هل تدبرت سورة الفاتحة التي نقرئها في اليوم 17 مرة
{بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} .
أعظم سورة من سور القرآن الكريم، وهي الفاتحة، التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أم القرآن))؛ حيث قال: ((الحمد لله: أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)) ، وفي لفظ: ((أم القرآن السبع المثاني، والقرآن العظيم)) .


وهي أعظم سورة كما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه -: ((لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ... {الحمد لله رب العالمين})) .
وجاء في فضلها كذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن {بسم الله الرحمن الرحيم} هي آية من آياتها، حيث قال: ((إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا (بسم الله الرحمن الرحيم) إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، و (بسم الله الرحمن الرحيم) إحداها)) .وسميت هذه السورة الجليلة بـ (أم القرآن)؛ لأنها شملت كل أنواع التوحيد الثلاثة: من ((معرفة الذات، والصفات، والأفعال، وإثبات الشرع، والقدر، والمعاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، والتوكل، والتفويض)) ، واشتملت كذلك على ((أنفع الدعاء، وأعظمه، وأحكمه)) ، وهو طلب الهداية التي هي أصل السعادة والفلاح في الدارين.
قول تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}: ((الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقدر فعلا متأخرا مناسبا؛ فإذا قلت: ((باسم الله))، وأنت تريد أن تأكل، تقدر الفعل: ((باسم الله آكل))
قلنا: إنه يجب أن يكون متعلقا بمحذوف؛ لأن الجار والمجرور معمولان؛ ولا بد لكل معمول من عامل. وقدرناه متأخرا لفائدتين:


الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله - عز وجل -.
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركا به، ومستعينا به، إلا باسم الله - عز وجل - ... )) . ((أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى؛ لأن لفظ (اسم) مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء الحسنى)) .
(الله): هذا الاسم الجليل هو أعظم الأسماء الحسنى، وأعلاها، تفرد به تبارك وتعالى، وقد قبض الله تعالى أفئدة الجاهلين، وألسنتهم على التسمي به، من غير مانع، ولا وازع ، فلم يتجاسر أحد على التسمي به.
((فعلم أن اسمه (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله، واسم الله دال على كونه مألوها معبودا، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا)) . وقد ذكر هذا الاسم في القرآن مرة .
ولهذا عد جمع من أهل العلم أنه اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى .
وأصله: من (الإله): ((والإله في لغة العرب: أطلق لمعان أربعة، وهي: المعبود، والملجأ، والمفزوع إليه، والمحبوب حبا عظيما)) .و {الرحمن، الرحيم}: اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة، التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، و {الرحمن}: أشد مبالغة من {الرحيم}؛ لأن بناء فعلان أشد مبالغة من فعيل .
((وقوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}: {الحمد} وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم: الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله، ولا بد من قيد وهو ((المحبة، والتعظيم))؛ قال أهل العلم: لأن مجرد وصفه بالكمال دون محبة، ولا تعظيم: لا يسمى حمدا؛ وإنما يسمى مدحا؛ ... و (أل) في {الحمد} للاستغراق: أي استغراق جميع المحامد.
وقوله تعالى: {لله}: اللام للاختصاص، والاستحقاق)) .
وقوله تعالى: {رب العالمين}: الرب يطلق على: المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تبارك وتعالى .
و {العالمين}: ... هو كل ما سوى الله تعالى، فهو من العالم؛وصفوا بذلك؛ لأنهم علم على خالقهم ـ . والعوالم كثيرة: كعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الطير، وعالم الدواب، وغيرها الكثير ما علمنا منها، وما لم نعلم، وقد ثبت في الحديث القدسي الجليل أن الله تبارك وتعالى يقول: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي ... )) .
وقوله تعالى: {مالك يوم الدين}: الملك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبدادية، النافذ الأمر في ملكه، المتصرف فيه كيف يشاء .
و {الدين}: الجزاء والحساب.
وقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}: جاء في الحديث القدسي السابق الذكر: ((فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) .وقوله: {إياك}: ((مفعول به مقدم، وعامله: {نعبد}؛ وقدم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك)) .
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة، والباطنة، والاستعانة: طلب العون، وهي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار مع اليقين في تحصيل ذلك .
فينبغي للعبد حينما يقرأ هذه الآية أن يستحضر أنه يخص ربه - عز وجل - بالعبادة والاستعانة في كل أموره وأحواله فلا غنى للعبد عن ربه تعالى طرفة عين.
ثم شرع في سؤال أجل المطالب، وأشرف المواهب، وهو سؤال الله تعالى الهداية؛ فإن هذا الطلب أنفع الدعاء، وأعظمه، وأحكمه، وحاجة الناس إليه أعظم من حاجتهم إلى سائر الأدعية، ولهذا أمر به كل مسلم أن يدعو به في كل ركعة من الصلاة، سبع عشرة مرة فرضا، ولم يكن لأي دعاء آخر مثله.

وقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}: الهداية هي الدلالة والإرشاد ، وهي نوعان:

1 - هداية دلالة وإرشاد وعلم، وهذه الدلالة التي يملكها الرسل، والعلماء والدعاة.
2 - هداية دلالة توفيق وعمل، التي لا يملكها إلا رب العزة والجلال، قال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} .
فالعبد حينما يدعو بهذا الدعاء العظيم ينبغي له أن يستحضر هذا المطلب العظيم، وما دل عليه من معان جليلة، فيقول: أي يا ربنا دلنا وأرشدنا، ووفقنا إلى التمسك بصراطك المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، الموصل إلى دارك جنات النعيم، فإن من ثبت عليه في الدنيا، ثبت ((قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط)) .
وقوله: {صراط الذين أنعمت عليهم}: فيه توسل إلى الله تعالى بنعمه، وإحسانه إلى من أنعم الله عليه، وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية، وهذا من التوسلات الجليلة ، التي يحسن بالداعي الاعتناء بها حال دعائه، أي أن الداعي يقول: ((قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك، فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة، واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم، فهو توسل إلى الله بإحسانه ... ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم، أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب: علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء)) .
وقوله: {الذين أنعمت عليهم} هم المذكورون في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}.
وقوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، فقد فسر - صلى الله عليه وسلم - {المغضوب عليهم}، قال: ((هم اليهود))، و {الضالين}، قال: ((النصارى))، ((فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضلال)) .
ويدخل في المغضوب عليهم: ((كل من علم بالحق ولم يعمل به)) .
وكذلك يدخل في الضالين: ((كل من عمل بغير الحق جاهلا به)) .
فقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (( ... فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ،قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)) .
((ويستحب كذلك [التأمين] لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفردا أو إماما أو مأموما، وفي جميع الأحوال؛ لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه .
ومعنى ((آمين)): قال الجوهري: ((معنى آمين: كذلك فليكن، وقال الترمذي: معناه: لا تخيب رجاءنا. وقال الأكثرون: معناه:اللهم استجب لنا)) .
فاحرص يا عبد الله أن تؤمن في دعائك حينما تقرأ هذه السورة العظيمة؛ فإن ((التأمين طلب الإجابة من الرب سبحانه، واستنجازها فهو تأكيد لما تقدم من الدعاء وتكرير له)) .
وأختم بكلام نفيس لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في أهمية تدبر وتأمل ما جاء في هذه السورة الجليلة ((فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله تعالى، وهو أولها إلى قوله: {إياك نعبد}، ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه، وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه، ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه، وأخلص، وحضور قلب تبين له ما أضاع أكثر الناس)) .
ويقول رحمه الله فيما ينبغي للمعلم أن يعلمه: ((ومن أعظم ما تنبهه عليه: التضرع عند الله، والنصيحة، وإحضار القلب في دعاء الفاتحة إذا صلى)) . وإذا أردت يا عبد الله أن تقتطف من ثمار هذه السورة الكريمة، فاستحضر كل كلمة تقرؤها، وما دلت عليه من معنى، وكذلك فاجعل الحديث القدسي السابق الذكر مرآة أمام عينك، واستحضر كلام الرب - عز وجل - بكل يقين إذا ما قلت: {الحمد لله رب العالمين} قال لك الرب - عز وجل -: ((حمدني عبدي))، وهكذا، فإنه سوف يفتح عليك بابا عظيما من لذة القلب، وبرد اليقين، وانشراح الصدر، والسكينة، والطمأنينة، والتوفيق إلى الإحسان، المؤذن للإجابة والقبول.


تضمنت هذه الدعوات المباركات جملا عديدة من الفوائد، منها:
1 - افتقار كل العباد إلى طلب الهداية من الله - جل جلاله -، حتى الأنبياء والرسل.
2 - ((بلاغة القرآن))؛ حيث حذف حرف الجر من ((اهدنا))، والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق)) .
3 - ((إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم الله عليهم؛ لأنها فضل محض من الله تبارك وتعالى)) .
4 - إن سؤال الله تبارك وتعالى الهداية هو أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه.
5 - أنه كلما أكثر الداعي من أنواع التوسل إلى الله تعالى كان أرجى له في قبول دعائه
.6 - جمعت في هذه السورة العظيمة جملا من أنواع التوسل:


أ _ توسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا: (الله، الرب، الرحمن، الرحيم، مالك يوم الدين والهداية إلى الصراط المستقيم).
ب _ وتوسل بالعمل الصالح: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
جـ- توسل إليه تعالى بنعمه وإحسانه: {صراط الذين أنعمت} وهذه الوسيلة الجليلة لا يكاد يرد معها الدعاء.
7 - علم الله تعالى في هذه السورة الكريمة كيفية دعائه وذلك أن يقدم الداعي:
أ-حمده.
ب _ والثناء عليه وتمجيده.
جـ- ذكر أسماء حسنى تناسب المطلوب.
د- توحيده وإخلاص العبودية له.
هـ- التأمين بعد الدعاء. فاجتمع جل شروط الدعاء، وآدابه، ومستحباته بهذه السورة على إيجازها، فحق لها أن تسمى ((أم القرآن)).
8 - تضمنت هذه السورة الجليلة أنواعا من أسماء الله تعالى وصفاته: فمن الأسماء الحسنى: اسم الجلالة ((الله))، و ((الرحمن))،
و ((الرحيم))، وأسماء مضافة: ((رب العالمين))، ((مالك يوم الدين))، ومن الصفات: ((الهداية))، و ((الغضب))، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى ومن أوليائه، وهذا من بلاغة القرآن)) (1). وغضبه تعالى من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته وحكمته.