لم يكن أئمة الحديث الشريف لتهاونوا عند جمع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانوا يتبعون في جمع الأحاديث النبوية الشريفة أشد درجات الحيطة والدقة حتى لا ينقلوا ما ينسب كذبًا إلى الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.

ومن أشد هؤلاء الأئمة وأدقهم كان الإمام البخاري رضي الله عنه صاحب الصحيح الذي وثقه العلماء على مر العصور وصنفوا حوله العديد من المصنفات من شروح وتعليقات وتخريجات وغيرها لمختلف العلماء على مدار ألف عام، وهو ما يعطي الإمام البخاري وصحيحة القبول حتى أصبح صحيح البخاري من الثوابت والمعتمد عند المسلمين.

ويروي لنا علماء الحديث مثالًا على مدى تحري الإمام البخاري لصحة الحديث فذكروا أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذهب مسافراً إلى شيخ من الشيوخ ليسمع منه ويروي عنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل المدينة التي فيها هذا الشيخ وكان لا يعرفه، فلما دخل في أحد شوارعها وجد رجلاً قد هرب منه فرسه وهو يريد أن تلحق به الفرس، ووجد أن هذا الرجل قد رفع ثوبه كأنه يحمل في حجره طعامًا للفرس، فرأى الفرس تلحق بهذا الشيخ، فلما وصل إلى بيته أمسك بالفرس وفتح حجره وإذا به خالياً ليس فيه شيء.

فلما نظر الإمام البخاري إلى هذه الفعلة قال له: أريد فلان بن فلان. فقال له الرجل: وماذا تريد منه؟ قال: لا أريد منه شيئاً سوى أني حدثت أنه يروي عن فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا. وذكر الحديث، فقال هذا الرجل: أنا فلان، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال كذا.

فماذا صنع الإمام البخاري؟ .. رفض الإمام البخاري أن يروي عن هذا الشيخ، وقال: إذا كان الرجل يكذب على بهيمته فأخشى أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد ألزم الإمام البخاري رضي الله عنه نفسه منهجًا في تدوين الحديث، وهو كتابة حديثين في اليوم الواحد، وكان يتوضأ ويصلي ركعتي الاستخارة قبل أن يضعهما في صحيحه المعروف، ولذلك استغرق تأليف صحيحه ست عشرة سنة.

وقد حرص الإمام البخاري على تدوين الصحيح، ولكنه لم يدون كل ما صح عنده، كما قال - في كلمته الشهيرة: "ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح مخافة الطول".