مع عظم قدر الصلاة، وشرف مقامها بين العبادات، إلا أن الشارع بحكمته جعل للمسلم أوقاتاً نهى عن أداء الصلاة فيها، كالصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، والصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وعند زوال الشمس؛ تخفيفاً على المصلي من السآمة، وحذرا من مشابهة الكفار، وغيرها من الحِكم.



وحين تطالع النصوص في ذلك تجد نصوصاً ظاهرها يوحي بإباحة الصلاة على وجه العموم، حتى ولو كانت في الأوقات المنهي عنها.



أحاديث الأوقات المنهي عن الصلاة فيها:



في الصحيحين عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ».. وفي صحيح مسلم عن عُقبة بنِ عامرٍ قال: «ثلاثُ ساعاتٍ نهانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ نُصلِّيَ فيهنَّ، وأنْ نقبُرَ فيهنَّ موتانا، حين تطلعَ الشمسُ بازغةً حتى ترتفعَ، وحين يقوم قائمُ الظَّهيرة، وحين تضَيفُ الشَّمسُ للغروب حتى تغربَ» .



الأحاديث المبيحة للصلاة ولو كانت في وقت النهي:



ما في صحيح البخاري عن قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).



ومنها: إباحة أداء الصلاة التي نسيها العبد، أو نام عنها؛ بدليل ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن نَامَ عن صلاة أو نسيَهَا فليصلِّها إذا ذكَرَهَا».



ومنها: إباحة أداء ركعتي الطواف؛ بدليل قول النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «يا بَنِي عَبدِ مَنَافٍ، لا تمنعوا أحداً طَافَ بهذا البيتِ وصَلَّى فيه أيَّةَ ساعةٍ شاءَ مِن ليلٍ أو نهارٍ».



ومنها: إباحة إعادة الصلاة لأجل الجماعة، ولو كان في وقت النهي، ويدل على ذلك حديث يزيد بن الأسود قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، قال: عليّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي.



توجيهات العلماء للتعارض بين هذه الأحاديث:



أولا: جمع بعضهم بتخصيص أحاديث النهي بما إذا كان المصلي يتحرى هذه الأوقات للصلاة فيها، وأما من صادفته الصلاة فصلى من غير تقصد لهذه الأوقات بعينها فلا يحرم عليه الصلاة فيها، واستدلوا بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : وهِم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها، وبما رواه البخاري عن ابن عمر أنه قال : أصلي كما رأيت أصحابي يصلون ولا أنهى أحدا يصلي بليل أو نهار ما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها.



ثانيا: أن النهي مخصوص بغير ذوات الأسباب من الصلوات، وأما ما كانت ذات سبب فيجوز أداؤها ولو في أوقات النهي، كتحية المسجد، وصلاة الاستخارة، وصلاة الكسوف وغيرها، واستدلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر.



ثالثا: وذهب آخرون إلى القول بالنسخ، وقالوا بأن أحاديث النهي منسوخة بأحاديث أخرى مثل حديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس)، واستدلوا أيضا بحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم لركعتي الظهر بعد العصر، واستدلوا أيضا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية".




وهذا القول يخالف القاعدة المشهورة التي تدل على أن الجمع بين الأخبار أولى، وأنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع والترجيح كما ذهب إليه جمع من أهل العلم فليس هناك نسخ في أي منهما ولا ينسخ أحدهما الآخر.



وبهذا يتبين أن بعض هذه النصوص عامة وبعضها خاص، ولا تعارض بين العام والخاص؛ إذ يحمل العام على الخاص، فالأحاديث التي تدل على كراهة الصلاة بعد صلاة العصر والفجر عامة، وحديث يزيد بن الأسود في إعادة الجماعة بعد العصر، وحديث علي المتقدم (إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية)، وقضاء سنة الظهر بعد العصر، وسنة الفجر بعده، كلها أحاديث خاصة، وأدلة النهي عامة؛ وعليه فتكون الصلاة منهيًّا عنها، إلا ما خصصته الأحاديث السابقة، والله تعالى أعلى وأعلم.