السؤال:
قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]. هل السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب هم: (ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات)، أم هم (مقتصد، وسابق بالخيرات فقط)، أم هم (سابق بالخيرات فقط)؟ وشكرًا.

الجواب:
الحمد لله
ظواهر الأدلة الشرعية تقرر أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب هم السابقون بالخيرات، وليسوا المقتصدين أو الظالمين لأنفسهم، وتوضيح ذلك فيما يلي:

أولاً:
جاءت بعض الأحاديث النبوية الصريحة تقسم الناس ثلاثة أصناف، فيصف النبي صلى الله عليه وسلم السابقين بالخيرات فقط أنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ} [فاطر:32]، فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فَأُولَئِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَاسَبُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَر، ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ تَلَافَاهُمُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]، إِلَى قَوْلِهِ: {لُغُوبٌ} [فاطر:35]
(رواه الإمام أحمد في (المسند) [36/57] قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة، عن موسى بن عقبة، عن علي بن عبد الله الأزدي، عن أبي الدرداء به).

وهذا إسناد صحيح، رواته ثقات، أولهم شيخ الإمام أحمد إسحاق بن عيسى البغدادي، وكذلك شيخه أنس بن عياض، وإمام المغازي موسى بن عقبة، وكلهم ذكروا في طبقة تلاميذ ومشايخ بعضهم.
وأما علي بن عبد الله الأزدي فهو كذلك ثقة، قال فيه ابن عدي: "لا بأس به عندي" انتهى من (الكامل [6/307])، وذكره ابن حبان في (مشاهير علماء الأمصار ص/152) وقال: "من رهط محمد بن واسع، كان يختم القرآن في رمضان في كل ليلة" انتهى.
"ولما ذكره ابن خلفون في كتاب (الثقات) قال: هو ثقة، قاله أحمد بن صالح وغيره" هكذا جاء في (إكمال تهذيب الكمال [9/357]).
وقال الذهبي رحمه الله: "ما علمت لأحد فيه جرحة، وهو صدوق" انتهى من (ميزان الاعتدال [3/142])
وسماعه من أبي الدرداء محتمل أيضاً، فقد أثبت العلماء سماعه من عبد الله بن عمر ومن أبي هريرة رضي الله عنهما، فليس من المستبعد إثبات سماعه من أبي الدرداء رضي الله عنه أيضًا.

ولذلك قال الهيثمي رحمه الله: "رواه أحمد بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح، وهي هذه إن كان علي بن عبد الله الأزدي سمع من أبي الدرداء، فإنه تابعي" انتهى من (مجمع الزوائد [7/95]).
وقد أعل محققو (المسند) في طبعة مؤسسة الرسالة هذا الحديث بالانقطاع بين علي بن عبد الله الأزدي وأبي الدرداء رضي الله عنه، مستدلين بقول الإمام البخاري رحمه الله في (التاريخ الكبير [19/18]): "وقال محمد بن علي: نا سعيد بن عبد الحميد قال: نا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن علي الأزدي -هكذا في المطبوع، والصواب علي بن عبد الله-، عن أبي خالد البكري، أن رجلاً جاء المدينة فلقي أبا الدرداء نحوه" انتهى.
فجعل بين عبد الله بن علي وأبي الدرداء أبا خالد البكري، غير أن رواية الإمام أحمد رحمه الله التي ظاهرها الاتصال بين علي وأبي الدرداء أثبت، فالراوي عن موسى بن عقبة هناك أنس بن عياض، وهو أثبت من عبدالرحمن بن أبي الزناد الذي في إسناد التاريخ الكبير، فقد قال عنه أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث، وقال أبو حاتم وابن معين: لا يحتج به. انظر: (تهذيب التهذيب [6/172]).
وقد وردت أسانيد أخرى لهذا الحديث فيها شيء من الاضطراب، يمكن مراجعتها في (التاريخ الكبير [9/17-18])، غير أن الإمام الحاكم ذكرها في (المستدرك [2/462]) ثم قال: "وإذا كثرت الروايات في الحديث ظهر أن للحديث أصلاً" انتهى، وكذلك قال البيهقي رحمه الله في (البعث والنشور ص/83)، ونقل العلامة ابن القيم عن طائفة من العلماء أنها: "قد بلغت في الكثرة إلى حد يشد بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض" انتهى من (طريق الهجرتين ص/201).
ثانياً:
الآثار الواردة عن الصحابة في تفسير هذه الآيات تدل على أن السابقين بالخيرات هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال في تفسير الآية: "هم أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ورثهم الله كل كتاب أنزله؛ فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب"
رواه ابن جرير الطبري في (جامع البيان
[20/465]).

وعن أَبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة؛ ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول: ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، وتلا عبد الله هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}" (رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان [20/465]).
ثالثاً:
تقريرات أهل العلم في هذا الموضوع توضح أيضًا أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم السابقون بالخيرات، ننقل منها ما يلي:
يقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: "من حقق التوحيد، يعني أنه لم يشرك بالله شيئاً، ولم يكن عنده شيء من المعاصي، هذا تحقيق التّوحيد، ومن بلغ هذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب.
أما من كان في المرتبة التي قبلها، وهو الموحّد الذي عنده ذنوب، فهذا قد يُغفر له، وقد يعذب بالنار ثم يُخرج منها؛ لأن الموحّدين على ثلاث طبقات كما قال تعالى:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}
الطبقة الأولى: الذين سلموا من الشرك، وقد لا يسلمون من الذنوب التي هي دون الشرك، وهم الظالمون لأنفسهم، وهم معرضون للوعيد.
الطبقة الثانية: المقتصدون الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات، وقد يفعلون بعض المكروهات ويتركون بعض المستحبات، وهم الأبرار.
الطبقة الثالثة: التي سَلِمَت من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع، وتركت المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، واجتهدت في الطاعات من واجبات ومستحبات، وهؤلاء هم السابقون بالخيرات، ومن كان بهذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب" انتهى من (إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد
[1/74-75]).

ويقول الشيخ عبدالله الغنيمان حفظه الله: "الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب هم الذين يفعلون الواجبات ويتركون المحرمات والمكروهات، ويفعلون المستحبات، وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله جل وعلا في أحد أقسام الذين أورثهم الله جل وعلا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله، فهم السابقون بالخيرات بإذن ربهم؛ لأن الله جل وعلا قسمهم ثلاثة أقسام: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله تعالى.
فهؤلاء الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله جل وعلا هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فيسبقون إليها قبل غيرهم، وهذا أيضاً لا يلزم منه أن الذين يحاسبون ولا يسبقون إليها يكونون أقل منهم درجة، فقد يكون الذين يحاسبون منهم من إذا دخل الجنة كان أعلى من السابقين الذين دخلوها بلا حساب، كما إذا كان الإنسان عنده جهاد وعنده أموال، ولكنه ينفق في سبيل الله وينفع عباد الله بأمواله، فهو يحاسب عن ماله: من أين جمعه وفيم أنفقه، ولا بد من المحاسبة، ولكن بعد المحاسبة قد تكون درجته أرفع من درجة الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب" انتهى من (شرح فتح المجيد درس رقم18/ص7 بترقيم الشاملة).
والله أعلم.