قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} [الحجر: 28، 29].
الله تبارك وتعالى هو الذي سوَّى النفس كما سوَّى البدن.
فأخبر أنه سوى البدن بقوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8].
وأخبر أنه سوى النفس بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8].
فالله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها.
والإنسان مجموع الروح والبدن كما قال سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: 71، 72].
وباجتماع الروح مع البدن، تصير النفس فاجرة أو تقية، وإلا فالروح بدون البدن لا فجور لها.
وقد أفلح من زكى نفسه بحملها على طاعة الله، وخاب من أهلكها وحملها على معصية الله.
والعبد إنما يزكي نفسه بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، ويدسيها بعد تدسيه الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه حينما أعرض عن ربه.
والله عزَّ وجلَّ هيأ الإنسان لقبول الكمال، بما أعطاه الله من الأهلية والاستعداد، التي جعلها كامنة فيه كون النار في الزناد.
فألهمه ربه ومكنه، وعرفه وأرشده، وأرسل إليه رسله، وأنزل عليه كتبه، لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل، فالنفس قابلة للفجور والتقوى لحكمة الابتلاء.
ثم خص الله سبحانه بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها بطاعة الله فذلك المتقي.
ثم حكم بالشقاء على من دساها، فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور فذلك الشقي.
فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها، وتعليها حتى تصير أشرف شيء، وأكبره وأزكاه وأعلاه.
والمعصية تذل النفس وتصغرها وتحقرها.
فما أصغر النفس مثل معصية الله، وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
والبدن كالقالب بالنسبة للنفس، وهي تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، ويكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها، وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه.
ولهذا يقال لها عند مفارقة البدن: «أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله وَرِضْوَانٍ» أخرجه أحمد وأبو داود
والأرواح جنود مجندة، وأنواع مختلفة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه
وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته.
فالمؤمن والكافر قد يتشابهان كثيراً، وبين روحيهما أعظم التباين، وقلَّ أن ترى بدناً قبيحاً إلا وجدته مركباً على نفس تشاكله، وقل أن ترى آفة في بدن، إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها.
وقل أن ترى شكلاً جميلاً، وصورة حسنة، إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، حسنة مثله.

وإذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزاً بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى.
وأرواح الموتى تتلاقى وتتزاور، وأرواح الأحياء والأموات تتلاقى في النوم، ويكلم بعضها بعضاً، كما تلتقي أرواح الأحياء، وكما تلتقي أرواح الموتى كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} [الزمر: 42].
فالروح جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره جوهر البدن، وهي مخلوقة مدبرة، وأرواح الأحياء والأموات تتلاقى في البرزخ، فتجتمع وتتحدث، فيرسل الله أرواح الأحياء لتستكمل أرزاقها وآجالها، ويمسك أرواح الأموات.
وموت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً فهي لا تموت بهذا الاعتبار.
فالأرواح باقية بعد خلقها ومفارقة أجسادها في نعيم أو عذاب، حتى يردها الله إلى أجسادها عند البعث.
وموت الأنبياء أنهم غيبوا عنا حيث لا ندركهم، فهم أحياء في قبورهم، كالملائكة أحياء موجودون ولا نراهم.
وإذا تقرر أنهم أحياء، وكذلك الشهداء، فحياتهم تختلف عن حياتهم في الدنيا، وواهب الحياة وحده، أعلم بكيفية تلك الحياة.
فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق الأنبياء، فالأظهر أنه غشية.
فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأكُونُ أوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ، فَلا أدْرِي: أكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأفَاقَ قَبْلِي، أوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ» متفق عليه (1).
وقد وصف الله النفس بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع والصعود إلى السماء كما قال سبحانه: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30].
والروح تعاد إلى الميت في قبره وقت سؤال الملكين له في القبر.
من ربك؟، ما دينك؟، من نبيك؟.
والروح تتعلق بالبدن، وإن بلي وتمزق، ولكنها لا تستقر فيه.
وسر ذلك أن الروح لها مع البدن خمسة أحوال:
أحدها: تعلقها بالجنين في بطن أمه.
الثاني: تعلقها بالبدن بعد خروجه إلى الأرض.
الثالث: تعلقها بالبدن في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً، بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، فترد إليه عند السؤال في القبر، ووقت سلام المسلم عليه، وهذا الرد لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
الخامس: تعلقها به يوم القيامة، وهو أكمل أنواع تعلقها، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الأنبياء في السموات، ورأى موسى - صلى الله عليه وسلم - يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ورأى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وقبورهم وأبدانهم في الأرض، ولا تنافي في ذلك.
فإن الروح كانت هناك في السماء، ولها اتصال بالبدن في القبر، وإشراف عليه، وتعلق به، بحيث يصلي في قبره، ويرد السلام، وهي في الرفيق الأعلى، ولا تنافي بين الأمرين. إن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، فصعودها ونزولها وحركتها أخف من حركة البدن وأسرع.
والنعيم والعذاب في القبر على البدن والروح معاً، تنعم الروح وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن.
وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رماداً، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب أو النعيم ما يصل إلى المقبور.
فإن قيل، وقد قيل، وما قيل إلا بسبب الجهل بالله ودينه وشرعه .. عذاب القبر ونعيمه .. وسعته وضيقه .. وكونه حفرة من حفر النار .. أو روضة من رياض الجنة، قد كشفنا القبر وما رأينا ذلك؟.
ولا رأينا الملائكة التي تعذب الكفار؟.
ووجدنا القبر كما حفرناه وقبرناه لم يزد ولم ينقص؟.
وكيف يسع القبر الميت مع من يعذبه أو يؤنسه أو يسأله؟.
ونرى المصلوب على خشبة لا يتحرك ولا يسأل ولا يجيب؟.
وكذلك من أكلته السباع، ومن احترق، ومن تفرقت أجزاؤه؟.
وكيف يسأل من تفرقت أجزاؤه في الرياح والبحار والتراب؟.
فيقال لهؤلاء وأمثالهم: كتاب الله تنزيل من حكيم عليم، والرسل لم تأت بما تحيله العقول، وتقطع باستحالته.
بل ما جاء به الرسل قسمان:
أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر.
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها، كأمور الغيب التي أخبروا بها عن البرزخ، واليوم الآخر كالصراط والميزان، والجنة والنار ونحو ذلك.
ولا يكون خبر الرسل محالاً في العقول أصلاً.
وكل خبر يُظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أمرين: الأول: إما أن يكون الخبر كذباً عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسداً يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، كما قال سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6].
الثاني: أن يُفهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مراده، من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصربه عن مراده مما قصده من الهدى والبيان.
وقد حصل بسبب إهمال ذلك كل بدعة وضلالة ومعصية، مع حسن القصد أو سوء القصد، وما ذاك إلا بسبب سوء الفهم عن الله ورسوله.
والله سبحانه خلق هذا الكون العظيم، وخلق البشر، وشرع لعباده الدين الحق.
وجعل الدور ثلاثاً:
دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار الآخرة.
وجعل سبحانه لكل دار أحكاماً تخصها، وتناسب أحوالها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح.
وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، ولهذا جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه.
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبعاً لها، فالأبدان في الدنيا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها.
والأرواح هناك في القبور ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجري أحكام البرزخ على الأرواح، فتسري إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان، وتسري إلى الأرواح عذاباً أو نعيماً.
وذلك واقع في الدنيا بالنوم، فإن ما يجري على الإنسان في نومه من عذاب أو نعيم، يجري على روحه أصلاً، والبدن تابع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن، فيرى في نومه أنه قد ضرب، فيقوم وأثر الضرب في جسمه.
وذلك أن الحكم لما جرى على الروح، استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت لاسيتقظ وأحس.
فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقام الناس من قبورهم، صار الحكم، والنعيم والعذاب على الأجساد والأرواح معاً ظاهراً بادياً في كل منهما.
والله عزَّ وجلَّ جعل أمر الآخرة، وما كان متصلاً به كالبرزخ غيباً، وحجب ذلك عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته ورحمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم.
فالملائكة تنزل على المحتضر، وتجلس قريباً منه، ويشاهدهم عياناً، وقد يسلمون على المحتضر، وقد يرد عليهم بإشارة أو لفظ.
وكذلك النار التي في القبر ليست من نار الدنيا، والخضرة التي فيه ليست من زرع الدنيا، وإنما ذلك من نار الآخرة وخضرتها، فلا يحس بها الأحياء في هذه الدار، لأنهم محجوبون عنها.
ولو أطلعنا الله على ذلك لزالت حكمة التكليف، ولما تدافن الناس كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْلا أنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر» أخرجه مسلم
ورؤية هذه النار أو الخضرة في القبر كرؤية الملائكة والجن تقع أحياناً لمن شاء الله أن يريه ذلك، كما حصل لبعض الناس.
والله عزَّ وجلَّ قد أحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك.
فجبريل - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل، ويكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يراه ولا يسمعه.
والجن يتحدثون بيننا بالأصوات المرتفعة، ونحن لا نسمعهم ولا نراهم، وقد نسمع كلامهم ولا نراهم، كما إذ دخلوا في بعض الإنس وتكلموا.
فالله رؤوف بالعباد يخلق حوادث ومخلوقات، يصرف عنها أبصار الناس، حكمة منه ورحمة بهم، لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها.
والعبد أضعف بصراً وسمعاً وتحملاً من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر.
وإذا كان العبد يستطيع أن يوسع القبر، ويستره عن الناس، فلا يعلمون منه إلا ما شاء، فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، ويستر ذلك عمن يشاء، ويظهره لمن يشاء؟.
والسر في ذلك كله أن النار والخضرة، والضيق والسعة في القبر ليست من المعهود في هذا العالم، فلا يمكننا إدراكه.
والله سبحانه إنما أشهد بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها، فأما أمر الآخرة، فقد أسبل عليه الغطاء، ليكون الإيمان به والإقرار سبباً لنجاتهم وسعادتهم.
ولا يمتنع على من هو على كل شيء قدير، أن يرد الروح إلى المصلوب والغريق والحريق، ونحن لا نشعر بها.
وكذلك من تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على الذي لا يعجزه شيء، أن يجعل للروح اتصالاً بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، فإنه سبحانه جعل في الجمادات شعوراً، فهي تسبح بحمد ربها، وتسقط الحجارة من خشيته سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].
وعذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة.
وسمي عذاب القبر ونعيمه، وأنه روضة أو حفرة، باعتبار غالب الخلق، وإلا فإن للغريق والحريق والمصلوب، ومن أكلته السباع والطيور، من عذاب القبر ونعيمه ما للمقبور.
ولو عُلق الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح، لأصاب جسده نصيبه من عذاب القبر ونعيمه بقدرة العزيز العليم، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
والله تبارك وتعالى جعل لابن آدم معادين وبعثين: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31].
فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء الأولى في القبر، وهو الحشر الأول.
والبعث الثاني: يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثها من قبورها إلى مستقرها في الجنة أو النار، وهو الحشر الثاني.
فالأول برزخ بين الدنيا والآخرة، يتنعم فيه المطيعون، ويعذب العاصون، من حين موتهم إلى يوم يبعثون، كما قال سبحانه: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون: 100].
والثاني مكان كمال النعيم، وكمال العذاب، في الجنة أو النار.
فجعلهما الله داري جزاء المحسن والمسيء، ولكن توفية الجزاء إنما يكون يوم المعاد الثاني في دار القرار كما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران: 185].
وقال سبحانه عن الكفار: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46].
وقد اقتضت حكمة الله وعدله، وأوجبت أسماؤه الحسنى وكماله، تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، ولما كانت هذه الدار دار تكليف وامتحان لا دار جزاء لم يظهر فيها ذلك جلياً.
وأما البرزخ فأول دار جزاء، وأول منازل الآخرة، فظهر فيه من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضي الحكمة إظهاره.
فإذا كان يوم القيامة الكبرى وفى الله أهل الطاعة وأهل المعصية ما يستحقونه من نعيم الأرواح والأبدان وعذابهما.
فعذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة ونعيمها، وهو مشتق منه، وواصل إلى أهل البرزخ هناك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المؤمن إذا مات وقبر: «فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إلى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ».
وقال في الكافر إذا مات وقبر: «فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إلى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ» أخرجه أحمد وأبو داود
فإذا كان يوم القيامة دخل كل إنسان إلى دار مقامه الأبدي في الجنة أو النار.
فسبحان من له الخلق والأمر، وحكمته منتظمة أكمل انتظام في الدور الثلاث.
أما الأسباب التي يعذب بها أهل القبور:
فإنهم يعذبون على جهلهم بالله .. وإضاعتهم لأمره .. وارتكابهم معاصيه .. فلا يعذب الله روحاً عرفته وأحبته وأطاعته .. ولا بدناً كانت فيه أبداً.
فإن عذاب الدنيا .. وعذاب القبر .. وعذاب الآخرة .. أثر غضب الله وسخطه على من عصاه.
فمن أغضب الله وأسخطه في الدنيا، ومات لم يتب، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب، ومطيع وعاص، وشقي وسعيد.
وسؤال الملكين للميت في قبره عام لكل الناس، المسلم والكافر والمنافق، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويضل الله الظالمين كما قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27].
وهو كذلك عام في هذه الأمة، وما قبلها من الأمم.
وسؤال الملكين لا يشمل الأطفال الذين لا تمييز لهم، فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، لكن قد يراد بعذاب القبر الألم الذي يسري أثره على الطفل فيتألم به، ولذا شرع للمصلي أن يسأل الله أن يقيه ذلك العذاب.
وعذاب القبر نوعان: دائم .. ومنقطع.
فالدائم: هو عذاب الكفار والمنافقين.
والمنقطع: هو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول العذاب عنه، وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج ونحو ذلك.
ومستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة في السماء:
فأرواح السعداء عن يمين آدم في السماء الأولى .. وأرواح الأشقياء عن يساره.
فلا تزال الأرواح هناك حتى يكتمل عدد الأرواح كلها، ثم يعيدها الله إلى الأجساد ثانية.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراء والمعراج: «فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أسْوِدَةٌ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أهْلُ النَّارِ، فَإذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى» متفق عليه
والأرواح البشرية متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت.
فأرواح الأنبياء في أعلى عليين، وهم متفاوتون في منازلهم.
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وهي أرواح بعض الشهداء.
ومنهم من أرواحهم نسمة طائر يعلق في أشجار الجنة.

ومنهم من يكون محبوساً على باب الجنة.
ومنهم من يكون محبوساً في قبره.
ومنه من يكون محبوساً في الأرض، لأن روحه سفلية أرضية.
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني.
ومنها أرواح تسبح في نهرالدم.
فمقر الأرواح مختلف .. أرواح في أعلى عليين .. وأرواح في أسفل سافلين .. كل بحسب عمله.
والأرواح مع كونها في السماء تتصل بفناء القبر وبالبدن منه، وهي أسرع شيء حركة وانتقالاً، وصعوداً وهبوطاً، بعضها مرسل، وبعضها محبوس.
والروح في جسد الإنسان بدار غربة، ولها وطن غيره، فلا تستقر إلا في وطنها، وقد أمرت بمساكنة هذا الوطن الكثيف، وهي تحن إلى وطنها في المحل الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها.
وأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيتها في أعماق البدن، واشتغالها بملاذه، وانقطاعها عن ملاحظة ما خلقت له، وما هيئت له، وعن وطنها ومحلها ومنزل كرامتها.
ولكن سكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب، فإذا صحت من سكرها تحسرت على ما فاتها من كرامة الله.
فالمؤمن في هذه الدار سبي من دار الجنة والنعيم إلى دار التعب والعناء، ثم ضرب عليه الرق فيها، فكيف يلام على حنينه إلى داره التي سبي منها، وفرق بينه وبين ما يحب، وجمع بينه وبين عدوه؟.
فروحه دائماً معلقة بذلك الوطن، وبدنه في الدنيا.
ولهذا كان المؤمن غريباً في هذه الدار، أين حل منها فهو في دار غربة، إلى أن تنقضي ويصير إلى وطنه ومنزله.
والروح نؤمن بوجودها في البدن، ولا نعلم كيفيتها، ولا اختصاص للروح بشيء معين في الجسد، بل هي سارية في الجسد كله، والحياة مشروطة بالروح، فما دامت فيه كانت فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة.
وأرواح الموتى قسمان:
أرواح معذبة .. وأرواح منعمة.
فالأرواح المعذبة في شغل بما هي فيه عن التزاور والتلاقي.
والأرواح المنعمة المرسلة تتلاقى وتتزاور، وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا.
والأرواح مخلوقة مع الأجساد، والملك الموكل بنفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذ مضى على النطفة أربعة أشهر، وذلك أول حدوث الروح فيه.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقال لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأجَلَهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه
والمؤمنون تفتح لأرواحهم عند الموت أبواب السماء .. وتفتح لأجسادهم أبواب الجنة .. وأما الكفار فلا تفتح لأرواحهم أبواب السماء .. ولا تفتح لأجسادهم أبواب الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)} [الأعراف: 40].
وأهل الإيمان والعمل الصالح، لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه، وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين كما قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

وأهل الكفر لما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة، بل أغلقت عنها.
والفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا بالذات، ولكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفساً، فإن العبد كلما نام خرجت منه، فإذا استيقظ رجعت إليه، فإذا مات خرجت خروجاً كلياً، فإذا دفن عادت إليه، فإذا سئل خرجت، فإذا بعث رجعت إليه، ولها اتصال بالبدن في القبر.
فالنفس واحدة ولها ثلاثة أحوال:
فتكون أمارة بالسوء تارة كما قال سبحانه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].
وتكون لوامة تارة كما قال سبحانه: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 2].
وتكون مطمئنة تارة كما قال سبحانه: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} [الفجر: 27، 28].
وأكثر الناس الغالب عليهم الأمارة .. واللوامة أقل منها .. وأما المطمئنة فهي أقل النفوس البشرية عدداً، وأعظمها عند الله قدراً.
والله تبارك وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، ويظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان.
إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة .. وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية .. فإن خرج في هذه الدار .. وإلا ففي كير جهنم .. فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة.
والنفوس البشرية علوية وسفلية .. ومرسلة ومحبوسة .. ولها بعد المفارقة صحة ومرض .. ولذة ونعيم .. وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير.
فهناك الحبس والألم، والعذاب والعقاب، والمرض والحسرة لبعضها .. وهناك اللذة والراحة، والنعيم والطمأنينة، والسعادة والسرور للبعض الآخر.

وما أشبه حالها في هذا البدن، بحال البدن في بطن الأم، وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.
ولكل نفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها:
الأولى: في بطن الأم، حيث الحصر والضيق والظلمات الثلاث.
الثانية: دار الدنيا، وهي التي ينشأ فيها الإنسان، ويكتسب فيها الخير والشر، وأسباب السعادة والشقاوة.
الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة تلك الدار إلى الأولى.
الرابعة: دار القرار، وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها.
والله جل وعلا ينقلها في هذه الدور طبقاً بعد طبق، حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها، وهيئت للعمل الموصل لها إليها.
ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى.
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ أحكام الأرواح عند الموت بقوله سبحانه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة: 83 - 96].
فالناس عند القيامة الصغرى وهي الموت، وعند القيامة الكبرى بعد البعث ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مقرب له الروح والريحان وجنة النعيم.
القسم الثاني: مقتصد من أصحاب اليمين، حكم الله له بالإسلام والسلامة من العذاب، فهو في الجنة.

القسم الثالث: ظالم بتكذيبه وضلاله فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم.
وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال سبحانه: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
وكذلك الروح التي يلقيها الله على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن كما قال سبحانه: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} [غافر: 15].
فالوحي للقلوب بمنزلة الروح للجسد، فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك القلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح.
والقوى التي في البدن تسمى أرواحاً، فيقال الروح الباصر، الروح السامع، الروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودعة في الأبدان، تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت الأبدان.
ويطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو قوة المعرفة بالله، والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذا إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه.
وهي الروح التي يؤيد الله بها أهل طاعته وولايته، ولهذا يقال فلان فيه روح، وفلان ليس فيه روح.
فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح وهكذا.