، غاية في التطرف والتعصب!
لقد رأينا من يعد إطﻼق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة اﻹسﻼم في أرض اﻹسﻼم، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، واﻷمر بالمعروف إذا ضُيِّع ،والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفاً في الدين، وتدخﻼً في الحرية الشخصية لﻶخرين!
ورأينا من يرى أن اعتبار اﻵخرين من غير المؤمنين بدينه كفاراً، تعصب وتطرف، مع أن أساس اﻹيمان الديني أن يعتقد المؤمن أنه على حق، وأن مخالفه على باطل، وﻻ مجاملة في هذه الحقيقة.
والمﻼحظة الثانية:
أنه ليس من اﻹنصاف أن نتهم إنساناً بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأياً من اﻵراء الفقهية المتشددة، ما دام يعتقد أنه اﻷصوب واﻷرجح، ويرى أنه ملزم به شرعاً، ومحاسب عليه ديناً، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحاً أو ضعيفاً، ﻷنه ليس مسؤوﻻً إﻻّ عما يراه ويعتقده هو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو اﻷفضل واﻷورع، وإن لم يكن فرضاً وﻻ واجباً، إذ كانت همته ﻻ تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.
ومن حقائق الحياة، أن الناس يتفاوتون في هذه القضية، فمنهم المتساهل الميسر، ومنهم المتشدد المعسر، وقد كان في الصحابة المترخص كابن عبّاس، والمتشدد كابن عمر رضي الله عنهم.
ويكفي المسلم في هذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدﻻل شرعي سليم؛ فإذا كان هناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه ﻷنه خالف رأيي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء، وﻻ سيما المعاصرين؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرئ في ترجيح رأي على آخر، وخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هو، ﻻ بحياة غيره.
إن جماً غفيراً من علماء السلف والخلف، رأوا أن على المرأة المسلمة أن تستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، فقد اعتبروهما مما استثني في قوله تعالى: ((وﻻ يُبْدين زينتهُنّ إﻻّ ما ظهر مِنْها )) [النور: 31 ]، وأكدوا ذلك بأحاديث ووقائع وآثار.. ورجح ذلك كثيرون من علماء عصرنا، وأنا منهم.
ولكن عدداً آخر من العلماء المرموقين، ذهبوا إلى أن الوجه والكفين عورة يجب سترها، واستدلوا على ذلك بنصوص من القرآن والحديث واﻵثار، وأخذ بقولهم كثيرون من علماء هذا العصر، وخصوصاً في باكستان والهند والسعودية وأقطار الخليج، وأرسلوا نداءاتهم إلى كل فتاة تؤمن بالله وباليوم اﻵخر، أن تلبس النقاب، ليستر وجهها، والقفاز ليستر يديها.
فهل تدمغ بالتطرف فتاة أو سيدة آمنت بهذا المذهب، واعتبرته جزءاً من دينها؟ أو يدمغ به رجل دعا إلى ذلك ابنته أو زوجته فاستجابت؟ وهل يحق لنا أن نجبر هذا أو ذاك أو تلك على التنازل عما يعتقده شرع الله، ونلزمه أن يبيع الجنة ويشتري النار إرضاءاً لخاطرنا، وفراراً من تهمة التطرف؟
ومثل ذلك يقال فيمن يتبنى اﻵراء المتشددة في الغناء والموسيقي والرسم والتصوير وغيرها، مما يخالف اجتهادي شخصياً في هذه اﻷمور، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين، ولكنه يتفق مع العديد من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين ومعاصرين.
والواقع أن كثيراً مما ينكر على من نسميهم "المتطرفين " مما قد يعتبر من التشدد والتنطع، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا، تبناه بعض العلماء المعاصرين، ودافعوا عنه ودعوا إليه، فاستجاب لهم من الشباب المخلص من استجاب، رجاء في رحمة الله تعالى وخوفاً من عذابه، وذلك كلبس الثوب (الجلباب ) بدل القميص والبنطلون، وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، واﻻمتناع عن مصافحة النساء، وغيرها.
ومن هنا ﻻ نستطيع أن ننكر على مسلم، أو نتهمه بالتطرف، لمجرد أنه شدد على نفسه، وأخذ من اﻵراء الفقهية بما يراه أرضى لربه، وأسلم لدينه، وأحوط ﻵخرته.
وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك يخالف معتقده. كل ما نملكه أن ندعوه بالحكمة، ونحاوره بالحسنى، ونقنعه بالدليل، عسى أن يدخل فيما نراه أهدى سبيﻼً، وأقوم قيﻼً.
مظاهر التطــــرف
فما التطرف إذن، وما دﻻئله ومظاهره؟
التعصب للرأي وعدم اﻻعتراف بالرأي اﻵخر:
1- إن أولى دﻻئل التطرف: هي التعصب للرأي تعصباً ﻻ يعترف معه لﻶخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جموداً ﻻ يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، وﻻ مقاصد الشرع، وﻻ ظروف العصر، وﻻ يفتح نافذة للحوار مع اﻵخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، واﻷخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهاناً، وأرجح ميزاناً.
ونحن هنا ننكر على صاحب هذا اﻻتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها.
أجل، إنما ننكر عليه حقاً، إذا أنكر اﻵراء المخالفة ووجهات النظر اﻷخرى، وزعم أنه وحده على الحق، ومن عداه على الضﻼل، واتهم من خالفه في الرأي بالجهل واتباع الهوى، ومن خالفه في السلوك بالفسوق والعصيان، كأنه جعل من نفسه نبياً معصوماً، ومن قوله وحياً يوحى! مع أن سلف اﻷمة وخلفها قد أجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كﻼمه ويترك، إﻻّ النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجيب أن من هؤﻻء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أعوص المسائل، وأغمض القضايا، ويفتي فيها بما يلوح له من رأي، وافق فيه أو خالف، ولكنه ﻻ يجيز لعلماء العصر المتخصصين، منفردين أو مجتمعين، أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب إليه.
ومنهم من يخرج بآراء وتفسيرات لدين الله، هي غاية في العجب، ﻻ يبالي أن يشذ فيها عن كافة السابقين والﻼحقين، والمحدثين والمعاصرين، ﻷن رأسه برأس أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن عبَّاس رضي الله عنهم ، فهو رجل وهم رجال! وليته يعدي هذه الرجولة والفحولة إلى غيره من معاصريه، من ﻻ يرى رأيه، وﻻ يتبع نهجه من أهل العلم، بيد أنه ﻻ يتعدى نفسه، وكل الصيد في جوف الفرا!
فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل من عداه، هو الذي نراه من دﻻئل التطرف حقاً، فالمتطرف كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم.. ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقي أن أقود.. ومن واجبك أن تتبع.. رأيي صواب ﻻ يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ ﻻ يحتمل الصواب.. وبهذا ﻻ يمكن أن يلتقي بغيره أبداً، ﻷن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه، وهو ﻻ يعرف الوسط وﻻ يعترف به، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب، ﻻ تقترب من أحدهما إﻻ بمقدار ما تبتعد من اﻵخر.
ويزداد اﻷمر خطورة حين يراد فرض الرأي على اﻵخرين بالعصا الغليظة، والعصا الغليظة هنا قد ﻻ تكون من حديد وﻻ خشب، فهناك اﻻتهام باﻻبتداع أو باﻻستهتار بالدين، أو بالكفر والمروق - والعياذ بالله - فهذا اﻹرهاب الفكري أشد تخويفاً وتهديداً من اﻹرهاب الحسي.
إلزام جمهور النَّاس ، بما لم يلزمهم الله به
2- ومن مظاهر التطرف الديني: التزام التشديد دائماً، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام اﻵخرين به، حيث لم يلزمهم الله به، إذ ﻻ مانع أن يأخذ المرء لنفسه باﻷشد في بعض المسائل، وباﻷثقل في بعض اﻷحوال، تورعاً واحتياطاً، ولكن ﻻ ينبغي أن يكون هذا ديدنه دائماً وفي كل حال، بحيث يحتاج إلى التيسير فيأباه، وتأتيه الرخصة فيرفضها، مع قوله صلى الله عليه وسلم : "يسروا وﻻ تعسروا، وبشروا وﻻ تنفروا " وقوله: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته " وقوله تعالى: ((يُريد الله بِكُم اليُسْر وﻻ يُريدُ بِكُم العُسْر )) [البقرة: 158 ]، و "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إﻻّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما ً".
وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه، ويعمل بالعزائم، ويدع الرخص والتيسيرات في الدين، ولكن الذي ﻻ يقبل منه بحال أن يلزم بذلك جمهور الناس، وإن جلب عليهم الحرج في دينهم،والعنت في دنياهم، مع أن أبرز أوصاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كتب اﻷقدمين، أنه ((يُحِلّ لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويَضعُ عنهم إصرهم واﻷغﻼل التي كانت عليهم )) [اﻷعراف:156 ].
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صﻼة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتفطر أو تتورم قدماه عليه الصﻼة والسﻼم، ولكنه كان أخف الناس صﻼة إذا صلى بالناس، مراعياً ظروفهم وتفاوتهم في اﻻحتمال، وقال: "إذا صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء " [رواه البخاري ].
وعن أبي مسعود اﻷنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، إني ﻷتأخر عن الصﻼة في الفجر مما يطيل بنا فﻼن فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمّ بالنّاس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة ".
وقال لمعاذ لما أطال الصﻼة بالقوم: "أفتَّان أنت يا معاذ؟! وكررها ثﻼثا ً".
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني ﻷدخل في الصﻼة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صﻼتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه " [رواه البخاري ].
ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات كأنها محرمات، والمفروض أﻻّ نلزم الناس إﻻّ بما ألزمهم الله تعالى به جزماً، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه، إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا.
وحسبنا هنا حديث طلحة بن عبيد الله في الصحيح، في قصة ذلك اﻷعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عما عليه من فرائض، فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ، وبصوم رمضان، فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال ﻻ، إﻻّ أن تطوع، فلما أدبر الرجل قال: والله ﻻ أزيد على هذا وﻻ أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق ".
ولطالما قلت: إن بحسبنا من المسلم في هذا العصر أن يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، لنعتبره في صف اﻹسﻼم وأنصاره، ما دام وﻻؤه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن ألمّ ببعض الصغائر من المحرمات، فعنده من الحسنات مثل: الصلوات الخمس، وصﻼة الجمعة، وصيام رمضان وغيرها، ما يكفر عنه هذه الصغائر ((إنّ الحسناتِ يُذْهِبن السيِّئات )) [هود:114]، ((إنْ تجتنبوا كبائِر ما تُنهون عنْه نُكفِّر عنكم سيئاتِكم ونُدخلكم مدخﻼً كريماً )) [النساء:31 ].
فكيف نسقط اعتبار المسلم بمجرد الوقوع فيما اختلف فيه من اﻷمور: أهو حرام أم حﻼل؟ ولم يعلم تحريماً يقيناً من دين الله؟ أو ترك ما اختلف فيه: أهو واجب أم سنة؟ ولم نعلم فرضيته جزماً في شرع الله؟ ومن هنا أنكرت على بعض المتدينين تبنيهم بصفة دائمة ومطلقة لخط التشدد والتزمت، والتزام أشد اﻵراء تضييقاً، وأقربها إلى التعسير، وأبعدها عن السعة والتيسير، ولم يكفهم أن يلتزموا ذلك في أنفسهم، وإن أعنتهم وأحرجهم، بل أرادوا أن يلزموا بذلك سائر الناس، وأي عالم خرج عن هذا الخط، داعياً إلى التيسير، أو مفتياً بما هو أرفق لهم وبما يرفع الحرج عنهم، في ضوء مقاصد الشريعة وأحكامها، وضع عندهم في قفص اﻻتهام!
التشــديد في غير محله
3 - ومما ينكر من التشديد أن يكون في غير مكانه وزمانه، كأن يكون في غير دار اﻹسﻼم وبﻼده اﻷصلية، أو مع قوم حديثي عهد بإسﻼم، أو حديثي عهد بتوبة.
فهؤﻻء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية، واﻷمور الخﻼفية، والتركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات، واﻷصول قبل الفروع، وتصحيح عقائدهم أوﻻً، فإذا اطمأن إليها دعاهم إلى أركان اﻹسﻼم، ثم إلى شعب اﻹيمان، ثم إلى مقامات اﻹحسان.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له:
إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن ﻻ إله إﻻ الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افتر عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم... (الحديث متفق عليه ).
فانظر كيف أمره أن يتدرج في دعوتهم، فيبدأ باﻷساس، وهو الشهادتان: الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم إذا استجابوا دعاهم إلى الركن الثاني، وهو الصﻼة، فإن أطاعوا انتقل إلى الركن الثالث، وهو الزكاة... وهكذا.
ولقد راعني أن وجدت بعض الشباب المخلصين من بعض الجماعات اﻹسﻼمية في أمريكا، قد أثاروا جدﻻً عنيفاً في أحد المراكز اﻹسﻼمية، ﻷن المسلمين يجلسون على الكراسي في محاضرات السبت واﻷحد، وﻻ يجلسون على الحصير أو السجاد كما يجلس أهل المساجد، وﻷنهم ﻻ يتجهون في جلوسهم إلى القبلة، كما هو أدب المسلم، وأنهم يلبسون البنطلونات ﻻ الجﻼليب البيض، ويأكلون على المناضد ﻻ على اﻷرض... الخ.
وقد غاظني هذا النوع من التفكير والسلوك في قلب أمريكا الشمالية، وقلت لهم: أولى بكم في هذا المجتمع الﻼهث وراء المادة، أن تجعلوا أكبر همكم الدعوة إلى توحيد الله تعالى وعبادته، والتذكير بالدار اﻵخرة، وبالقيم الدينية العليا، وتحذِّروا من الموبقات التي غرقت فيها المجتمعات المتقدمة مادياً في عصرنا، أما اﻵداب والمكمﻼت التحسينية في الدين، فمكانها وزمانها بعد تمكين الضروريات واﻷساسيات وتثبيتها.
وفي مركز إسﻼمي آخر، وجدتهم أقاموا الدنيا وأقعدوها من أجل عرض فيلم تاريخي أو تعليمي في المسجد، وقالوا: قد حوّلوا المسجد إلى سينما! ونسي هؤﻻء أن المسجد وضع لمصلحة المسلمين الدينية والدنيوية، وقد كان في عهد النبوة دار الدعوة ومركز الدولة، ومحور النشاط في المجتمع، وﻻ يجهل أحد ما رواه البخاري وغيره من إذن النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في قلب مسجده الشريف، وسماحه لعائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم وهم يلعبون.
الغلظــــة والخشــــونة
4 - ومن مظاهر التطرف: الغلظة في التعامل، والخشونة في اﻷسلوب، والفظاظة في الدعوة، خﻼفاً لهداية الله تعالى، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالله تعالى يأمرنا أن ندعو إلى الله بالحكمة ﻻ بالحماقة،وبالموعظة الحسنة، ﻻ بالعبارة الخشنة، وأن نجادل بالتي هي أحسن ((ادْع إلى سبيلِ ربِّك بالحكمة والموعِظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) [النحل:125 ].
ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لقدْ جاءكُمْ رسولٌ منْ أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمِنين رؤوفٌ رحيم )) [التوبة:128 ].
وخاطب رسوله مبيناً عﻼقته بأصحابه: ((فَبِما رحمةٍ مِنَ الله لِنْت لهمْ ولوْ كُنْت فظًّا غلِيظ القلْبِ ﻻنْفضُّوا مِنْ حولك )) [آل عمران: 159 ].
ولم يذكر القرآن الغلظة والشدة إﻻّ في موضعين:
1- في قلب المعركة ومواجهة اﻷعداء، حيث توجب العسكرية الناجحة، الصﻼبة عند اللقاء، وعزل مشاعر اللين حتى تضع الحرب أوزارها، وفي هذا يقول تعالى: ((قاتِلوا الذين يَلونكم مِن الكُفَّار ولْيجدوا فيكم غِلظة ً)) [التوبة:123 ].
2- والثاني في تنفيذ العقوبات الشرعية على مستحقيها، حيث ﻻ مجال لعواطف الرحمة في إقامة حدود الله في أرضه: ((وﻻ تأخُذكم بِهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم اﻵخر )) [النور:2 ].
أما في مجال الدعوة، فﻼ مكان للعنف والخشونة، وفي الحديث الصحيح: "إن الله يحب الرفق في اﻷمر كله "، وفي اﻷثر: "من أمر بمعروف، فليكن أمره بمعروف "، وقال صلى الله عليه وسلم : "ما دخل الرفق في شيء إﻻّ زانه، وﻻ دخل العنف في شيءٍ إﻻّ شانه ".
وﻻ شيء يشينه العنف إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنها تحاول أن تدخل إلى أعماق اﻹنسان، لتجعل منه شخصاً ربانياً في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدل كيانه كله وتنشئ منه خلقاً آخر، فكراً وشعوراً وإرادة، كما أنها تهز كيان الجماعة هزاً، لتغير عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخﻼقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة. .
وهذا كله ﻻ يمكن أن يتم إﻻّ بالحكمة وحسن التأتي لﻸمور، والمعرفة بطبيعة اﻹنسان وعناده، وجموده على القديم، وأنه أكثر شيء جدﻻً، فﻼبد من الترفق في الدخول إلى عقله، والتسلل إلى قلبه، حتى نلين من شدته، ونكفكف من جموده، ونطامن من كبريائه.
وهذا ما قصه علينا القرآن من مسالك اﻷنبياء والدعاة إلى الله من المؤمنين الصادقين، كما نرى في دعوة إبراهيم ﻷبيه وقومه، ودعوة شعيب لقومه، ودعوة موسى لفرعون، ودعوة مؤمن آل فرعون، ومؤمن سورة ((يس )) وغيرهم من دعاة الحق والخير.
انظر إلى مؤمن آل فرعون كيف وقف يخاطب فرعون ومن معه، إنه يشعرهم بأنهم قومه، وأنه واحد منهم، يهمه أمرهم، ويعنيه أن يبقى لهم ملكهم، ويدوم لهم مجدهم، فهو يخاطبهم بهذه الروح: ((يا قَومِ لكم المُلك اليوم ظاهِرين في اﻷرض فمن ينْصرنا مِن بأس الله إن جاءَنا )) [غافر:29 ].
ثم يخوفهم مما أصاب اﻷمم من قبلهم حين أعرضوا عن دعوة الله تعالى وطاعة رسله: ((يا قومِ إنِّي أخاف عليكم مِثل يوم اﻷحزاب مِثل داب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين مِن بعدهم وما الله يُريد ظُلماً للعباد )) [غافر:30-31 ]
وبعد أن يخوفهم من عذاب الدنيا يثير فيهم الخوف من عذاب اﻵخرة التي يؤمنون بها بصورة من الصور: ((ويا قَومِ إنِّي أخاف عليكم يوم التناد يوم تُولّون مُدبِرين ما لكم مِن الله من عاصمٍ ومن يُضلِل الله فما له من هاد ٍ)) [غافر:32-33 ].
ويستمر هذا المؤمن المخلص في دعوته لقومه بهذا اﻷسلوب الذي يفيض رقة وحنواً، مرهباً حيناً، ومرغباً حيناً آخر: ((يا قوم اتّبِعون أهدكم سبيل الرشاد، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإنّ اﻵخرة هي دار القرار.... ويا قوم مالِي أدعوكم إلى النجاةِ وتدعونني إلى النار، تدعونني ﻷكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علمٌ وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفَّار )) [غافر:38-42 ]، إلى أن يقول لهم في ختام وصيته: ((فستذْكرون ما أقول لكُم وأفوِّض أمري إلى الله إنّ الله بصيرٌ بالعباد )) [غافر:44 ].
هذا هو اﻷسلوب الذي ينبغي ﻷصحاب الدعوات أن يتبعوه في دعوتهم للمعاندين، ومخاطبتهم للمخالفين، وحسبنا وصية الله تعالى للرسولين الكريمين موسى وهارون: ((اذهبا إلى فِرعون إنَّه طغى فقوﻻ له قوﻻً ليِّناً لعلّه يتذكّرُ أو يخشى )) [طه:43-44 ].
ولهذا لما واجه موسى فرعون عرض عليه الدعوة في هذه الصورة الرقيقة: ((هلْ لك إلى أن تزكّى وأهدِيك إلى ربِّك فتخْشى )) [النازعات:18-19 ].
وﻻ غرو أن أنكر الدعاة الوعاة على بعض الشباب المخلصين الطريقة التي يتعاملون بها مع الناس في السلوك، أو يتحاورون بها مع المخالفين في الفكر، فقد غلب عليها المخاطبة بالخشونة والشدة، والمواجهة بالغلظة والحدة، ولم يعد جدالهم لمعارضيهم بالتي هي أحسن، بل بالتي هي أخشن، ولم يفرقوا في ذلك بين الكبير والصغير.. ولم يميزوا بين من له حرمة خاصة كاﻷب واﻷم، ومن ليس كذلك.. وﻻ بين من له حق التوقير والتكريم كالعالم الفقيه، والمعلم المربي، ومن ليس كذلك، وﻻ بين من له سابقة في الدعوة والجهاد، ومن ﻻ سابقة له.. ولم يفصلوا بين من له عذره إلى حد ما -كالعوام واﻷميين والمخدوعين - من الجماهير المشغولة بمعاشها ومتاعبها اليومية، ومن ﻻ عذر له، ممن يقاوم اﻹسﻼم عن حقد، أو عمالة وخيانة، ويقتحم النار على بصيرة، وقديماً فرّق أئمة الحديث رضي الله عنهم بين عوام المبتدعين ممّن ﻻ يدعو إلى بدعته، وبين من نصب نفسه داعية للبدعة مروِّجاً لها، مناضﻼً عنها، فقبلوا رواية اﻷول، وردوا رواية اﻵخر.
ســـــوء الظــن بالنـــاس
5 - ومن مظاهر التطرف ولوازمه: سوء الظن باﻵخرين، والنظر إليهم من خﻼل منظار أسود، يخفي حسناتهم، على حين يضخم سيئاتهم. اﻷصل عند المتطرف هو اﻻتهام، واﻷصل في اﻻتهام اﻹدانة، خﻼفاً لما تقرره الشرائع والقوانين: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
تجد الغﻼة دائماً يسارعون إلى سوء الظن واﻻتهام ﻷدنى سبب، قفﻼ يلتمسون المعاذير لﻶخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتقممون اﻷخطاء، ليضربوا بها الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفراً!!
وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، خﻼفاً لما أثر عن علماء اﻷمة من أن اﻷصل حمل حال المسلم على الصﻼح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر اﻹمكان.
وقد كان بعض السلف يقول: إنّي ﻷلتمس ﻷخي المعاذير من عذر إلى سبعين ثم أقول: لعلّ له عذراً آخر ﻻ أعرفه!
من خالف هؤﻻء في رأي أو سلوك - تبعاً لوجهة نظر عنده - اتهم في دينه بالمعصية أو اﻻبتداع أو احتقار السنة، أو ما شاء لهم سوء الظن.
فإذا خالفتهم في سنية حمل العصا، أو اﻷكل على اﻷرض مثﻼً، اتهموك بأنك ﻻ تحترم السنة، أو ﻻ تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأبي هو وأمي! وﻻ يقتصر سوء الظن عند هؤﻻء على العامة، بل يتعدى إلى الخاصة، وخاصة الخاصة، فﻼ يكاد ينجو فقيه أو داعية أو مفكر إﻻ مسّه شواظ من اتهام هؤﻻء.
فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون بالدين.
وإذا عرض داعية اﻹسﻼم عرضاً يﻼئم ذوق العصر، متكلماً بلسان أهل زمانه ليبين لهم، فهو متهم بالهزيمة النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.. وهكذا.
ولم يقف اﻻتهام عند اﻷحياء، بل انتقل إلى اﻷموات الذين ﻻ يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يدعوا شخصية من الشخصيات المرموقة إﻻّ صوبوا إليها سهام اﻻتهام، فهذا ماسوني، وذلك جهمي، وآخر معتزلي.
حتى أئمة المذاهب المتبوعة -على ما لهم من فضل ومكانة لدى اﻷمة في كافة عصورها - لم يسلموا من ألسنتهم ومن سوء ظنهم.
بل إن تاريخ اﻷمة كله - بما فيه من علم وثقافة وحضارة - قد أصابه من هؤﻻء ما أصاب الحاضر وأكثر، فهو عند جماعة تاريخ فتن وصراع على السلطة، وعند آخرين تاريخ جاهلية وكفر، حتى زعم بعضهم أن اﻷمة كلها قد كفرت بعد القرن الرابع الهجري!
وقديماً قال أحد أسﻼف هؤﻻء لسيد البشر صلى الله عليه وسلم بعد قسمة قسمها: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! اعدل يا محمد فإنَّك لم تعدل!
إن ولع هؤﻻء بالهدم ﻻ بالبناء ولع قديم، وغرامهم بانتقاد غيرهم وتزكية أنفسهم شنشنة معروفة، والله تعالى يقول: ((فﻼ تُزكُّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )) [النجم:32 ]. إن آفة هؤﻻء هي: سوء الظن المتغلغل في أعماق نفوسهم، ولو رجعوا إلى القرآن والسنة لوجدوا فيهما ما يغرس في نفس المسلم حسن الظن بعباد الله، فإذا وجد عيباً ستره ليستره الله في الدنيا واﻵخرة، وإذا وجد حسنة أظهرها وأذاعها، وﻻ تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته اﻷخرى، ما يعلم منها وما ﻻ يعلم.
أجل، إن التعاليم اﻹسﻼمية تحذر أشد التحذير من خصلتين:
سوء الظن بالله، وسوء الظن بالناس،والله تعالى يقول: ((يا أيّها الذين آمنوا اجتنِبوا كثيراً مِن الظنِّ إنَّ بعْض الظنِّ إثمٌ )) [الحجرات:12 ]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إيّاكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " [متفق عليه ].
وأصل هذا كله: الغرور بالنفس، واﻻزدراء للغير، ومن هنا كانت أول معصية الله في العالم: معصية إبليس، وأساسها: الغرور والكبر ((أنا خيرٌ مِنه )).
وحسبنا في التحذير من هذا اﻻتجاه، الحديث النبوي الصحيح: إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم. [رواه مسلم ].
جاءت الرواية بفتح الكاف "فهو أهْلكهم " على أنه فعل ماض، أي: كان سبباً في هﻼكهم باستعﻼئه عليهم وسوء ظنه بهم، وتيئيسهم من روح الله تعالى.
وجاءت بضم الكاف أيضاً؟ "فهو أهلكهم " أي أشدهم وأسرعهم هﻼكاً، بغروره وإعجابه بنفسه، واتهامه لهم.
واﻹعجاب بالنفس أحد المهلكات اﻷخﻼقية التي سماها علماؤنا: "معاصي القلوب " التي حذّر منها الحديث النبوي بقوله: "ثﻼث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ".
هذا مع أن المسلم ﻻ يغتر بعمله أبداً، ويخشى أن يكون فيه من الدخل والخلل ما يحول دون قبوله، وهو ﻻ يدري، والقرآن يصف المؤمنين السابقين بالخيرات، فيقول في أوصافهم: ((والذين يُؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ أنّهم إلى ربِّهم راجعون )) [المؤمنون:60 ]، وقد ورد في الحديث، أن هذه اﻵية فيمن عمل الصالحات، ويخاف أﻻّ يقبل الله منه. ومن حكم ابن عطاء: ربما فتح الله لك باب الطاعة ، وما فتح لك باب القبول، وربما قدّر عليك المعصية، فكانت سبباً في الوصول، معصية أورثت ذﻻً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عُجْباً واستكباراً!
وأصل هذا من حكمة لﻺمام علي رضي الله عنه قال: سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك .
وقال ابن مسعود: الهﻼك في اثنتين: العجب والقنوط، وذلك أن السعادة ﻻ تدرك إﻻّ بالسعي والطلب، والمعجب بنفسه ﻻ يسعى ﻷنه قد وصل ، والقانط ﻻ يسعى ﻷنه ﻻ فائدة للسعي في نظره .
الســـقوط في هاويـــة التــكفير
6 ـ ويبلغ هذا التطرف غايته، حين يُسقط عصمة اﻵخرين، ويستبيح دماءهم وأموالهم، وﻻ يرى لهم حرمة وﻻ ذمة، وذلك إنما يكون حين يخوض لجّة التكفير، واتهام جمهور الناس بالخروج من اﻹسﻼم، أو عدم الدخول فيه أصﻼً، كما هي دعوى بعضهم، وهذا يمثل قمة التطرف الذي يجعل صاحبه في واد، وسائر اﻷمة في واد آخر.
وهذا ما وقع فيه الخوارج في فجر اﻹسﻼم، والذين كانوا من أشد الناس تمسكاً بالشعائر التعبدية، صياماً وقياماً وتﻼوة قرآن، ولكنهم أتوا من فساد الفكر، ﻻ من فساد الضمير.
زين لهم سوء عملهم فرأوه حسناً، وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومن ثم وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يحقر أحدكم صﻼته إلى صﻼتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم " ومع هذا قال عنهم: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ووصف صلتهم بالقرآن فقال: "يقرؤون القرآن ﻻ يجاوز تراقيهم " وذكر عﻼمتهم المميزة بأنهم "يقتلون أهل اﻹسﻼم، ويدعون أهل اﻷوثان ".
هذه العﻼمة اﻷخيرة هي التي جعلت أحد العلماء، حين وقع مرّة في يد بعض الخوارج، فسألوه عن هويته، فقال: مشرك مستجير، يريد أن يسمع كﻼم الله .
وهنا قالوا له: حق علينا أن نجيرك، ونبلغك مأمنك، وتلوا قول الله تعالى: ((وإن أحدٌ مِن المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كﻼم الله ثم أبلِغه مأمنه )) [التوبة:6 ]، بهذه الكلمات نجا "مشرك مستجير "، ولو قال لهم: مسلم: لقطعوا رأسه !
وما وقع لطائفة الخوارج قديماً، وقع ﻷخﻼفهم حديثاً، وأعني بهم من سموهم "جماعة التكفير والهجرة ".
فهم يكفرون كل من ارتكب معصية وأصر عليها، ولم يتب منها. وهم يكفرون الحكام، ﻷنهم لم يحكموا بما أنزل الله.
ويكفرون المحكومين، ﻷنهم رضوا بهم، وتابعوهم على الحكم بغير ما أنزل الله.
وهم يكفرون علماء الدين وغيرهم، ﻷنهم لم يكفروا الحكام والمحكومين، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر.
وهم يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم، فلم يقبله، ولم يدخل فيما دخلوا فيه.
ويكفرون كل من قبل فكرهم، ولم يدخل في جماعتهم ويبايع إمامهم.
ومن بايع إمامهم ودخل في جماعتهم، ثم تراءى له - لسبب أو ﻵخر - أن يتركها، فهو مرتد حﻼل الدم.
وكل الجماعات اﻹسﻼمية اﻷخرى إذا بلغتها دعوتهم ولم تحلّ نفسها لتبايع إمامهم فهي كافرة مارقة.
وكل من أخذ بأقوال اﻷئمة، أو باﻹجماع أو القياس أو المصلحة المرسلة أو اﻻستحسان ونحوها، فهو مشرك كافر.
والعصور اﻹسﻼمية بعد القرن الرابع الهجري، كلها عصور كفر وجاهلية، لتقديسها لصنم التقليد المعبود من دون الله! (انظر كتاب "ذكرياتي مع جماعة المسلمين ـ التكفير والهجرة" ـ عبد الرحمن أبو الخير ).
وهكذا أسرف هؤﻻء في التكفير، فكفروا الناس أحياءً وأمواتاً بالجملة، هذا مع أن تكفير المسلم أمر خطير، يترتب عليه حل دمه وماله، والتفريق بينه وبين زوجه وولده، وقطع ما بينه وبين المسلمين ، فﻼ يرث وﻻ يورث و ﻻيوالي، وإذا مات ﻻ يغسل وﻻ يكفن،وﻻ يصلى عليه،وﻻ يدفن في مقابر المسلمين.
ولهذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من اﻻتهام بالكفر، فشدد التحذير، ففي الحديث الصحيح: "من قال ﻷخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " فما لم يكن اﻵخر كافراً بيقين، فسترد التهمة على من قالها، ويبوء بها، وفي هذا خطر جسيم.
وقد صح من حديث أسامة بن زيد: أن من قال: "ﻻ إله إﻻ الله " فقد دخل في اﻹسﻼم وعَصَمَتْ دمَهُ ومَالَهُ، وإن قالها خوفاً أو تعوذاً من السيف، فحسابه على الله، ولنا الظاهر، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم غاية اﻹنكار على أسامة حين قتل الرجل في المعركة بعد أن نطق بالشهادة، وقال: قتلته بعد أن قال: ﻻ إله إﻻّ الله؟ قال: إنما قالها تعوذاً من السيف؟ قال: هﻼّ شققت قلبه؟ ما تصنع بـ "ﻻ إله إﻻّ الله "؟!! قال أسامة: فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ فقط ".
ومن دخل اﻹسﻼم بيقين ﻻ يجوز إخراجه منه إﻻّ بيقين مثله، فاليقين ﻻ يزول بالشك، والمعاصي ﻻ تخرج المسلم من اﻹسﻼم، حتى الكبائر منها. كالقتل، والزنى، وشرب الخمر. ما لم يستخف بحكم الله فيها، أو يرده ويرفضه.
ولهذا أثبت القرآن اﻷخوة الدينية بين القاتل التعمد وولي المقتول المسلم، بقوله: (فَمَن عُفي له مِن أخيه شيءٌ فاتِّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ )) [البقرة:178 ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن لعن الشارب الذي عوقب في الخمر أكثر من مرة: "ﻻ تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ".
وفاوتت الشريعة بين عقوبة القتل والزنى والسكر، ولو كانت كلها كفراً، لعوقب الجميع عقوبة المرتد.
وكل الشبهات التي استند إليها الغﻼة في التكفير، مردودة بالمحكمات البينات من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو فكر فرغت منه اﻷمة منذ قرون، فجاء هؤﻻء، يجددونه، وهيهات...