الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال السدي -رحمه الله- في الآية الكريمة: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا) (النحل:92): "هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئًا نقضته بعد إبرامه".
إننا نهدم كل ما بنيناه في أبنائنا من الفضائل والأخلاق حينما نضعهم أمام لهب البرامج المدمرة، والأفكار المنحرفة التي تُعرَض على شاشة التلفزيون، في مرحلةٍ يسعى الأطفال فيها إلى فهم العالم من حولهم، وإدراك بدايات الأخلاق، والمعارف، والقيم باعتبار هذه البرامج والأفكار مصدرًا للمعلومات.
إننا -معاشر الكبار- لا نستطيع أن ننكر تأثيره فينا، مع أن الكبار يشاهدونه بغرض الترفيه والتسلية، وعلى الرغم من أنهم ينتقدون مواده وأفكاره أحيانًا.
ففي واحدة من الدراسات الغربية التي تناولت هذا التأثير، ومن خلال استبانة أُجريت على ألفين من المُشاهدين؛ ترددت بكثافة عبارات مثل: "أحس أنني منوم مغناطيسيًا ومسلوب الإرادة"، "إنه يمتص طاقتي"، "إنه يغسل دماغي"، "أحس بالبلاهة عندما أكون ملتصقًا هناك أمام الشاشة"، "أنه يبعثرني"، "التلفزيون إدمان وأنا مدمن"، "أحس بأولادي مسلوبي الإرادة أثناء التفرج"، "إنه يحكم عقلي"، "إنه يجعل الناس أغبياء"، "إنه يحتل عقلي"، "إنه يجعل العقل كالمهلبية -لا شكل له-"، "كيف يمكنني أن أبعد أبنائي عنه وأعيدهم إلى الحياة الطبيعية "!
هذا، تأثيره على الكبار البالغين الذين يعلمون بأن كثيرًا من مشاهده من: الخدع، والأوهام، والخرافات؛ فما بالنا بالأطفال الأبرياء؟!
مظاهر تأثير التليفزيون الفكري والانفعالي على الأطفال:
أ- على مستوى العقيدة والفكر:
من خلال سيطرة السوق الأمريكية واليابانية على مسلسلات وأفلام الصغار، ينعكس الاعتقاد في قوة الشمس، والطبيعة، والصليب، وغيرها؛ بل إن المسلسل يتضمن أحيانًا أكثر من رب، هذا بالإضافة إلى تشويه مسيرة الإسلام وقيمه من خلال المواد المعروضة.
ب- على مستوى الأخلاق:
1- القيم السلبية: في بحث كتبه "جون كوندري" حول التليفزيون والطفل الأمريكي أكد أن البيئة القيمية للتليفزيون يشوبها الخلل بنفس القدر الذي يشوب البيئة الفكرية، ومن خلال ما تطرحه الإعلانات التلفزيونية كانت قيم: السيطرة، والنفعية، والأناقة، والتميز الاجتماعي من أكثرها ورودًا، وكانت قيم الشجاعة، والتسامح من أقلها ورودًا؛ هذا بالإضافة إلى تحريف الحقائق والقيم حول الجريمة والعقاب.
وفي نهاية البحث يقول جون كوندري: "إن التليفزيون لا يمكن أن يكون مفيدًا كمصدر للمعلومات للأطفال؛ بل إنه يمكن أن يمثل مصدرًا خطرًا للمعلومات؛ فهو يقدم أفكارًا تتسم بالزيف والبعد عن الواقعية، وهو لا يملك نسق قيم متماسكًا، بخلاف تعميقه للنزعة الاستهلاكية، وهو لا يقدم سوى قدر محدود من المعلومات عن الذات، وذلك كله يجعل من التلفزيون أداة رديئة للتكيف الاجتماعي".
2- الجنس: كثير من الأطفال في بداية سن المراهقة أو قبلها بقليل يشاهدون التليفزيون على أنه مصدر للمعلومات حول السلوك الجنسي؛ خاصة عند إحجام الوالدين عن التحدث مع أبنائهم حول أمور الجنس.
إنه يصور الجنس على نحو زائف ومحرف، وعلى وجه حيواني لا يراعي قيمًا، ولا مُثلاً، ولا آدابًا .
3- العنف: أحصت إحدى المجلات الفرنسية مشاهد العنف التي رآها المشاهدون خلال أسبوع واحد من شهر أكتوبر 88، فكانت كالتالي: "670 جريمة قتل، 15 حالة اغتصاب، 848 مشاجرة، 419 حالة تراشق بالرصاص أو انفجار، 14 حالة خطف أو سرقة، 32 حالة احتجاز رهائن، 27 مشهد تعذيب، علمًا أنه لم يؤخذ بالحسبان مشاهد العنف النفسي أو اللفظي أو الإيجابي. والدراسات الغربية كافة تؤكد أن الذين يقومون بالأعمال العدوانية هم من المدمنين على مشاهدة برامج التلفزيون العنيفة.
بل أثبت باحثان أمريكيان أن معدل انتحار المراهقين ازداد بنسبة 13.5% لدى الفتيات و5.2% لدى الصبيان خلال الأيام التي تعقب الإشارة أو الإعلان عن وقوع حالة انتحار في الأخبار المصورة أو في أحد الأفلام.
4- سارق الوقت: هذا عنوان الدراسة التي كتبها "جون كوندري" حول التلفزيون والطفل الأمريكي، ذكر فيها أنه فيما قبل التليفزيون كان أغلب الأطفال يمضون أوقاتهم في ملاحظة الأفراد، يتعلمون المهارات والمواقف الضرورية التي تتناسب مع المجتمع، فيكتسبون معرفة بالعالم الحقيقي الذي يعيشون فيه.
ثم تغير الوضع؛ فأصبح الأطفال يمضون نحو 40 ساعة كل أسبوع في مشاهدة التليفزيون، وعندما نضيف لذلك أربعين ساعة أخرى تأخذها المدرسة؛ فلن يبقى لهم سوى 32 ساعة للتفاعل مع نظرائهم وأسرهم. فكيف يتعلمون الحياة؟!
إذن كيف يتعلم الصغار من الصورة التليفزيونية؟
الأطفال يحبون التليفزيون، وذلك أمر بديهي، فالصورة التي تلتقطها العين تمارس سحرًا هو أبلغ من الكلمة المقروءة أو المسموعة مهما كان المضمون الذي تنطوي عليه الصورة، ومهما كان الطفل صغيرًا.
"إن الطفل -ومنذ سن مبكرة جدًا- قادر على إدراك معنى الصورة والتأثر بها"، وبرهان ذلك هو هذه التجربة التي أنجزها "أندريو ملتزوف" من جامعة واشنطن؛ فلقد وضع أربعين طفلاً لا يتجاوز عمر كل منهم السنة أمام شاحنة تتحرك فيها دمية شخص كبري، فتؤدي بعض الحركات المحددة، ثم أعطى اللعبة المعنية إلى نصف الأطفال ولم يعط الآخرين اللعبة إلا بعد أربع وعشرين ساعة لاحقة، دون أن يشاهدوا الصورة التلفزيونية مرة أخرى في هذه الأثناء، وتبين بالمقارنة مع مجموعات لم تر التليفزيون أن النسبة المئوية للمشاهدين للتلفزيون الذين قلدوا حركات الأنموذج كانت ذات مغزى.
الصغار يتعلمون بلا خيار منهم:
ليس للأطفال خيار عند وجودهم أمام "هذا الصندوق"؛ إلا أن يتجرعوا ما أراد آباؤهم من السموم!
وقد أحصى المركز الدولي للطفولة أربع صور يتعلم بها الطفل من التليفزيون، وهي:
- التقليد: وفيها يتقمص الطفل الشخصية التي يقلد تصرفاتها أو يتبنى آراءها "عملية إرادية".
- التشبع: وفيها يكون التقليد والتمثيل بطريقة غير إرادية.
- تبدد التثبيط: بتشجيع صور تليفزيونية معينة انتقال الطفل إلى مرحلة الفعل.
- تبدد التحسيس: فبالتكييف مع الأحداث العنيفة نتيجة تكرارها، يألفها الطفل بعد ذلك فتصبح عادية.
وبعد،
فيا أيها الآباء والأمهات: هذه تقارير بحوث في أمم لا تؤمن بالله ربًا ولا بالإسلام دينًا، ومع ذلك تستشعر الخطر في هذا الجهاز، فكيف إذا كان الخطر نفسه في أمة تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله؛ خاصة بعد وجود "الدش" و"الكيبل" الذي لم يترك فرقًا بين عربي ولا أعجمي؟!
فكيف يتم لك المرتقى إذا كنت تبني وهم يهدمون؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المقالة من تراث الشيخ فاروق -رحمه الله-؛ أعدنا نشرها لتعم بها الفائدة، وغَنِيٌّ عن الذكر أن "العائلة التليفزيونية" قد انضم إليها مؤخرًا الفضائيات؛ والتي فاق ضررُها ضررَ "التلفزيون الرسمي" عشرات المرات؛ مما يجعل المقالة منطبقة عليها من باب أَوْلَى، كما وُجِدَتْ قنواتٌ إسلامية لم تتعرض لها المقالةُ بطبيعة الحال، وفي الموقع مقالاتٌ وفتاوى أُخَر متعلقة بها