المصاعب والفتن جزء لا يتجزّأ من طبيعة الحياة، لا يمكن أن ينفكّ عنها، ولن تخلو الحياة أبداً من الشدائد والخطوب، وما الموت والحياة وما بهما من المظاهر والأحداث إلا جزءٌ من الاختبار الأعظم للوجود، قال تعالى: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (تبارك:2).

و لم تزل البلايا والفتن تتنزّل على الناس على قدر اختلاف دينهم: (يبتلى العبد على قدر دينه، ذاك، فإن كان صلب الدين ابتُلي على قدر ذاك، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على قدر ذاك) رواه أحمد، فالبلاء ثوبٌ ارتدته المجتمعات والأمم جميعها، وهو اطّراد يتماشى مع حقيقة الاختبار الذي قدّره الله تعالى على العباد ليرى المُصلح من المُفسد.

على أن هناك حالة أخرى مغايرة لتلك الحالة السُننيّة، حالةٌ تزداد فيها صور البلاء وتتنوّع، وتنهمر على الناس كالمطر، فيكون وقعها شديداً على النفوس، حتى يصل الأمر بالواحد إذا خُيّر بين الحياة –برونقها وجمالها- وبين الممات –على شدّته- أن يختار الممات على البقاء، على نحوٍ لا يتلاءم ما هو مطبوعٌ في الجبلّة من حب الدنيا وكراهية الموت، وهذه قضيّةٌ لابد من التوقّف عندها، وأن نستجلي حقيقتها، ونكشف سرّها، وذلك بإعمال العقل تفكّراً وتدبّراً في علامةٍ من علامات الساعة التي ستكون آخر الزمان.

فلنتجّه إذن إلى كتب السنّة لنجد خبر الصادق المصدوق –صلى الله عليه وسلم-، والذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ونصّه كالآتي: (لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه) متفق عليه.

ويحسن بنا أن نربط الحديث السابق بأحاديث أخرى كي تكتمل الصورة، وهي:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمُسي كافراً، أو يُمسي مؤمناً ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم.

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يأتي على الناس زمانٌ، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) رواه الترمذي وأحمد.

وحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من ورائكم أيامُ الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله). قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أجر خمسين منكم) رواه الترمذي وأبو داود وأحمد.

وحتى نفهم سرّ المفاضلة المعكوسة التي سيجريها الناس بين الحياة والممات آخر الزمان، علينا أن نعقد مقارنةً بين الحال في الماضي والواقع المعاصر: لقد كان الرعيل الأوّل متمسّكاً بالكتاب والسنّة، ملتفّاً حول النبي عليه الصلاة والسلام باعتباره منبعاً للتشريع ومبلّغاً للوحي، وكان الناس يؤمنون بأن الحاكميّة لله في الأمور كلّها، وألاّ فلاح في الدنيا ونجاة في الآخرة إلا من خلال المنهج الربّاني والتشريع الإلهي.

أما في زماننا اليوم، فغربةٌ للدين، وضياعٌ للهويّة، وانقلابٌ للموازين، وتهميشٌ للمنهج الرّباني، ومحاربةٌ للاستقامةٌ، وتزيينٌ للباطل وشرعنةٍ له، وهجماتٌ شرسةٌ بالليل والنهار لإقصاء الدين عن مناحي الحياة، وتأسيسٌ لمفاهيم جديدة تنطلق من ثنايا الحضارة الماديّة المعاصرة، واستغلالٌ للقوّة الإعلاميّة ومؤسساتها العملاقة، في ترسيخ العلمنة ونقد الدين، وظهورٌ لدعاةٍ على أبواب جهنّم يزعمون ألاّ سبيل للتقدّم والازدهار، والنهضة والاستقرار، إلا من خلال القفز على "الموروث المقدّس" والاستقلال عنه، واعتبارها نصوصاً تجاوزها الزمن، وأنّه قد آن الأوان –بزعمهم- أن نفكّر بعيداً عن المنطلقات الدينيّة، واستبدالها بالتفسيرات العصريّة التي تُفرغ النصوص من محتواها.

وهذه الحال من الغربة قد حذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من وقوعها، فقال عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) رواه مسلم.

ومن جملة الفتن المعاصرة: كثرة الشبهات وتعدد وسائل التغذية لها، ومساعدة وسائل الاتصال الحديثة لبروزها وظهورها، ومن ثمّ: وصولها إلى قطاعٍ كبير من الناس، وسعي كثيرٍ من المرتزقة وباسم الدين أن يخالفوا إجماعات العلماء وأصول الشريعة كسباً للمال أو تحقيقاً للشهرة، حتى بات المرء يحار مما تقذفه شرائط الأخبار والإعلانات المبوّبة من فتاوى عجيبة، وآراء غريبة، يندى لها الجبين، ويدهش لها الحكيم، ويحار لها الحليم.

وبعد أن كان المسلك في أمر الشبهات إماتتُها ودفنُها، ما عاد يُجدي ذلك في ظلّ هذا الانتشار الإعلامي، فاضطرّ العلماء اضطراراً إلى الحديث عن أمورٍ كان يسوؤهم إظهارها للعلن نظراً لما تسبّبه من بلبلةٍ للناس، وأصبحت القنوات الإعلاميّة وتحت شعار (مناقشة الآخر) تأتي بالمشكّكين في كلّ أنواع الثوابت الدينيّة بدءاً بوجود الله، ومروراً بقضايا التوحيد والبدعة وغير ذلك من الأمور، ومثل هذا الغزو الفكري غير المعهود زلزل معتقد الكثيرين وأودى بهم إلى الحيرة والضياع.

أما الشهوات فحدّث عنها ولا حرج: ما تركت بلداً إلا ودخلته، ولا جهةً إلا استوطنتها، فهي كالوباء في الهواء، يدخل كلّ بيت، وساعدت التكنولوجيا على الانتشار المذهل لها، وكثرت الشكاية من غلبة الشهوة وعدم القدرة على ردّها، حتى باتت مجاهدة النفس تتطلّب عزيمة وإرادةً أكثر مما كان الحال عليه في السابق، وشتّان بين (طهارة) الماضي (وقذراة) الحاضر، وحار الآباء كيف يحصّنون أبناءهم من أتون الشهوات وكيف يردعون سيولها المتتابعة، ووسائل تأثيرها المدمّرة ، ولسان حال الواحد منهم يقول:

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

ومن فتن هذا الزمان: سياسات التنكيل والإذلال التي تُمارس على من قال لا إله إلا الله، ومحاربة من يسعون إلى إصلاح المجتمعات وتربيتها من قِبَل بعض الديكتاتوريّات المعاصرة –والتي تساقط بعضها في ربيع الثورات-، ناهيك عن الزجّ بأهل الاستقامة في السجون، ومساومتهم بكل الوسائل على ترك رسالتهم الشريفة، وممارسة وسائل التعذيب والقمع من دون قانونٍ يبرّر أو يسمح، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

وينتهي بنا المطاف إلى الحديث عن فتنة إزهاق النفوس المحرّمة وسفك الدماء المعصومة، تارةً باسم الدين، ومن منطلق الغلوّ والتطرّف، ومفارقة الجماعة المسلمة، وأحياناً باسم شعاراتٍ أرضيّة، كالقوميّة والوطنيّة، ومحاربة الإرهاب، ومقاومة المحتلّ، وكانت النتيجة: قتل الأنفس بغير حق، واستحلال الحرمات، وإشاعة الذعر في المجتمعات، والإخلال بالأمن والاستقرار، والأفعال الطائشة التي تنتهي بالخراب والدمار، تبعاً لهذه الأفكار المضلّلة، والمباديء المنحرفة، والأفهام المعوجّة، والآراء الشاذّة.

ولن تقف القاطرة عند هذا الحدّ، بل الأشبهُ ومن خلال دراسة الأحاديث النبويّة وفهم دلالات ألفاظها، أن مظاهر الفساد، وأنواع الفتن، وألوان التقلّبات والتغيّرات، ستوغل في البعد عن منهج الله، وستتفاقم صورها على ذات الوتيرة، وهي ثمرةٌ لتقصير المجتمعات في التمسّك بحبل النجاة الموصول بالسماء.

لأجل هذه الفتن وغيرها مما لا يتّسع المقام لذكره، لم يتردّد من جاء ذِكرُه في الحديث الشريف في تفضيل الحياة على الممات؛ فلأن يقبض الله روحه وهو على السلامة في الدين، خيرٌ له من الموت على حالٍ وهو لا يدري كيف تكون نهايته، وبأيّ شيءٍ يُختم له، وهل سيُرزق الثبات على الدين؟

وقد استشرف عبدالله بن مسعود رضي الله عنه هذه الحقيقة، وعبّر عنها بصورةٍ تجسّد ذلك الصراع المرير بين الاستمرار في المقاومة والاصطبار على الحق، وبين مخاوف الفتنة في الدين، فقد أُثر عنه قوله: "سيأتى عليكم زمان، لو وجد فيه أحدكم الموت يباع لاشتراه" ذكره الإمام الداني في كتاب السنن الواردة في الفتن.

وفي تلك الحال من الفتن المتلاطمة كالبحر اللجّي، تكون المحافظة على جوهرة الدين كالقبض على الجمر صعوبةً ومجاهدة، وعلى قدر المشقّة يكون الأجر، فيكافيء الله سبحانه وتعالى الثابتين بمضاعفة الأجر، بحيث يُصبح أجر الواحد منهم بأجر عمل خمسين فرد، ليس منّا، ولكن من الصحابة رضي الله عنهم، وهذه المضاعفة ليس لها نظيرٌ في السنّة، الأمر الذي يدلّ على عظم ثواب العاملين في هذه الأحوال الصعبة.

يقول الإمام القرطبي: "كأن في الحديث إشارةٌ إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحدٍ اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه، وما يتعلق به، ومن ثمّ عظم قدر العبادة أيام الفتنة، كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار مرفوعاً: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)" والمقصود بالهرج: أيّام الفتن واختلاط الأمور.

ولعلّ قائلاً أن يقول: كأنّ في قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (يا ليتني كنت مكانه) يجعل في تمنّي الموت مندوحةً، ومعلومٌ ما ورد في النصوص من ذمّ هذا المسلك، كيف وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به) متفقٌ عليه، ويندفع هذا التعارض بمعرفة الدوافع التي تجعل الناس يتمنّون الموت آخر الزمان، فالظاهر أنه ليس سخطاً على مقدور، ولا قنوطاً من رحمة العزيز الغفور، إنما هو الخوف من الضعف والسقوط في أودية الهلاك، والله سبحانه وتعالى قال في كتابه: { وخلق الإنسان ضعيفا} (النساء:28).

يوضّح الإمام ابن عبدالبرّ ذلك فيقول: " ظن بعض الناس أن هذا الحديث معارض لنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن تمنّي الموت، وليس كما ظن وإنما هذا خبر أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس من فساد الحال في الدين، وضعفه وخوف ذهابه، لا لضرٍّ ينزل بالمؤمن يحطّ خطاياه" وقول الإمام وجيهٌ، ويدلّ على جواز الدعاء بالموت إن كان لمصلحة دينية، وهو خوف الفتنة في دينه، أو شوقاً إلى لقاء الله تعالى، ومما يُستدلّ به تتمّة الحديث الذي ينهى عن تمنّي الموت، وفيه: (فإن كان لا بد فاعلا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي).

ونختم بلطيفةٍ ذكرها الإمام ابن حجر، تتعلّق بالمذكور في حديثأبي هريرة من تمنّي الموت عند القبر، يقول الحافظ: "ويؤخذ من قوله –صلى الله عليه وسلم-: (حتى يمر الرجل بقبر الرجل) أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مراداً بل فيه إشارةٌ إلى قوة هذا التمني، لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمني أو يخفّ عند مشاهدة القبر والمقبور، فيتذكر هول المقام، فيضعف تمنيه، فإذا تمادى على ذلك دلّ على تأكد أمر تلك الشدة عنده، حيث لم يصرفه ما شاهده من وحشة القبر، وتذكر ما فيه من الأهوال، عن استمراره على تمني الموت".

ثم نقول: قد أوصانا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالثبات في مواجهة الفتن، ولا فتنة أعظم من فتنة الدجّال، الذي يُجري الله على يديه من الخوارق ما يزلزل عقائد الناس وثوابتهم، ففي مثل هذه الفتنة جاءت النصيحة النبويّة : (يا عباد الله اثبتوا) رواها الترمذي وابن ماجة، ولن يصلح أمر ديننا ولا دنيانا إلا بالصبر، وهو العامل الأهم على الثبات، نسأل الله أن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.