بسم الله الرحمن الرحيم
وقبل البدئ في القصة الشهيرة لملك العراق
في المروءة والوفاء , وتأثيرها في أخلاق الملوك
لا بد من أن نمر على هذه التعريفات
اللغوية والإصطلاحية
********
الوفاء
كلمة رقيقة تحمل جملة من المعاني الجميلة :
فالوفاء يعني :: الإخلاص .
والوفاء يعني :: لا غدر ولا خيانة .
والوفاء يعني :: البذل والعطاء .
والوفاء :: تذكّر للود ، ومحافظة على العهد .
وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود فقال سبحانه :

{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }
*******
فالوفاء يعني
البذل والعطاء والتضحية والصبر
وذلك بالاهتمام بمن كنت وفياً به
والحرص عليه ، وعدم التفريط فيه
والخوف عليه من الأذى
ومراعاة شعوره وأحاسيسه
وتقدير جهوده ، والشكر لصنائعه
وعدم إفشاء سره ، والحفاظ على خصوصياته
والعمل على إسعاده ، والثناء الحسن عليه
وذكر محاسنه
وتجاهل أخطائه
والذكرى الجميلة
لعهده وأيامه بعد فراقه
.
******
فليس مع الوفاء ترصُّد ، ولا تصيُّد
ولا إساءة ، ولا ظلم ، ولا نكران
ولا جرح ، ولا قدح
)
د. حسن محمود
********
وكتب
د. هشام الجغبير
في تعريف المروءة
(
المروءة لغة
هي الإنسانية، أي الأمور التي تكمل إنسانيتك بها
*********
الإنسان يشترك مع الحيوان
في أمور كثيرة
كالأكل والشراب والتناسل والغضب والتنازع وغيرها
*****
ويتميز
بالعقل والخلق والتمكين والسمو
والمروءة
من الأمور التي تكمل بها إنسانية الإنسان
ويتميز بها عن غيره من المخلوقات تميزاً كبيراً.
********
ب- المروءة اصطلاحاً:
آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان
على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات
أو هي كمال الرجولية
ونقف في هذا التعريف
عند قول أهل الفن
(هي كمال الرجولة)
******
المروءة كمال الرجولية
فهي خلق تسمو بالإنسان
إلى أن يصل إلى الكمال في رجولته
والكمال غاية البشر جميعاً
وإليها يسعون ظاهراً وباطناً
ولذلك نرى المروءة
خلقاً عاماً عند الناس جميعاً
مع تفاوتهم واختلافهم الشديد في الاهتمام بها
وما يرون أنه من المروءة أو ليس له تعلق بالمروءة
****
وانفرد العرب باهتمامهم الشديد بالمروءة
حتى صارت من أخلاقهم التي يقيسون بها الرجال وعقولهم
ولذا فقد امتلأ تراثهم بالقصص الكثيرة التي تدل
على اهتمامهم بهذا الخلق العظيم.
**********
*)
قال الله تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
******
(
وَبِعَهْدِ اللَّهِ
أَوْفُوا
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(152)
)
*****
حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ
مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا
إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ قَالَ فَأَخَذَنَا
كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا
فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ , مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ
فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ
لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ
فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ
فَقَالَ انْصَرِفَا
نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ
وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ
***
(
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
)
بغير كنهه : أي بغير حق وسبب يوجب القتل.
*****

ملك العراق
النعمان بن المنذر
النعمان كان قد جعل له يومين
يوم بؤس
من صادفه فيه قتله وأرداه
ويوم نعيم
من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه
وكان رجل يدعى الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره
فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليرتاد شيئاً لصبيته وصغاره
فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه
فلما رآه الطائي علم أنه مقتول ، وأن دمه مطلوب
فقال حيا الله الملك إن لي صبية صغاراً، وأهلاً جياعاً
وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم ، وقد
أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس ، وقد قربت
من مقر الصبية والأهل وهم على شفا تلف من الطوى
ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره
فإن رأي الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت
وأوصي بهم أهل المروءة من الحي ، لئلا يهلكوا ضياعاً
ثم أعود إلى الملك وأسلم نفسي لنفاذ أمره
*******
فلما سمع النعمان صورة مقاله
وفهم حقيقة حاله ، ورأى تلهفه على ضياع أطفاله
رقّ له ورثي لحاله
غير أنه قال::
لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا
فإن لم ترجع قتلناه
وكان شريك بن عدي ابن شرحبيل نديم النعمان معه
فالتفت الطائي إلى شريك وقال له ::


يا شريك بن عدي ما من الموت انهزام
من الأطفال ضعاف عدموا طعم الطعام
بين الجوع وانتظار وافتقار وسقام
يا أخا كل كريم أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جد لي بضمان والتزام
ولك الله بأني راجع قبل الظلام


فقال شريك بن عدي أصلح الله الملك
عليّ ضمانه، فمر الطائي مسرعاً
وصار النعمان يقول لشريك ::
إن صدر النهار قد ولى، ولم يرجع
وشريك يقول ::
ليس للملك عليّ سبيل حتى يأتي المساء
********
فلما قرب المساء
قال النعمان لشريك قد جاء وقتك
قم فتأهب للقتل
فقال شريك ::
هذا شخص قد لاح مقبلاً
وأرجو أن يكون الطائي
فإن لم يكن فأمر الملك ممتثل
*******
قال فبينما هم كذلك
وإذا بالطائي
قد اشتد عدوه في سيره مسرعاً حتى وصل
فقال خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي
ثم وقف قائماً وقال ::
أيها الملك مر بأمرك
فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه
وقال ::
والله ما رأيت أعجب منكما
أما أنت يا طائي
فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يقول فيه
ولا ذكراً يفتخر به
وأما أنت يا شريك
فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء
فلا أكون الأم الثلاثة
ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس
ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي
وكرم شريك
********
فقال الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي
فعددت قولهمو من الأضلال
إني امرؤ مني الوفاء سجية
وفعال كل مهذب مفضال


فقال له النعمان:
ما حملك على الوفاء
وفيه إتلاف نفسك
فقال ديني
فمن لا وفاء فيه لا دين له.


فأحسن إليه النعمان، ووصله بما أغناه مكرماً إلى أهله
وأناله ما تمناه