يأتي الزهد في الدنيا نتيجة طبيعية وحتمية للإخلاص عند العلماء؛ فإذا لم يكن العالم مخلصًا في علمه لله تعالى، متجردًا فيه عن إغراءات الدنيا وزخارفها، لن يكون بإمكانه تحقيق خُلق وفضيلة الزهد فيها، وما لم يحقق الزهد فيها فلن يكون علمه خالصًا لوجه الله تعالى.

ضرورة التخلق بالزهد

وأعني فيما أعني هنا، ألا نطلب الدنيا بعلمنا .. وهذه حقيقة يقع فيها الكثيرون، وخاصة وأن أغلب العلوم الآن -وبالأخص العلوم الحياتية- تعد من مصادر الدخل الأساسية للفرد، وقد يكثر المال بسبب التفوق في هذه العلوم، فيفتن به وينسى قضيته، وتتبدل نيته !!


يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" [1].


أمرٌ جد خطير أن نسعى لتحصيل العلم ونتعلم -أيًّا كانت العلوم- من أجل المال، وأخطر منه أن يفتح الله تعالى أبواب الرزق الواسعة على العالم فتنة له، فيقع فيها، فتراه لا يعد يصرف علمه إلا في الوجه الذي يأتي فقط بمال !!


وهذه -وللأسف- حقيقة مشاهدة، ومن دعاة في الدين وعلماء !!

فقد كان أحد من أعرفهم إمامًا في مسجد في دولة غربية، وكان يأخذ راتبًا على هذه الإمامة، ولما انفصم العقد الذي كان بينه وبين إدارة المسجد، وجدته وقد قرَّر أن يظل بالبلد يعمل بأي عمل آخر ولو كان بعيدًا تمامًا عن مجال الدعوة والدين، فالمهم عنده هو الاستمرار في تحصيل المال والثروة.


ورغم أن بيته كان قريبًا من المسجد الذي كان يعمل إمامًا له، إلا أنه لم يعدْ يأتي إلى الصلاة، لقد ذهب الراتب، فذهبت الدعوة، بل وذهبت صلاة الجماعة !!


أما الغريب، فهو أن هذا الشيخ بعينه هو الذي قصَّ عليَّ قبل ذلك -متندرًا أحوال العلماء والدعاة الذين يقومون بمثل ذلك، فحكى لي في أسًى -أن أحدهم- وكان إمامًا أيضًا- إذا جاء يوم إجازة الأسبوع، كان لا ينزل إلى المسجد يُصلِّي، رغم أن بيته فوق المسجد تمامًا !!


وقد مرَّت الأيام، ووقع هو فيما وقع فيه صاحبه، والمؤمن لا يأمن على نفسه الفتنة أبدًا، ونسأل الله الثبات.


ومثل هذه الصورة نراها أيضًا في غير أئمة المساجد، فحين كنت في الأردن وجدت من يشكو إلى أن إحدى الإذاعات طلبت من أحد الدعاة البارزين أن يلقي حديثًا فيها، لتعليم الناس ونشر العلم وغيره، فوافق على أن يُدفع له أولاً مبلغٌ وقدره كذا !!


لقد أُتيحت له الفرصة لنشر العلم، والدعوة إلى الخير، والقيام بمهمة الأنبياء، وتهيأت له الأسباب لتبليغ الجمع الغفير، إلا أنه غلبته الدنيا، فصار يعمل ويُعلِّم لأجلها، ولم يعد بحسبانه نفع الأمة، أو العمل على نهضتها، أو المشاركة في حل أزماتها، فوق أنه أصلاً قد حُرم أجر هذه المهمة؛ كون ما طلبه من مالٍ وأجر لم يكن بمقدورهم !!


الأنبياء والزهد في الدنيا

إننا إزاء هذه الأزمات والفتن لابد أن نعود إلى الأصول، وأن نقف وقفات طويلة أمام القدوات الحقيقية في هذا الشأن، ألا وهم الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، فهم القدوة في الدعوة، وهم القدوة في العلم.


إننا حين نراجع قصصهم في القرآن الكريم، نجد أنهم في دعوتهم وعلمهم دائمًا ما يقرنون ذلك بقولهم: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]. وقولهم: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]. وقولهم: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [هود: 51]. وقولهم: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57]. وقولهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109].


وهذه الآية الأخيرة تكررت في سورة الشعراء على لسان خمسة أنبياء، وهم: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، على الترتيب !!


بل إن الله تعالى قد خص نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].


يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرًا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به، ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة [2].


وعليه فإن ربط العالم علمه، أو ربط دعوته بالمال، فهو ليس على الطريق السويِّ، وأن علمه هذا ودعوته تلك يصبحان وبالاً عليه يوم القيامة.


حقيقة فقهها ابن الهيثم

وقد جاء أن أحد الأمراء قصد ابن الهيثم ليتعلَّم عليه، فخشي أن يضيع وقته معه سدى، فأراد أن يختبر حبه للعلم فطلب منه أن يدفع مائة دينار في كل شهر، فبذل الأمير المال وبعد أن تعلَّم على ابن الهيثم ثلاث سنين وأراد الانصراف، صحبه الأستاذ العظيم مودِّعًا ومعه كل ما أخذه من المال، وكان قد حفظه له فأعطاه إياه، وقال له: "أنت أحوج لهذا المال مني عند عودتك إلى بلادك، وإني قد جرَّبتك بهذه الأجرة، فلمّا علمتُ أنه لا خطر ولا موقع للمال عندك في طلب العلم بذلت مجهودي في تعليمك وإرشادك، واعلم أنه لا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير".
هل لا يمكن الجمع بين العلم والدنيا ؟

وقد يتساءل أحدهم: هل لا يمكن الجمع بين العلم والدنيا ؟ أو بمعنى آخر: هل يظل محكومًا على العلماء بالفقر ؟!

والحقيقة أن هذه القضية ليست معضلة، وهي ليست في حسبان العلماء الحقيقيين بالمرة؛ إذ أنهم يدركون جيدًا أن ما كان من رزقهم فلن يفوتهم، وهم يعلمون أن الرزق يطلب الإنسان كما يطلبه الإنسان تمامًا، فكلاهما يبحث عن الآخر، وهكذا فما قُدِّر لنا من رزق لا يمكن الزيادة عليه، تمامًا كما لا يمكن الانتقاص منه، بعز عزيز أو بذل ذليل.


ومن ثم فإن العالم يطلب العلم ويتعلمه وينشره، وقد يكون ذلك العلم هو مصدر رزقه، فإذا جاءه من وراء ذلك مال وفير، كان ذلك نعمة من الله تعالى تستحق الشكر والامتنان، فضلاً عن تأدية حقه، وإذا جاءه قليل، صبر وحمد الله، واحتسب الأجر عنده، فلا يشغل باله بهذه القضية إطلاقًا.
لكن أن يصرف حياته، ويكرس علمه وعمله لأجل الدنيا وجمع المال، ويكون ذلك مقصده وديدنه، فهذا غير ممكن لمن أراد أن يكون عالمًا ربانيًّا يبغي الأجر عند الله، ويقتفي أثر الأنبياء، قدوته عليهم السلام.


إن الدنيا إذا أصبحت هدفًا، فلا شك أن الفتنة عظيمة ..

والشيطان يوهم الإنسان أحيانًا أنه يجب أن يمتلك الدنيا لينفقها في سبيل الله، فإذا جاءت الدنيا فُتن فيها الإنسان على الأغلب، إلا ما رحم الله وقليل ما هم.


كيف نتعامل مع الدنيا والمال ؟

إننا يجب أن نراجع مناهج سلفنا وعلمائنا لنعرف الطريقة المثلى في التعامل مع قضية الدنيا والمال. فهدف عثمان بن عفان أو أبي بكر الصديق، أو عبد الرحمن بن عوف، أو طلحة بن عبيد الله، أو سعد بن عبادة، أو غيرهم من أغنياء الصحابة رضوان الله عليهم، لم يكن أبدًا جمع المال ثم إنفاقه في سبيل الله، وإنما جاءهم المال بعمل لم يستنزف كل أوقاتهم وغالب حياتهم، فأنفقوه في سبيل الله، وكان منهم من تخلَّى عن ماله وتركه بالكلية من أجل الدعوة والرسالة !!
يقول يونس بن ميسرة: "ليس الزهد بتحريم الحلال وإضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة -إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك" [3].


ثم إنك لا تضمن أبدًا أنه إذا أتتك الدنيا وجاءك المال الوفير ألا تُفتن به، وكيف تضمن أن تراعي فيه حق الله، فضلاً على أن تنفقه كله أو بعضه في سبيل الله ؟!


وما أكثر من وقع في ذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرًا في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا .. " [4].


وفضلاً عن الزهد في الدنيا، فإن على العالم ومن يسلك طريق العلم أن يترفع عن الدنايا، ويتحرز عن الشبهات والمكروهات.


يقول الشافعي رحمه الله:


أَمَــتُّ مطامعي فأرحت نفسي *** فإن النفس ما طَمِعَت تهـون
وأحييتُ القنــوعَ وكان ميتًا *** ففي إحيائه عِرْضٌ مَصـــون

وليس معنى هذا أن ينعزل العلماء عن الدنيا، ويتركوا الاختراع والابتكار الذي يأتي بصورة طبيعية بمال أو ثروة؛ فإننا نُريد سبقًا في العلوم، وامتلاكًا للقدرات العلمية والعسكرية والحضارية التي تكفل لأمتنا مكانة سابقة في العالمين، لكن المقصود هو هدف العلماء وغايتهم: أهو تقدم الأمة ورفعتها، أم هو المال وبريقه ؟!


إن القضية ليست قضية هامشية في حياة العلماء .. فالثروة الحقيقية التي يمتلكها العالِم تكمن في عقله وفي فكره، ولا يجب أبدًا للعالم أن يهبط بثروته هذه إلى سفاسف الدنيا ومغريات العوام .. فليس سهلاً أن تكون قائدًا وقدوة، وليس يسيرًا أن تكون وارثًا للأنبياء !!